ليلة اكتمال القمر

(الثلاثية الأولى)

1- بطل وبندقية

وقف الملازم الطبيب (جمال عبد القادر) أمام الجريح الأخير ذاهلاً يحاول استرجاع ما سمعه.. أي رجلٍ هذا الذي يتمدد أمامه !

سبحان الله ! حتى الجمجمة لم تسلم من الإصابة، ولكنه لم يمت !

لقد صدق من قال: إن الأجل حصنٌ حصينٌ.. أطال التحديث إليه..

بادله ابتسامة تغالب التعذب.. صحيحٌ أنها بدت لها باهتة، ولكن الرجل لم يئنَّ أو يتوجع مثل الآخرين.. كأنه واحدٌ من أبطال الأساطير الذين قرأ عنهم، أو لعله وهذا الأشد دقة، أسلم أمره لله، فبدا قوياً وهو يتمتم: لا إله إلا الله.

كان صمتهُ أقوى من أي حديث.. أما عندما تلتقي نظراتهما، فإنَّ (جمال عبد القادر) لم يكن يحتمل ما يطلع من عيني الرجل.

خريطتان ارتسمتا فيهما، واحدة لوطنٍ يحارب، والثانية لحوريةٍ لا تشبهها واحدةٌ من نساء الأرض.. وعندما سأله الجريح عن سر ذهوله، لم يقل شيئاً.. سحب نظراته عنه، وأسرع خارجاً من الرَّدهة.

بعد أن أدى التحية، قال:

- أريد الانتقال إلى إحدى الوحدات المحاربة يا سيدي..

وقبل أن ينتظر جواب آمر وحدة الميدان الطبية أضاف:

- ستقول لي يا سيدي: إنَّ مكاني هنا، وإنني طبيب، وإن معالجة الجرحى عملٌ وطني كبير.. أعرف كل هذا، لكنني أريد أكون بطلاً..

لم تكن تلك المرة الأولى التي يسمع فيها آمر الوحدة ما سمعه من الملازم الشاب.. لكنه – وهذا ما جعله يصمت – وجد نفسه في ذلك الصباح أمام شخص آخر غير الذي يعرفه في (جمال عبد القادر)، الرجل الهادئ. كانت الكلمات تتزاحم هي الأخرى بين شفتيه، منفعلة، أكثر منه..

قال آمر الوحدة:

- كنت قد تلقيت الأمر بتجهيز مفرزة طبية تشترك مع الرجال في هجومهم على قمة أرنون، وقد وقع اختياري عليك لتكون المسؤول عن هذه المفرزة. قمة أرنون! سمع الكثير عنها. حتى ذلك الجريح، فقد حدثه عنها: إذا حررناها حكمنا الأرض كلها هناك، قال الجريح وسحب نفساً عميقاً:

- هل هي صعبةٌ لا يمكن الوصول إليها؟

- لا، ولكنها مرتفعة.

فرح لما سمعه من آمر الوحدة، أدى التحية وخرج.. مرَّ بالردهة مثل طائر.. تفحص الوجوه، وعند الجريح الأخير توقف..

كان على استعدادٍ للحديث، لكنَّ الجريح بدا مشرق الوجه. حسبه أن يرى وجه القمر وقد اكتمل، مال فوقه. قبله بحنو، ربما دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن سبب: هل هي قبلات الوداع؟ أم أنه يريد أن يقدم له الشكر الذي يستحقه؟! القمة أمامه، شباب المفرزة من حوله، والعتمة تزحف، هو لا يعرف الطرق إليها، ولكنه سيكون ضمن فوج القوات الخاصة.

لا، سيكون بين أولئك الذين سيتقدمون الصفوف، ذلك كان قراره مع نفسه قبل أن يتفق مع آمر الفوج.. إنها فرصة ليكون بطلاً.. أما جنود المفرزة الطبية، فقد عقدت ألسنتهم المفاجأة، سيفعل شيئاً، كانوا يتهامسون بينهم. عرفوا ذلك من عينيه.. وعندما بدأت حركة الرتل الزاحف إلى قمة أرنون، لم يكن بينهم في سيارة الإسعاف.

لم يبحثوا عنه، بل لم يسألوا أحداً.. ولحظة سألهم ذلك الرائد الشاب إن كان قد تأخر أحد منهم، أجابوا بصوتٍ واحدٍ: لا، فالملازم الطبيب احتل مكانه داخل إحدى السيارات الأمامية..

هبطوا من السيارات، عتمة شديدة تكاد تغيب ملامح الأرض.. سمع أحد الشباب يقول:

- إن الهدف ليس بعيداً..

فرك كفيه ببعضهما.. سيكون ضمن مجموعة الصولة.. قال آخر، فازداد فرحه..

