و«الشافعي» أيضاً من خيال المؤلف: إنه خالد الجندي!

فلما أحيط بهم من كل جانب، أصدر فريق عمل مسلسل الإمام الشافعي، بياناً ذكروا فيه أن بعض الشخصيات والأحداث من خيال المؤلف. لكنهم مع هذا التواضع، الذي حملوا عليه، لم يذكروا الحقيقة كاملة؛ وهي أن شخصية الإمام نفسها من خيال المؤلف، فهذا ليس هو الشافعي، لكنه قد يكون خالد الجندي، وإذا كان على قدم الملابس، التي تبدو من زمن فات، فإن الجندي يتنوع في ملابسه، بين ما نعرف وما لا نعرف، فيرتدي ملابس الفرنجة تارة، وملابس أهل المغرب تارة، وملابس مجهولة النسب تارة، وملابس الفنان الراحل شكوكو تارة أخرى!

لقد ارتقى القوم مرتقىً صعباً بإقدامهم على انتاج عمل عن الإمام الشافعي، مع خياراتهم، التي تتسم بالخفة، والدراما التاريخية تحتاج إلى جهد متخصصين من علوم شتى، ويكون على المؤلف أن يلم بأبعاد الشخصية، من خلال قراءته هو، ومن خلال المادة الخام التي يعدها الباحثون، ثم يعكف على كتابة العمل. لا سيما إذا كان خاصاً بواحد من الأقدمين، وقد ولد الإمام الشافعي في سنة 150 هجرية!ولو أن مؤلف العمل، قرأ فقط كتاب الإمام محمد أبو زهرة عن الإمام الشافعي، لما وقع في ما وقع فيه من أخطاء، دفعت إلى الإعلان عن أن بعض الشخصيات والأحداث من خياله، وهو ما فعلته أنا، إذ استهوتني مؤلفات الشيخ «أبو زهرة» عن الأئمة وعصرهم وزمانهم، أيام راحة البال، فلما بدأ عرض المسلسل، وأثيرت حوله ضجة، عدت إلى الكتاب، فقرأته قراءة سريعة هذه المرة، لاكتشف حماقة القوم، فأبو زهرة لم يكتب عن فقه الأئمة فقط، ولكنه كتب عن زمانهم، ومعاركهم، والحياة الاجتماعية والفكرية في زمان كل منهم، وهي حياة خصبة وثرية، تغني خيال المؤلف عن الذهاب بعيداً حد افتعال شخصيات وأحداث، ولا يجوز افتعال أحداث في الدراما التاريخية والأصل إنها مقيدة بالأحداث الحقيقية، بيد أن القوم يعيدون اكتشاف «العجلة»، بمعنى الدراجة!

إعادة اكتشاف الدراما

والأزمة الحقيقية، أن السلطة، التي تحكم مصر الآن، توحي، كما لو كانت الحياة قبلها كانت هي والعدم سواء، لذا فإنها تعيد اكتشاف الأشياء وتسميتها، حتى صار الحديث مع الفنانين والفنانات، الذين يشاركون في 25 عملاً في رمضان هذا العام، عن التمثيل ومتاعبهم في أداء الأدوار، وكأنهم يمثلون الآن لأول مرة، وكأن مصر في أول عهد لها مع الدراما!

ولمصر سابقة أعمال في مجال الدراما التاريخية، لم يشكك فيها أحد، وقد أنتج قطاع الإنتاج في الإذاعة والتلفزيون قبل تدميره لصالح مدينة الإنتاج الإعلامي، والتي دمرت لصالح «الشركة المتحدة» بعد انقلاب يوليو/تموز 2013، أنتج مسلسل «الإمام أبو حنيفة»، الذي كتبه مؤلف متخصص في المجال هو د. بهاء الدين إبراهيم، المولود في عام 1933، والمتوفى في سنة 2016، وهو وإن كان يحمل رتبة اللواء في الشرطة، وشغل موقع مساعد وزير الداخلية لشؤون العلاقات العامة في زمن الوزير عبد الحليم موسى، إلا أنه حاصل على درجة الدكتوراه في الآداب، ثم إنه كاتب متخصص في المجال، ومن أعماله الدرامية التاريخية «عصر الأئمة»، و»الشيخ المراغي»، و «إمام الدعاة»، و»ابن حزم»، وغير ذلك من الشخصيات التاريخية. ووجد مسلسل «أبو حنيفة» مخرجاً عملاقاً هو حسام الدين مصطفى، ومثلت فيه فردوس عبد الحميد، وأحمد ماهر، ورشوان توفيق، والموسيقى كانت لجمال سلامة.

وعند المقارنة هنا بين جميع عناصر العمل، وبين الحاصل مع مسلسل الإمام الشافعي، سنكتشف حجم الأزمة، ولأنها سلطة متواضعة في اختياراتها، فكان عليها أن تتواضع كثيراً وتبتعد عن هذه الأعمال التي تحتاج إلى أصحاب القدرات الخاصة، والمواهب الخلاقة، فمالها والدراما الخاصة بالتاريخ، حيث انتقلنا من عصر الأئمة في مجال التمثيل والكتابة، إلى عصر الخفة والفهلوة، عند إعادة اكتشاف الأشياء والمسميات!

اللافت أن بهاء الدين إبراهيم كتب أيضاً مسلسلاً عن الإمام الشافعي، قام بدور الإمام فيه إيمان البحر درويش، وقام بدور الإمام مالك أشرف عبد الغفور، وقد تم عرض العمل في التلفزيون المصري، في رمضان سنة 2007، فما هو الهدف من إعادة انتاج عمل تم انتاجه بقدرات بهاء إبراهيم، وقد راجعه الأزهر الشريف، على العكس من المسلسل الحالي، سيئ الصيت.

