فهيم أنور

فهيم أنور

عيسى ادريوشي

[مهداة  إلى أستاذي عبد المجيد بن مسعود التربوي الفاضل الذي أكنُّ له كل محبة وتقدير]

كان من أعجب العجب في مدرستنا الصغيرة في حينا القديم أن يتسمى أغبى تلاميذها على الإطلاق باسم "فهيم أنور". وكثيرا ما كان التلاميذ اليافعون يضحكون ويلعبون، ويذكرون ما كان يقوله المعلم في حماس ودون تردد، أنه إذا كان هناك اسم على غير مسمى في هذا العالم فهو اسم "فهيم أنور"، لا لأن صاحبه لم يكن له أي صفة من صفات الفهم، ولا أي صفة من صفات النور والتنور فحسب، بل لأنه زاد إلى كل ذلك سلاطة اللسان، واللجج والصلف، والاعتداد بالنفس والغرور..

كان اسمه دليلا على أن الأسماء أو الشعارات لا تعكس الحقيقة دائما، فهي أحيانا تحمل في طياتها من الدلالات ما يناقضها…فكيف يكون فهيما منورا من كان كثير التمرد والمشاكسة، سيئ الخلق لا يستقيم على حال….

وترجع بي الذكريات القديمة إلى سنة الصف الخامس ودروس النحو وتمرينات الحساب الذهنية ويوم الخميس ، وفهيم أنور الذي يؤثر المقعد الخلفي دائما، فإذا رفع التلاميذ ألواحهم الصغيرة وقلوبهم تنبض خوفا من عصا المعلم التي لا تحابي ولا تجامل، وجدنا فهيم أنور وحده دون سائر التلاميذ ينظر من خلال الشرفة إلى الأشجار الخضراء أو يلتفت نحو السماء في بلاهة وتردد، فيسأله المعلم في هدوء النظرة الواثقة:

-لماذا تنظر إلى السماء يا أنور؟

فيضطرب بعض التلاميذ بالضحك.

ويتابع المعلم سؤاله متوجها نحوه في عزم وثبات، فتنعقد كل الألسنة، وتهدأ الضحكات الثائرة، وتعود القلوب إلى ما ألفته من الخوف والرهبة. وهنا تقع الواقعة ويستشيط المعلم غضبا، فإن أنور قد افتضح أمره، إنه لا ينظر في اتجاه الشرفة غافلا عما حوله فحسب، بل نسي اللوح كعادة من يحملونه معهم في كل أيام الأسبوع إلا في يوم الخميس…وهنا ينزل العقاب فينال من العصا ما تنفطر له القلوب، ويخيم جو الرهبة والخشوع…

ولم يكن بد من العقاب الدائم لأنور فهيم، لأنه إذا نسي اللوح يوما أحضره أياما وهو إذا أحضره فإنه لا يحضر معه رأسه وانتباهه، ذلك الرأس العنيد الذي لم يرد أن يستقبل "كان وأخواتها" ولم يقتحم غيره من الدروس حصنه الحصين…

كان فهيم أنور قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره وهو ما يزال في الصف الخامس. وحيدا يجلس طول الوقت، تنظر إليه النظرات بنوع من الاختلاف، لأنه لم يحمل روح الأطفال ولا فكرهم، على مشارف المراهقة الحقيقية، إذ يبدأ التلاميذ وهم صغار في التقاط بعض التفاصيل مما يتصل بحياة الكبار ويسعون للتقرب من ذلك العالم الرهيب عالم الرجال.