عندما تقدموا مضى بينهم.. سحب جسده من تلك الحفرة التي وجد نفسه فيها، ولحق بالملازم الشاب الذي عرف اسمه... (مثنى حمدان) رأس رمح الفصيل.. في نبرته قوة حقيقة.. قفز إلى ذهنه وجه ذلك الجريح في الردهة.. مرَّ من أمامه مسرعاً، عنيداً، نافذ النظرات، أمطرت المدافع قنابلها.. ربع ساعة ستكون طويلة.. إنهم في المكان الذي يسميه العسكريون خط الصولة.. سيندفعون يسبق بعضهم بعضاً بعد ربع ساعة. لم يحاول أن يقارن بين لياقته ولياقة الآخرين، وقدرته العسكرية وقدرتهم. كل أحاسيسه كانت تحوم حول فكرة البطولة، ولقد اقتنع مع نفسه بأنه سيفعل شيئاً..

مضت عشرة دقائق. بقيت خمس، أربع، ثلاث، اثنتان، واحدة.. شدَّ ساقيه فوق الأرض واندفع. رصاص يسابق الرصاص.. غضبٌ يغالب الغضب.. سبق الآخرين في جريانه.. لا، كان الملازم (مثنى) بموازاته..

ألا أيها الحلم الذي انفجر في صدر هذا الفلسطيني النبيل، ها قد أينعت.. وعندما سأله الملازم (مثنى) عن اسمه، لم يجب.. ظلَّ يمضي عن اسمه، لم يجب. ظلَّ يمضي رافع العنق، لا يشده شيء إلى الخلف، في الأمام مبتغاه، وذلك الذي رآه في الردهة، يطل من أعماق الأساطير، فيعانق المدى المفتوح، وفي اليد بندقية رصاصها مطر.

***

2- إنهم يقتلون جرحاهم

غاب الليل، وطلع النهار.. الجثث القليلة التي حولنا يجب دفنها.. فكرت بالأمر بسرعة.. سوف نرسل شهداءنا إلى بيروت، حيث يمكنهم النوم بارتياح إلى جانب أقرانهم، أما اليهود، وعددهم أربعة، فقد أصدرت الأمر بأن يدفنوا في مكانٍ قريب، حددته بنفسي.

من أحد السفوح القريبة، رأيت قطعة قماش بيضاء، تظهر ثم تختفي. رأيتها بعيني الاثنتين، وأيقنت بعد عدة مرات، أنَّ الأمر حقيقةً. كنت أعرف أنني أمام مغامرة صعبة فيما لو ذهبت إلى هناك، ولكن عندما قلبتُ الأمر مع نفسي، قلت: إنه ليس من المعقول أن تكون جنية البحر قد جاءت لتلاعبني. إنه إنسان، نعم، ولكنني لا أعرف من يكون.

تناولت بندقيتي. حاول بعض شباب المفرزة الذهاب معي، لكنني رفضت. الحكمة تقتضي أن أذهب وحدي، إذ ربما يكون الأمر خدعة لاستدراج أكبر عدد منا إلى مقتل ينتظرنا في المسافة الممتدة بيننا وبين قطعة القماش. سوف أهبط، ثم أعاود الصعود. ليست المسافة طويلة على أية حال.

عندما رآني أنيناً متقطعاً عميقاً. رأيته.. عرفت أنه جريح يهودي، يتلوى وسط بركة من الدم المتخثر.

اقتربت منه، أكثر وأكثر.. ربما لم أشعر بالشفقة على إنسان مثل تلك التي راودتني وأنا أتقدم إليه حذراً.. تناسيت لؤم اليهود، وما قرأته في كتاب شاحاك عن الديانة اليهودية. كنت أعرف أنه سيقتلني لو انقلبت الحال، لكن ديني يفرض علي معاملته بالحسنى.

عندما أصبحت قبالته، حاول القيام والتشبث بي. التلمود يأمر اليهودي بأن يترك الغريق من الآخرين يغرق، بل إنه يحتم عليه أن يقطع يده إذا امتدت لمساعدته، أما ديننا فإنه يحرم علينا فعل ذلك. أحبب للآخرين ما تحبه لنفسك، هكذا قلت، وفي الحقيقة فإن ديني يأمرني بذلك، يا لروعة ديننا، أضفت.

قلبت الأمر، وجدت أنه من العبث محاولة إنقاذه في وضح النهار. حتى إن وصولي إليه، كان مغامرة كبيرة. أرجأت الأمر إلى المساء. أشار إلى فمه ومعدته، فأدركت أنه جائع أيضاً.. بدا لي ضعيفاً واهناً يسيطر عليه اليأس.. اليأس من إنقاذه تسلل إلى أعماقي أيضاً.. أفهمته بإشارة من إصبعي أنني سأذهب وأعود بسرعة. انشرحت أساريره. استدرت وهبطت إلى الأسفل. طاردتني قذائق الهاون. هذا ما كنت أتوقعه. وانهمرت رشقات الرصاص كذلك. لست أعرف كيف نجوت، ولكن الله حفظني.

