وطنٌ تعِس

لبث أحقابا يرى أنه في مملكة السَّعد يُقيم. وحين تلتف الشدائد يعلل النفس بدنوّ الفرج. وأي عجب في أن يقسو الدهر بعض الشيء؟ فلا بد من بعض حلكة بعد ضياء، ولا يزيد سوادُ الليل الأرقَ إلا تشوّفا إلى إشراق النهار وبسمة الصباح. وعلى قدر النأي يكون اللهف. لكن القسوة اشتدت والهجر طال. آه أيها الوطن التعِس! ها هو حين يُسرف في حُبّكَ يُريح سيارته ثم يركب حافلة عمومية حيث تختنق الأنفاس. هنالك يتواطأ الراكبون على عزف سمفونية التدافع، ثم يكون ازدحام كازدحام يوم الحشر. وحين يخيّل إليه أن في العالم أوطانا أجمل يقصد شاطئ المدينة، فإذا رماله الناصعة تعكس صفاء السماء. وإذا بالبحر يناجيه أنا أنا، هنا أو على الضفة الأخرى ليس لي غير هذا اللون، أنتم المتلوّنون! هي الملُوحة نفسها والامتداد نفسه، ولا أملك غير هوية واحدة. فما هويتكم؟ وبينما هو يمشي الهُوَينا ناظرا في الأفق عِناقَ البحرِ والسماءِ إذ وطئت قدمُه زجاجا فسَاحَ الدم على الرمل. كَسرَ رعاعُ المدينة قنينة الخمر بعدما دارت الرؤوس. لم يدرِ لِمَ ذكرَ في هذه اللحظة قطعةَ "الشاطئ الضاحك" التي قرأها ذات طفولة. وفي قسم المستعجلات بمستشفى البلد الكبير تذكّر أنشودة الممرضة:

رأيتُها نظيفَه *** نشيطةً خفيفَه

فؤادُها رحيمُ *** وعطفُها عظيمُ

تبّا! ما لِمُمرضةِ البلد لا تُشبه ممرضةَ "القراءة"؟ وما للطبيب غير طبيب الكتاب؟ كان عليه أن ينتظر أن تستفيق الممرضة من قيلولتها على مهل. وفي أثناء ذلك كان يغمغم:

إنْ أحدٌ دعاها *** تُسرع في خُطاها

تَظل كالفراشَه *** تطوف في بشاشَه

تبّا لهم! لماذا يُصرّون على وأدِ أحلام الصبا؟ شرطي المرور أيضا آدمي آخر غير الذي قرأ. ما زال يَذكر قطعة "الشرطة يحموننا". يبدو أن شخوص عالمه غير شخوص الكتاب، بل حتى الربيع لم يعدْ هو الربيع، ولا شمس الضحى هي التي كانت على القرطاس. صيف الكتاب المدرسي تسلية، أما صيفه ففتن كقطع الليل المظلم. حتى عفاريت الكتاب طيبون ودِعون، أليس العفريت هو من حذّر الفلاح عليًّا ألّا يَبذر حبوبه في الأرض المنخفضة حتى لا يهلكه السيل؟ وها هو زرع الفلاح قد تَوقّى غزارة الأمطار وكانت الغلة مثمرة. قرأ في عالمه الطفولي أن المكتبة المتنقلة كانت تجول بين القرى تُعير التلاميذ ما يحتاجون من كتب. أما الذئب "أشهب" فليس كالذئاب التي عرفها فيما بعد، لقد كان الذئب غِرا ساذجا، وأي سذاجة أكبر من تصديق كذبة "الكبش نطاح". قال الكبش لأشهب ما عليك إلا أن تفتح فمك وسألقي بنفسي في جوفك، فما هو إلا أن امتثل أشهب حتى جرى "نطاح" بكل ما أوتي من قوة ثم كانت الضربة التي أفقدت "أشهب" وعيَه. ولما استفاق الغِرّ ظن أن الكبش في جوفه، وما هي إلا غفوة الأبرار. حيواناتُ قراءته جميلة وديعة حتى المفترسة منها، والنّجِسة كذلك محبوبة، ومن ذا الذي لا يحب الفأر "فُرْفُرًا" مُعلّقَ الجرس؟ وحتى حينما قالت النملة للصرّار "غنيتَ في الصيف فارقص في الشتاء" لم يبخل التلاميذ على الصرّار بالعطف والشفقة. من ذا يكره الحيوانات وهي التي ساعدت "عابدًا" الطفلَ الفقير على الحصول على قميص جديد لأول مرة؟ فالحمَل يُهديه من صوفه، وشجرة النسرين تَحلُجه، والعنكبوت تنسجه، والسرطان يُفصّله، والعصفور يخيطه. كيف لا يحب هؤلاء وهو الآن في بلده ذرة متلاشية؟ ليس يهمّ ولاةَ الأمر عُريُه أو لبسُه، ولا شبعه أو جوعه. كان يعلم أن رئيس البلدية سارق، وأن المال الذي بنى به قصره مال الشعب. وكان يعجب: كيف يتوب سارق العنب ولا يتوب رئيس البلدية؟ أم تراه لم يقرأ قطعةَ "الله يرانا"؟