 وربما كان سبب اختلافه أنه رسب مرات عديدة في سنواته الدراسية الماضية، أن رسب مرتين قبل ذلك، ولم يكن رسوبه بسبب غباءه أو بلادته بل بسبب ظروفه العائلية،  فقد طلق أبوه السكير العربيد أمـه المسكينة بعد أن أراها ألوانا من الآلام والمحن، ووذرها حينا من الدهر كالمعلقة ثم غدت إلى بيت أبيها كسيرة القلب مطلقة. فحدث لفهيم أنور ما يشبه الانكسار فجأة، فتعثرت سكينته النفسية وظل مترددا بين جده لأبيه من جهة، وبين أمه وأبيه من جهة أخرى، فما استقامت تربيته على حال…

وهو قد جمع إلى رغبته الكسولة في التمرد على قوانين المدرسة وقواعد المعلم كل فنون المكر والدهاء والشيطنة، وشاع يومها أنه ورث كل ذلك عن أبيه الذي لا يغادر الحانة، وقد حاول كثير من التلاميذ خصوصا أصدقاؤه القدامى ممن عرفهم في فصول سابقة  التقرب منه ولكنه في النهاية تنكر لهم جميعا وبقي وحيدا يؤثر العزلة والوحدة…على مرافقة الأتراب والأصحاب، أو لا يجد من الأصحاب من له روح المغامرة والتسكع بعيدا بالغياب مثلا عن القسم والذهاب إلى السينما لمتابعة فيلم من الأفلام الهندية الشائعة الرواج على أيام السبعينات. وصار بسلوكه المتمرد أشبه بالزعيم الذي له الكلمة، ويتأبى على الانصياع والتوجيه، وكان المعلمون على وجه الخصوص يتعجبون من هذا السلوك الغريب الذي طرأ عليه فجأة ولم يألفوه منه في سابق الأيام، لقد تحول تحولا مفاجئا من يافع طيب القلب إلى كثير العناد، مما زاد من تعميق عزلته وانصراف الأتراب عنه، وربما كان كسله المتعمد أيضا ورغبته الجامحة في التفرد والنشاز وراء صدود كثير من التلاميذ عنه، لأنهم كانوا يجدون في الدروس رهبا ورغبا على صعوبة دروس النحو والإعراب مثلا، وكان أبغض شيء إلى التلاميذ الصغار المجتهدين أن يغمزوا بأنهم على شاكلة "أنور فهيم" فمنهم من كان يفر منه فرار الصحيح من الأجرب ومنهم من آثر مرافقته على مضض إلى أن تنجلي الأمور وتستقر على قرار…ومنهم من كان يجاريه ويداريه على خوف منه، مجاراة ومداراة لا تمتد إلى الغياب مثلا، بل تتوقف عند تسلق الأشجار والخروج من سور المدرسة عند الاستراحة للعبث مع أتراب المدرسة المختلطة المجاورة ، ومنهم من كان بينه وبينه عداء وخصومات لا تنقطع أبدا..

لم يكن غبيا ولا بليدا ولكنه كان يؤثر التظاهر بالغباء، ويجعل نفسه في مواقف الشذوذ رغبة منه في الخروج على القوانين، على أن ذاكرته كانت أحيانا تلتقط بعض المعلومات المهمة… فقد سأل المعلم ذات يوم سؤالا صعبا بالقياس إلى معلومات الأطفال القليلة:

-من هم الخلفاء الراشدون؟

والعجيب أنه لم يجب أحد على هذا السؤال الصعب الذي لم يسمعوا به من قبل، حتى أجاب عنه أنور فهيم. ويوما سألهم أين دُفن الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، فلم يجب أحد فلم يكن بد من أن يأخذ التلاميذ كلهم حظهم من العقاب ضربتين بالعصا، وكلما تقدم المعلم إلى تلميذ سأله ليقيم عليه الحجة ويُضرب ضربتين، وكان مقعد فهيم أنور هو الأخير، فلما وصله وقد ساد الظن أنه هو أيضا لن ينجو من هذا العقاب الصارم العادل الذي نزل فجأة كالصاعقة:

إذا به على غير المتوقع يجيب:

- في المدينة المنورة.

كان معلمنا يشرح لنا ذات يوم درس الصلاة، كان من عادته أن يقدم دروسا تطبيقية، فقد أخرجنا قبلها صفا واحدا إلى صنبور الماء وعلمنا الوضوء واحدا تلو واحد، في صرامة ودون كلل ولا ملل. فجاء الدرس التطبيقي لطريقة الصلاة جماعة، حيث أخذنا مرة  أخرى- زمرة واحدة إلى قاعة الصلاة واصطف هو الأول إماما وقال لنا بلهجة حاسمة:

- صلوا كما رأيتموني أصلي.