جهزت وجبةً جيدةً من الطعام، ثم عدت إليه مسرعاً.. وصلت. أطعمته، تصورت أنه لم يذق الطعام منذ أسبوع. بدأت الحياة تسري في عروقه، وعادت إليه الروح. لست أطلب منه أكثر من التفكير بالواقعة التي جمعتنا، لعله يصحو فيكتشف أنَّ عليه الرحيل من بلادنا. كان يراقبني بعينين ذابلتين، تتوسلان أكثر مما تبحثان عن الاطمئنان. لقد اطمأنَّ تماماً، من جهتي، ولكنه كان يرتجف كلما سمع انفجار قنبلة، لعله آنذاك أدرك أننا في خطر، وأن الموت يحاصرنا، رأيته يومئ لي بأن أذهب، وأتركه، سحبته إلى مكان ظننته أميناً، وضعته بين صخرتين متلاصقتين، ثم ابتعدت.

لم يتوقف القصف، ولا انحبست أمطار الرصاص. في المساء، بعد أن غطست الشمس في مياه البحر، وحلت العتمة، تحركت مع اثنين من شباب المفرزة الطبية، ومعنا نقالة، لم يكن من اليسير تجميع أشلائه، لفقد تناثرت ولم يبق من الجثة سوى نصفها العلوي. أجل، فقد مات.

- إنهم يقتلون جرحاهم، قلت وأنا أتابع الشابين اللذين غطيا ما بقي من الجسد بالتراب.

***

3- ليلة اكتمال القمر

ظلَّ واقفاً للحظات يطلق الرصاص ثم هوى. رأيته بعيني عندما هممت بالاندفاع نحوه، انهمر فوقي رصاص غزير. انبطحت من جديد، ورحت أطلق الرصاص ثانية. كنت أراهم يتقدمون. خمسون من اليهود وربما أكثر. لا أعرف العدد بالضبط، أما نحن، فقد كنا عشرة. سنصمد ولن نترك لهم جثة (جمال عبد القادر).

كنت أرى نفسي مسؤولاً أمامه، وضميري الوطني يدفعني إلى عدم التخلي عنه، يضاف إلى ذلك أننا أصبحنا صديقين.

كانوا يواصلون تقدمهم. لا أعرف عدد من سقطوا منهم، ولكنني بدأت أجهز النفس للاشتباك القريب. قد نشتبك بالسلاح الأبيض، ربما، ولكن مثل هذه الاشتباكات لا تخيفنا، فقد اشتبكنا بالحراب في أكثر من معركة.

ألقيت قنبلة يدوية. دوى انفجارها هائلاً يصم الآذان. ألقيت الثانية، فسمعت صيحات متقطعة. اندفعت واندفع الآخرون معي. شيء واحد كان عليّ أن أحققه، يجب تخليص (جمال عبد القادر) من براثنهم.

نصف ساعة من الاشتباك. أكثر.. أقل.. لست أعرف تماماً.. المهم أن الأمر انتهى. ستة منهم ألقوا بنادقهم ورفعوا أيديهم مستسلمين. الآخرون هربوا، بعد أن تركوا وراءهم ثلاث جثث..

(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال: 17)، عشرة هزموا خمسين وأكثر. اندفعت إلى (جمال). كانت عيناه مفتوحتين على اتساعهما. أغمضتهما برفقٍ.. صحيحٌ أن الحديث بيننا انقطع، إلى أنني قلت له:

- لقد أخذنا بثأرك.

كأنني رأيته يبتسم، أو هكذا تخيلت. كانت كفه اليسرى فوق صدره، أو أنها كانت فوق القلب تماماً. لماذا امتدت يدي إلى جيبه، لا أعرف، ولكنني وجدت فيه هويته، وراتبه، ثم..

ها هو يضع في الجيب مصحفاً.. كثيراً ما كنت أراه يخرجه من الجيب ليقرأ .. وكان يرتل آياته بصوتٍ جميلٍ، يملؤنا خشوعاً..

ثم..

ها هي صورة خطيبته التي حدثني كثيراً عنها. سامحني يا (جمال عبد القادر). فالحجاب يمنحها البراءة والطهارة اللتين تعجبانك فيها.

في تلك الليلة اكتمل القمر، واكتملت حياة (جمال عبد القادر)، الذي حملناه فوق الأكتاف صاعدين إلى قمة أرنون، حيث واريناه، ليظل شاهداً على زمن سيمضي. هكذا كانت وصيته.

وسوم: العدد 764