أبطأت الممرضة والدم ما يزال سائحا. آه أيها المستشفى! كنا نغني في انسجام:

مهبطُ الرحمة رضوانُ السماء *** مانحُ الصحةِ عنوانُ الشفاء

فيكِ يا دارُ نفوسٌ هدّها *** ألمُ الداء وأهوالُ الشقاء

أما عائلة الكتاب فتجمعها محبة عظيمة، وانظر كيف دارت التفاحة على أفرادها، كل واحد يؤثر الآخر على نفسه وهو للتفاحة مُشْتَه. الناس متحابون متكافلون، يذكر الفقيرَ الذي أراد أن يضحي بديكٍ يوم الأضحى، فصاح الديك فعُلم حاله فأهداه جاره كبشا، وكذلك فعل سائر الجيران، لا يعلم أحد ما فعل الآخر، حتى اجتمعت بدار الفقير كباش. لكنه اليوم يرى نوقا تُذبح وأناسٌ طعامهم القمامة. أحبَّ "أكلة البطاطس" لكنه اليوم يكرهها لفرط ما تناولها. أحبها فقط لأن العصا لم تضرب الولد، فكيف يحبها اليوم وليس غير العصا جوابا للبؤساء؟ أي عالم يُصدّق الآن؟

في عالم القراءة ما كانت العداوة هي الأصل، فمعلم الفرنسية كان جزائريا، و"سروال علي" يبعث على الضحك لا على الانتقام. أما سراويل هؤلاء الشباب فمقطَّعة ِرضًا واختيارا. فليت شعري، أي خير في التعري؟ كلا، لم تكن هنالك حاجة للكره والضغينة. لقد كانت قصيدة "الأم الساهرة" لسيد قطب تزيّن صفحات الكتاب. وكان الصبي ينشد:

أُمّاهُ ها أنا ذا رجعتُ فنامي *** موفورةَ الآمالِ والأحلامِ

أحقا هو سيد؟ فما بال القوم صيّروه شيطانا؟ والشيء بالشيء يُذكر، لقد كانت شياطين الكتاب المدرسي في غاية الوداعة والسذاجة أيضا، وحتى حينما أراد أحد الشياطين أن يكون شيطانا بحق محتجّا على العفريت الذي راقص أحمد وقال له: "أنت شجاع لا تخشاني *** هيا نلعب كالإخوان"، لم تسعفه شيطنته، فأوقع به الفلاح الداهية. لقد كان المحصول المثمر من نصيب الفلاح ولم ينل الشيطان شيئا، وفوق ذلك كله فقدَ كنزه العظيم. يا له من شيطان مسكين! أما "العملاق" فلطيف جدا على الرغم من أن رأسه كقبة الحمّام، وذراعيه كالأعمدة، ورجليه كالصواري. غابة كاملة من شجر الصنوبر لتسخين ماء الحمّام، وثمانية أيام وماء النهر يفيض في مغطس العملاق. ومع ذلك فهو عملاق طيب كريم، يضع الأولادَ في جيبه فيجدون أكلا شهيا. يا له من عالم وردي ناعم! لم تُعكر صفوه غير "بائعة الكبريت"، لقد أبت إلا أن تموت في يوم العيد. ويا لَحزنه يومئذ، ويا لَحزن أصدقائه!