تابع التلاميذ صلاتهم في خشوع، أما فهيم أنور فقد انسحب تاركا الصف وحده، لأنه كان يؤثر دائما الصفوف الخلفية، فلم يره أحد، حتى إذا أتم المعلم صلاته وخرج  يتقدم التلاميذ إلى الردهة الطويلة، رمقه في بهو المدرسة الواسع وهو يأكل تفاحة غير مكترث ولا نادم.

-لماذا لا تصلي يا أنور فهيم؟

وهنا تضاربت آراء التلاميذ فقال بعضهم إنه لا يحب الصلاة، وقال بعضهم إنه يتمرد على أوامر المعلم وقوانين المدرسة، أما بعضهم الآخر فقالوا :"وكيف يصلي من يعاشر أبا عربيدا سكيرا مخمرا لا يصحو من الخمر إلا إلى الخمر؟"

ورغم عقاب المعلم الصارم وتكراره الحثيث وتأكيده بالحسنى على دور الصلاة وأهميتها في الدين على اعتبار أنها عموده الأساس، هذا دون احتساب فوائدها الكثيرة الجليلة، إلا أن فهيم أنور اشتهر بأنه لا يصلي، وكلما تقدم التلاميذ متسابقين في رغبة عارمة إلى الصلاة في استراحة العصر، تخلف فهيم أنور كالنشاز، بل صار يغري بعض التلاميذ بتكسير أوامر المعلم ويحرضهم على العصيان والنفور …

والطريف أن فهيم أنور كان يعتبر نفسه مظلوما وعلى حق، وأن الآخرين مستبدون ظالمون، فلم يكن رأيه حسنا في المعلم ولا في المدير ولا في التلاميذ جميعا، بل امتد سخطه إلى معلم مشهور في مدرستنا بالظرف ومعاملة التلاميذ كأنهم أولاده الصغار… وكان يعتبر الدرس قهرا والحياة في الشارع أولى من الحياة في المدرسة، وكثيرا ما فر من المدرسة متسكعا في الطرقات، أو ليتفرج على فيلم سينمائي جديد، فيعود في اليوم التالي مزهوا غير مبال بالعقاب، مصورا أفعاله على أساس أنها رجولة وفتوة وقوة، مثيرا للتلاميذ بطريقة مسرحية ساحرة محرضا إياهم على الشغب، بصوته الجهوري الرنان، وانتفاشته الغاضبة، وإطراقته العابسة، وأكثر ما كان يجرح قلوبهم الطاهرة وينال من براءتها ويبث فيها الأوهام والشكوك عندما يصفهم بأنهم هم كالبنات (في المدرسة المجاورة) لأنهم لا يأتون من الأفعال ما يأتي، وأنه هو وحده الرجل الذي يستحق وصف الرجولة، إذ لا يبالي بالعقاب ولا يبكي رغم الألم الشديد، وكثيرا ما يقهقه يضاحكا من بعض ضعفاء التلاميذ ويرى دموعهم أمارة على أنهم أشبه بالبنات، وهو لا يبكي لأنه "رجل"!!!

لم يكن غباؤه إذن ناشئا عن كونه لا يفهم، بل لكونه لا يريد أن يفهم، وما أكثر ما كان يستهزئ بتلميذ نجيب كان هو الأول في كل الاختبارات دائما. ويعجب من تسابقه في إرضاء المعلم، ويصفه بالبلادة والغباء، وكان يحاول أن يشيع في الأتراب أن النجباء جبناء وأن الذين يتأهلون لاكتساب صفات الرجولة الحقيقية هم الذين يتمردون على القوانين وأن المدرسة سجن وعقاب وأن  الكسل نعمة ما بعدها نعمة وأن الشقاء كل الشقاء في سور المدرسة والراحة كل الراحة في التسكع في المدينة وتتبع حلْقات عبد الله المـﮕانة …، أما التلميذ النجيب فلم يكن ليعجز عن الرد والجواب إذ كان نبيها لا تخدعه الكلمات كما تخدع الذين يعجزون فيجارون صاحبها.

