الموت والعطش

أنا (عبد الحق فاضل عبد الحق) الولد الأول بعد ثلاث بنات. كبرت وأمي تحدثني عن شهور حملها بي، التسعة بالتمام والكمال، وعن مزاج أبي الذي تغير نحو الأسوأ، بعد أن ازدادت خشيته من قدوم أنثى رابعة..

- ماذا أفعل بالبنات يا مليحة؟..

- (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (الذرايات: 22).

وكان يجهشُ بالبكاء، مثل امرأة، ولا يوقف نشيجه إلا بعد أن يشعر بالتعب.

- الجنين هادئ يا مليحة.. كان يقولها في حيرةٍ بعد أن يضع أذنه على بطن أمي..

ويظل يلتفت إليها، بعينين تنفتحان على اتساعهما، وترسلان إشارات غامضة، تتدفق منها أسئلة عدة..

- لو لم تكن أنت ذلك القادم يا عبد الحق، فإنه كان سيتركنا ويرحل.

قالتها وسحبت نفساً عميقاً، أو لعله الكابوس الذي جثم فوق صدرها ولم يرتحل إلا بطلعتي البهية.

- كان فرحه بقدومك لا يوصف يا عبد الحق..

- لكن فرحك كان أكبر يا أمي.. قلت مداعباً..

- نعم.

ازداد خوفها، وهي في مخاضها الأخير، القابلة قالت آنذاك:

إن وضعها خطير، وإنها إن بقيت على تلك الحال، فالموت بانتظارها، وقد أموت أنا الآخر كذلك..

- قل للمرأة كلمةً تريحها يا فاضل.

- بعد أن تريحيني يا أم عامر.. ليس الان..

- الله هو الذي يرزق الأزواج البنين أو البنات..

- أعرف .. أعرف..

وكان يستدير ويخرج.. متوتراً، غاضباً، لكنه لم يكن يفارق باب الغرفة.

- ارزقني بالولد يارب العالمين، يا واهب الأرزاق، ليس لي غيرك، أنا عبدتك مليحة بنت خضرة، أسألك بعظمتك أن ترزقني ولداً..

وبعد أن تشعر بالإعياء، تتوجه إلى القابلة:

- ماذا تقولين يا أختي أم عامر؟..

- الله هو الحق يا مليحة..

- وأنا أريد عبد الحق يا أم عامر.. هل هذا كثيرٌ علي؟

- لا يا مليحة، تستحقين عبد الحق وعبد الدائم وعبد القدوس..

- من فمك إلى باب السماء إن شاء الله..

عندما ولدتني أمي، ضجت الدار بفرحة أبي.. كان يندفع من غرفةٍ إلى أخرى، صارخاً:

- جاءني ولد.. جاءني عبد الحق..

ثم اندفع في أزقة القرية، واحداً بعد الآخر، وبيتاً بيتاً، يعطي هؤلاء راحة الحلقوم المحشوة بالفستق، وأولئك يعطيهم المصقول الملون في دقائق كانت البشارة بولادتي قد وصلت إلى كل الناس ..

- لقد رزقني الله بولدٍ جميل، وجهه بهي كالقمر، وعيناه واسعتان سوداوان.

في ذلك اليوم تقاطر الناس من كل الاتجاهات. البيوت كلها قذفت سكانها رجالاً ونساءً، عجائز وصغاراً، وألقتهم أمام دارنا.

أمر والدي بأن تذبح من الخراف عشرة، إيذاناً بافتتاح مهرجان الفرح، الذي استمر سبعة أيامٍ بنهاراتها ولياليها..

سبق أن قلت: أنا عبد الحق فاضل عبد الحق، وقد جئت إلى الدنيا بعد ثلاث بنات، حولن حياة أبي إلى جحيم، أو هكذا كان يتصور دنياه بتعبيرٍ أدق. لم تفارقني يده، وهو يربت على كتفي، وكان يصطحبني معه إلى كل الأمكنة التي يذهب إليها.. جاء أبو عبد الحق، وذهب أبو عبد الحق.. بصراحة، فقد تحرر من ذلك اللقب الذي كان يكرهه، أعني لقب أبي البنات، الذي كان البعض يناديه به تندراً أو استصغاراً، هكذا كان يتصور الأمر.. أستطيع أن أقول بأنه نسي البنات، حتى زينب، التي تكبرني بعام واحد، فإنها لم تعد تجد له مكاناً فوق صدره. كان يدغدغني، ثم يرفعني إلى صدره، ويمطرني بقبلاته، كأنما يرجوني أن أكبر بسرعة، لكي يراني رجلاً بشاربين، ولحية، أحلقها في كل صباح، ثم أتطيب بالعطر، لتفوح رائحته مني، وأنا أمر بمحاذاة الصبايا، لأصطاد واحدة منهن، وأتزوجها، ليرى بعد ذلك حفيده، ويرفعه، مثلما اعتاد في تربيتي، وهو يهمس في أذني بنشوةٍ غامرة.

- لقد أصبحت رجلاً يا عبد الحق.

ما كانت تخشاه أمي حدث:

- أخاف عليه من شدة حبه لك يا عبد الحق..

- بعيد الشر عنه يا أمي.. ولماذا تخافين عليه؟..

- أخشى أن لا تكتمل فرحته بك..

كانت تقولها والدموع تترقرق في عينيها.

وبالفعل، فقد مات أبي قبل أن تكتمل فرحته.. واريناه تحت التراب، وحمل معه ذلك الحلم الجميل بأن يزفني إلى بنت حلال، تخاف الله، في حياته.. أجمل الرجال رحل بسرعة.. سقط فوق رصيف بعيد.. وتلفح ببرودة شديدة.. عندما بكيت على صدره، لم يسعفني لساني، ولم أقل شيئاً.. أما الأفواه التي كانت حولي، فظلت تردد:

- الأعمار بيد الله..

