لماذا رفض الأسد الأب إستعادة الجولان؟ وماالذي جرى في مفاوضات شيبردز تاون؟

هذا هو مقالي الثالث ضمن السلسلة التي تلقي الضوء على طبيعة العلاقات الاستراتيجية الغير معلنة، ولكن الواضحة على أرض الواقع، بين النظام السوري واليمين الإسرائيلي المتطرف، حيث كنت قد استبقته بمقالين في هذا السياق هما (لعبة الحبل السورية الإسرائيلية) و (المجزرة الإسرائيلية في سورية).

مايزال الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر يفتخر حتى اليوم بما يعتبره أعظم انجاز قام به خلال فترة حكمه (1976-1980) على صعيد السياسة الخارجية، وهو إبرام اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل والتي تعرف باتفاقية (كامب ديفيد). ولذلك فقد حلم الرؤساء الأمريكيين الذين أتوا بعد كارتر أن ينجزوا اتفاقية سلام مشابهة بين إسرائيل من جهة وبين السوريين والفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين من جهة ثانية. فها هو بوش الأب (1989-1993) يجبر هذه الأطراف على حضور (مؤتمر مدريد) عام 1991 من أجل ذلك، مستغلاً انتصاره في حرب الخليج الأولى من نفس العام. ولكن مساعيه بائت بالفشل لسبب بسيط وهو أن لاحكومة إسحق شامير اليمينية المتطرفة آنذاك، ولا الأسد الأب كان لهما رغبة في السلام. وكنت قد أشرت في مقالة سابقة أن مصلحة الطرفين كانت وماتزال في حالة (اللاسلم واللاحرب) لأنها تمنح كليهما الشرعية والحجة للبقاء في الحكم. كما أنها تعطي النظام السوري السبب للبقاء في لبنان بحجة حماية (خاصرته الغربية) وبالتالي الاستفادة من عائدات (مخدرات مزارع البقاع) والتهريب وغيرها. ورأينا كيف كان (مؤتمر مدريد) فيما بعد، أحد أسباب غضب الاسرائيليين على بوش الأب وخسارته فترة رئاسية ثانية بعد أن وصموه ووزير خارجيته بمعاداة السامية.

ولكن وجد الأسد الأب نفسه في ورطة حقيقية أمام شعبه والعالم مع وصول الديمقراطي بل كلينتون إلى البيت الأبيض (1993-2001) ووصول العمالي إيهود باراك فيما بعد إلى رئاسة الوزراء الإسرائيلية (1999-2001). إذ كان لدى الأخيرين رغبة في إغلاق الملف السوري باعادة الجولان المحتل على نفس طريقة اتفاقية (كامب ديفيد) الإسرائيلية المصرية، وذلك وفق ماكان يعرف حينها (بوديعة رابين). حيث كان رئيس الوزراء العمالي اسحق رابين يعد لهذا الاتفاق قبل أن يغتاله اليمين الإسرائيلي المتطرف عام 1995. وكما ذكرنا فقد دعا كلينتون لتلك المفاوضات بعد وصوله إلى البيت الابيض، إلا أنها وصلت في النهاية وبعد سنوات من اللقاءات والانسحابات إلى طريق مسدود عام 1999 بسبب رفض الأسد الأب للعرض الإسرائيلي، وهي التي عرفت فيما بعد بمفاوضات (شيبردز تاون). ومثل النظام السوري فيها وزيرالخارجية آنذاك فاروق الشرع الذي كان يتلقى التعليمات من الأسد الأب على مدار الساعة، في حين ترأس الوفد الإسرائيلي رئيس الوزراء إيهود باراك وعن الجانب الأمريكي وزير الخارجية وارن كريستوفر ثم الوزيرة مادلين أولبرايت

السؤال الذي يطرحه هذا المقال ويحاول إيجاد الاجابة عليه هو على شقين: ماذا عرضت إسرائيل؟ ولماذا رفض الأسد الأب العرض؟

حتى نجيب على هذا السؤال لابد أن نعود قليلاً إلى الوراء ، وبالتحديد إلى حرب فلسطين عام 1948 واتفاقية الهدنة التي نتجت عن هذه الحرب. طبعاً كانت دولة إسرائيل هي أول مانتج عن الحرب، ولكن أتت تلك الاتفاقية لتمنح دول المواجهة (جوائز ترضية) مقابل موافقتها على وقف القتال والتوقيع على الاتفاقية. وكانت الجوائز عبارة عن ثلاثة أجزاء من أرض فلسطين المعترف بها في الأمم المتحدة تم اقتطاعها ومنحها لهذه الدول لكسب رضاها ولتديرها سياسياً (لحين التوصل لاتفاقية سلام دائمة ونهائية). فكانت غزة من نصيب مصر، والضفة الغربية والقدس من نصيب الأردن وشريطاً ضيقاً على الشاطئ الشمالي الشرقي من بحيرة طبرية من نصيب سورية.