اعتماد اللهجة العامية

ولأنها اختيارات المرحلة، ولأن عناصر العمل في التمثيل لا تختلف عن عناصره في الكتابة، فكان اللجوء إلى العامية، ثم ينسب لـ «بصمجي» قيل إنه الباحث التاريخي لمسلسل الشافعي قوله: «إن أهل مصر كانوا يتحدثون القبطية، ولذلك اعتمدنا العامية».

وهو جهل يغني عن أي علم، ذلك لأن العامية ليست فرعاً من فروع اللغة القبطية، ولكنها تمصير للغة العربية، لم يكن حدث في عهد الإمام الشافعي، الذي كان من ضمن دوافعه للقدوم لمصر، وأنشد في هذا شعراً، أن حاكمها قرشي من بني جلدته، وكان يتحرك في المحيط العربي والمسلم، ومن أين له بالعامية المصرية، وهو المولود في بلاد الشام، والذي انتقل بين اليمن، وبلاد الحجاز، وسافر إلى العراق قبل قدومه لمصر؟!

ثمة ملاحظة جديرة بالدراسة، وهي أن اللجوء الى العامية هو اتجاه المرحلة، ويمكن تبين هذا بسهولة من خلال الفيلم الوثائقي عن نصر حامد أبو زيد، الذي أنتجته الشركة المتحدة، وهو امتداد لأفكار البعض من المتأخرين عن ضرورة أن تكون العامية هي لغة الكتابة عند المصريين وهي دعوة ارتبطت بالاستشراق وتبناها يعقوب صروف، وسلامة موسى، ولويس عوض، وغيرهم، مع أنهم كانوا يكتبون ذلك بالفصحى، لكن بدأ التنفيذ في الإعلام الذي موله رجل الأعمال نجيب ساويرس، ومن جريدة «الدستور»، إلى قناة «أون تي في» التي كانت تقدم نشرة أخبار باللهجة العامية.

ولا يمكن اعتبار أن هذه الفكرة بمعناها التآمري قد سيطرت على القائمين على الشركة المتحدة، غاية ما في الأمر أنه استغلال من مجموعة الدستور، لتواضع كفاءة القوم في المتحدة في تمرير هذه الأجندة، ليس ضمن الحرب على الفصحى، ولكن لتمرير خفتهم، وكثير من أبناء الدستور هم من يحيطون بالمتحدة، من بينهم كاتب مسلسل الإمام الشافعي نفسه.

والحديث عن أن العامية هي الامتداد للقبطية، وأن القبطية هي لغة مصرية خالصة هو جهل مطاع، فمعظم حروفها تنتمي لليونانية وكانت تكتب بها!

فالقوم في الشركة المتحدة ليسوا ضمن خطة التآمر على الفصحى، ولكنهم ملعوب بهم لا أكثر، من جانب من يحيطون بهم باعتبارهم منظري المرحلة، وهم ليسوا شركاء ضالعين في المؤامرة على الفصحى، لكنهم يبحثون عن ما يتماشى مع تواضع قدراتهم، بالتسويق لما تعلموه في مرحلة الدستور، وما تعلموه من إعلام نجيب ساويرس، وإذا كانت نشرة الأخبار بالعامية، فلماذا لا تكون الوثائقيات والدراما التاريخية بها؟

الفضيحة

وبعيداً عن لغة الخطاب في مسلسل الشافعي، فعندما يعلن الشاعر السوري حذيفة العرجي أن أبياتاً من قصيدة له تسربت إلى المسلسل لتنطق على لسان الشافعي، على أنه صاحبها، تكون المأساة قد بلغت حد الفضيحة، وشعر الشافعي، ليس متناثراً في بطون كتب التراث، يحتاج لجهد جهيد لاستخراجه، ولكن تم جمعه في كتاب من 600 صفحة، وأبسط شيء أن يطلع المؤلف عن المصدر بنفسه. فهل تم التلاعب به، لاسيما وأن المؤلف يقول إن سوريين عملوا مساعدين له، لم يسمهم كما لم يسم ثلاثة قال إنهم مصريون ساعدوه أيضاً. ولا نعرف أسباب عدم ذكر الأسماء، ومقدمة أي عمل فني تتسع حتى لأسماء من مروا من الشارع أثناء التصوير!والأمر على هذا النحو من الخفة، كان طبيعياً أن تفتعل واقعة، لم يذكر مؤلف العمل مصدرها إلى الآن، وهي استعانة الإمام الشافعي، براهب مسيحي، لعلاج زوجته، ولا معنى للأمر إلا أنها محاولة للتماشى مع روح المرحلة، وعليه فلن يكون غريباً أن نشاهد الشافعي في مسلسلهم يدعو المصريين للتبرع لصندوق «تحيا مصر»! إن الدراما التاريخية، مقيدة بالوقائع والأحداث والشخصيات، والكاتب الكفؤ هو من يبدع خياله في حدود هذه القيود، لأنه عندما يذهب به الخيال إلى اختلاق بعض الوقائع وبعض الشخصيات، ويقدم لنا الشافعي على أنه عضو في حزب مستقبل وطن، فلا معنى لاسم الشافعي، والأجدر بالعمل أن يكون عن خالد الجندي، أو أسامة الأزهري!

لم يفلحوا في شيء ليفلحوا في هذه!

وسوم: العدد 1026