لم يمهلني موت  أبي المبكر، لأن أكتشف الحقيقة.

في ذلك المساء الحزين، وكانت الشمس قد غابت في الوقت الذي أنهينا فيه دفنه، اجتاحني رعبٌ حقيقي وأنا أراقب شفتي الشيخ صادق وهو يلقنه:

- سينزل عليك الملكان الموكلان بك وبأمثالك من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سيسألانك عن ربك ونبيك ودينك، فقل لهما: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني..

كنت أحاول رسم صورة لأبي في القبر، يتحدث فيها مع الملكين: منكر ونكير، كيف ستكون إجاباته؟ هل سيتلعثم لسانه؟ أم سيكون طلقاً؟..

وما أخذ يؤرقني أشد من ذلك، الموت: نعم، نحن نولد ثم نموت، فماذا يعني ذلك؟!

مات أبي، ولم يبارك عرسي بحضوره البهي.. كنت وأنا أحدق إلى عيني أمي، أرى فيهما انشداداً إلى شيءٍ ما، لا أعرف ما هو.. ولم تمنعها الفرحة من البكاء.. بكت يومذاك بمرارةٍ، ولعلي لا أبالغ إن قلت: إنني أعرف أسباب ذلك البكاء.. إنه غياب أبي، زوجها الذي كان يهدهدني بينهما في الفراش، وهو يتابع نمو أعضائي واحداً بعد الآخر، ومما لا يغيب عن ذاكرتي أنها قالت قبل أن أختلي بعروسي:

- ليته كان حياً ليفرح بك.

- استغفري الله يا أم عبد الحق.

- أستغفر الله العلي العظيم يا ولدي..

مثل أبي بدأت أراقب نمو أعضاء أولادي، وكنت أرى في ولدي فاضل، صورة طفولتي التي كان أبي يرعاها، وأنا أضمه إلى صدري، وأصطحبه معي إلى مجالسي، لكي أجعل منه رجلاً في وقت مبكر.. كنت أهمس في أذنه:

- متى تكبر يا ولد لتصبح رجلاً؟؟..

فيبدأ بالضحك المتواصل، ولا يتوقف عن ذلك إلا إذا زجرته بحدةٍ، وكنت أشعر بالزهو، وأنا أراه يمتثل لأوامري ونزقي المفتعل..

مرت سنواتٌ قليلة على زواجي.. رزقني الله بخمسة أولاد.. وإذا وقعت عيناي على ولدي فاضل وهو يقف إلى جانب رأسي في المشفى، تذكرت أبي.. كيف كانت صورته يومذاك، لست أتذكر تماماً، ولكن لم يغب عن ناظري يوم تشييعه... ذلك الورم الذي انفجر في بطني أعاد إلى دماغي تساؤلاته التي حاولت نسيانها..

الميلاد والموت.. وكان فاضل يبكي أحياناً، وأما زوجتي، فكانت تتشبث بقدمي، وتفركهما، بحنان يتدفق حاراً من أعماقها.. كنت لا أريد ذلك، خشية أن أضعف، وأن يجتاحني وهن الإنسان وهو يواجه قدره المحتوم.

يوماً بعد آخر، ظلَّ الورم ينمو.. ورم خبيث قادني إلى غرف الأشعة المظلمة، وردهات المشافي.. معركة ما كان لها أن تنتهي بسهولة، فإما أن يهزمني، أو أهزمه.. كنت أقاوم المرض بذكرياتي الجميلة، وبصلواتي، وكنت في أوج الآلام التي تعصرني من المعدة حتى الظهر، أتعمد اللهو بصناعة أشكال هندسية لبيوت أصنعها من الخشب، فتتداخل الدقائق ببعضها، وكذلك الساعات، لأغفو وقد ارتميت على بطني، من التعب، والألم.

وأنا في قائمة انتظار الموت المؤجل، تلاشت كل أحلامي، ولم يعد يثيرني أن يكبر ولدي فاضل أم لا، فأنا سأمضي ولن أرى الشاب بعروسه، وهو أيضاً، بدأت صفرة كئيبة تزحف فوق وجهه اليافع، ولعله بدأ يتذكر أحاديثي عن أبي، وعن موته، وعن أحلامه التي حملها معه، وربما مع نفسه، بدأ يدرك ما سيحل به، هو الآخر، بعد أن توغل المرض الخبيث في كل مفاصل جسمي.

في الليلة الأخيرة، هرعت الممرضات إلى الردهة، وجاء طبيبان شابان لم يفعلا شيئاً.. ظلوا ينظرون إليَّ تارةً، وتارة أخرى إلى زوجتي التي كانت تنشب أصابعها في الأغطية، هل كانت تلك صرختي الأخيرة، لست أعرف تماماً، ولكنني قلت:

- أريد أن أرى أبنائي قبل موتي.

بكت زوجتي.. نعم، لقد رأيتها والدموع تجري فوق خديها الهزيلين.. تحشرجت الكلمات في حلقها، مختنقة.. لم أفهم ما قالته، ولكنها واصلت البكاء، وغفوت، أو نمت، لا أعرف، لكنني مت، دون أن أرى أبنائي، ومن المؤكد أنني سأجد معي في قبري تلك الأحلام التي كنت أحملها.. هكذا مثل أبي، ولدت، وكبرت، ثم رحلت عن هذه الحياة، لست أعرف ماذا سيحل بولدي، لكنه الآخر سيموت، والعطش يقتله لرؤيتي، وأنا إلى جانبه في حفلة عرسه، ومن يدري، لعله يجاهد في حياته، لنلتقي هناك، في جنة المؤمنين الموعودة..

وسوم: العدد 765