          أوشكت الممرضة على الانتهاء، كانت تخيط الجرح عابسة لا تنطق بكلمة، وكان لسان حالها يقول: "أهذا وقت المرض؟". سؤال يحيّره الآن، لماذا هوت مدرسته إلى الدرك الأسفل؟ وفجأة قرر أن يغني صامتا:

أنا المدرسة اجعلني *** كأم لا تملْ عني

ولا تفزعْ كمأخوذ *** من البيت إلى السجن

لا يكاد يصدّق ابتذال مدرسة أبنائه، كيف وما كانت نصوصُ قراءته إلا بيانا وبلاغة؟! تَزاحَم في عامه الدراسي الخامس كبار الأدباء وتنافسَ الشعراء المفلقون. فهذا الرصافي، وذاك ألفونس ضوضي، وهنالك سيد قطب، وأناطول فرانس، وعلي الطنطاوي، وأحمد أمين، وجان كريستوف، وبنت الشاطئ، وأحمد حسن الزيات، ولافونتين، والمازني، وتوفيق الحكيم، والشابي؟ وهل ينسى "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد، و"القاضي والذباب" للجاحظ، ومحفوظة "سليمان والهدهد" لأحمد شوقي، و"خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق" للأصبهاني، و"بين خروفين" للرافعي، و"حكاية أنف" للمنفلوطي، و"ليلة عاصفة" لمكسيم غوركي؟ إنه ما زال يُنشد مع الهمذاني:

أفاطمُ لو شهدتِ ببطنِ خبْتٍ *** وقد لاقى الهزبرُ أخاك بِشرا

إذًا لرأيتِ ليثا زار ليثا *** هزبرا أغلبًا لاقى هزبرا

ما زال مشهد المواجهة ماثلا بين عينيه، يذكره كلما رأى مواجهةَ رجل لرجل في أفلام رعاة البقر، حيث لا تُنجي غير السرعة وحذق الرمي بالرصاص. ثم تتردد كلمات الشاعر على مسامعه:

وقلبي مثل قلبكَ ليس يخشى *** مصاولةً فكيف يخاف ذعرا

وأنت تروم للأشبال قوتا *** وأطلبُ لابنة الأعمام مهرا

ففيم تسوم مثلي أن يولّي *** ويجعل في يديك النفسَ قسرا

نصحتك فالتمسْ يا ليثُ غيري *** طعاما إن لحمي كان مُرا

ولأن الأبطال يُقدّرون أكفاءهم ولو كانوا أعداء، بَدا للبطل أن يودّع خصمه قائلا:

وقلتُ له يَعزّ عليّ أني *** قتلتُ مُناسِبي جلَدا وفخرا

كانت نصوص قراءته نصوصَ إلهام واعتبار، وموردَ فصاحة وبيان. هذا ولم يجاوز اثني عشر عاما من عمره بعد. تساءل مرة أخرى: لماذا يصرّون على وأد أحلام الطفولة؟ أكان المعلم يكذب سنين عددا؟ كلا، محال أن يكذب المعلمون، فهم "قادة الشعوب"؟ يا لَغفلة الصبي! ما كان يدري ما الخيال وما الحقيقة. كانت عِيشتُه رضيّة ونومتُه هنيّة. لكن صوارف الدهر تُحنّك الغِر. وعلى الرغم من ذلك لم تفارقه براءته الطفولية، فيا لَفرحه حين قَبض مئة درهم أجرَ البستنة. ربما كان فرحه بدراهمه المعدودة أشد من فرح حَشّاد بمرآته. وعلى كل حال ما أشبه وطنه بزنزانة حشاد. أما صاحب البستان فعجب أن يكون في وطنه أمثال هؤلاء الخلائق.

الْتَأمَ جرح القَدم بعد مدة، لكنه ما زال يحس ألم الإبرة وكأنه الآن يعالَج. كيف وقد خِيط دون بِنج؟! عاودته هواجس الرحيل. لقد صار أكثر تشككا في عدالة الوطن. مرّ عام من الخيبة والانتظار. وفي ليلة ذات صقيع وبينما هو في مكتبه إذ خُيّل إليه أن تعابير مبتذلة تصُكّ أذنيه: "ذهبتْ للا نمّولة إلى الحمام لتسخّن عظيماتها"! وقف بباب الغرفة وسأل: "من هذا؟". أجاب ابنه:"هذا أنا يا أبي، أطالعُ درس المساء".

- "لكنني سمعتك تردّد ألفاظا تلوكها ألسن العوام".

- "نعم يا أبي، "بغرير"، "بريوات"، "غُريبة"... إنها في كتاب القراءة".

أحسَّ بألم في قدمه، نظر إليه فإذا بالجرح قد انفتق، وإذا بالدم يسيح.

*النصوص المشار إليها كلها من سلسلة "اقرأ" المشهورة لأحمد بوكماخ للمرحلة الابتدائية بالمدرسة المغربية، من الاستقلال إلى حدود الثمانينيات.

وسوم: العدد 804