- إنك أنت البليد الغبي ولكنك لا تعلم.

فيضحك فهيم أنور ضحكا متصلا شبيها بصوت أبيه السكير المعربد، تؤكد الوصف الذي وصفوه به أحيانا أنه لا يملك قلبا كالأطفال…

وكم كانت تجري له من مشاحنات تنتهي بالخصام دائما، فقد أحب الاستعراض والخصومات وإظهار القوة وما يحسبه بُطولة بمناجشة المسالمين الضعفاء خاصة، وضربهم ظلما وعدوانا، وكم من مرة جاء جده المريض صاحب الصوت المبحوح متوكئا على عصاه وأنفاسه تكاد تنقطع من اللهث، وهو لا يقوى على هذا "العفريت المارد" و"الجن المطير" على حد تعبيره …مهدئا من روع هذا لأنه ضربه، أو طالبا العفو من المعلم لأنه طرده، أو مستعطفا المدير لأنه عاقبه…

وجاء يوم الامتحان.

 في تلك السنة تحول نظام الامتحانات شيئا جديدا غير معهود، فلم تعد المدرسة مكانا يعشش فيه الخاملون والكسالى، وكان امتحان الابتدائية عسيرا جدا، يحتوي على ثلاث مواد رئيسة هي العربية والفرنسية والرياضيات. وفي كل مادة من المواد تقدم طائفة عريضة من الأسئلة في ورقة كأنها الجريدة أو الحصيرة كما يزعم الكسالى وهم يحتجون ويسخطون. ولا تسأل عن سرور الناس بالناجحين والمتفوقين، فإنه سرور ما بعده سرور، فإن من نال هذه "الشهادة" الساحرة خليق بمستقبل سعيد ومنصب مرموق، ومن يرسب فيها أول مرة فإنه يستحق الشفقة والتشجيع إذ ما أكثر الراسبين والفاشلين، وما أكثر ما يتعزى الناس قائلين:

-إنها شهادة الابتدائية.

أما من رسب عامين متوالين فإن النظام الجديد أصبح ينقله إلى  الطرد النهائي من المدرسة،  ورغم أن الناس استنكروا هذا القانون لأنها "الشهادة الابتدائية" التي لا ينجح فيها إلا طويل العمر على حد التعبير الشعبي، إلا أن النظام هو النظام..

في تلك السنة كان عمره قد تجاوز الخامسة عشرة، وكان قد رسب مرتين في الصف الخامس ومرات في غير الصف الخامس قبل ذلك، فإذا ما رسب مرة أخرى فإن ذلك يهيئه فورا للطرد النهائي، ولقد تغافل عن هذا التهديد المعلق على رأسه، وما كان ذلك التهديد غافلا عن جده المتهالك صاحب الصوت المبحوح وقد تعب منه وهو في أواخر أيامه أضعاف ما وجده من ألم وحسرة في تربية ولده السكير الخمير، وما هما إلا صنوان.

ومع ذلك التهديد المحدق فقد مضى غافلا لاهيا مؤثرا عزلة وصمتا، وغارقا في مناوشات  تهتف له بين حين وحين، ومهما ينس التلاميذ فلن ينسوا قسم المعلم بالأيمان المغلظة أن هذا التلميذ الفاشل لن يذوق طعم الفوز مهما كان الثمن، فمنهم من أشفق عليه، ومنهم من استصوب القرار، ولكنهم جميعا اتفقوا قائلين:

- ضاع فهيم أنور.

 إشارة : عبد الله المكانة، شاعر شعبي مشهور بمدينة وجدة كان يقيم الحلقات الشعبية في أسواق المدينة وساحاتها العامة.

العــار

 العار..إنه العار.

احمله في قلبي وعلى وجهي، كلهم يشيرون إلي، إنني مدان.

أشعر بالتقيؤ والغثيان. قلبي أصبح موبوءا. شعري ينتفش..إنه العار من أخمص قدمي إلى رجلي.