أتت بعد ذلك حرب حزيران عام 1967  لتحتل إسرائيل هذه الأجزاء الممنوحة، وتحتل معها صحراء سيناء المصرية ومنطقتي الباقورة والغامر الأردنيتين ومرتفعات الجولان السورية. ولكن وبعد أقل من سبع سنوات أتت حرب تشرين عام 1973 لتدخل مصر بعدها في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وتوقع على أثرها إتفاقية (كامب ديفيد) عام 1978 لتستعيد من خلالها صحراء سيناء بالكامل عام 1982 ولكن بتواجد رمزي للجيش المصري. بطبيعة الحال لم يكن قطاع غزة على طاولة المفاوضات حينها، لأنه ليس أرضاً مصرية كما سبق وأشرنا، وتم الاتفاق على تركه للمفاوض الفلسطيني حين يجلس مع نظيره الإسرائيلي. ولكن تم الاختلاف حينها بين الطرفين على منطقة طابا على البحر الأحمر حيث لجأ الطرفان إلى هيئة تحكيم دولية حكمت بها في النهاية لصالح مصر واستعادتها بالفعل عام 1989.

على الجانب الأردني، تمت أيضاً مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين عام 1994 بوساطة الرئيس الأمريكي كلينتون نتج عنها إتفاقية (وادي عربة) التي اعترفت بسيادة الأردن على منطقتي الباقورة والغامر، ولكن أعطت الاتفاقية إسرائيل حق الاحتفاظ بهما على أساس عقد (إيجار واستئجار!) بسبب الثروة المائية الموجودة فيهما. ولكن وهنا أيضاً لم تكن الضفة الغربية والقدس على مائدة المفاوضات لأن الأردن كان يعرف أنها ليست جزءاً من أراضيه، وبالتالي تم تركهما للمفاوضين الفلسطيني والإسرائيلي.

بالعودة إلى المفاوضات السورية الإسرائيلية التي سبق وأشرنا إليها، فقد تكررت نفس القصة حيث عرضت إسرائيل إعادة الجولان حسب الخرائط الدولية المعترف بها للدولة السورية، ليأتي الأسد الأب ويطالب أيضاً (بجائزة الترضية) التي كانت تتمثل بذلك الشريط الضيق على الساحل الشمالي الشرقي لبحيرة طبرية، واستشهد على موقفه بأنه كان قبل حرب حزيران (يسبح ويصطاد السمك) في البحيرة. فرد الجانب الإسرائيلي أن هذا الشريط كان تحت الادارة السورية المؤقتة بموجب إتفاقية الهدنة، ولكنه أرض فلسطينية وسيكون على مائدة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في المستقبل، كقطاع غزة والضفة الغربية والقدس. ثم قدم  في مرحلة لاحقة خرائطاً تعود لعام 1924 لتأكيد روايته، ولكن الأسد الأب رفض حتى النظر إليها وأصر أن هذا الشريط هو أرض سورية وأنه لن يرضى بالجولان من دونه!

لن أكون هناً حكماً دولياً لأفصل في قضية لمن يعود هذا الشريط، لسورية أم لفلسطين؟ وإن كان الأمر يبدو من حيث الخلفية مشابهاً لموضوع هوية (مزارع شبعا): هل هي سورية أم لبنانية؟ كما أني ومن جهة ثانية لاأنكر تقلب المفاوض الإسرائيلي وتغييره الدائم لمواقفه حسب تغير الرأي العام في بلده، كما ولاأنكر طمعه بالمياه العربية بشكل عام. ولكن لو كان الأسد الأب جاداً باستعادة الجولان، وعلينا أن لاننسى أنه هو كان من (أهداه) بالكامل لإسرائيل على طبق من ذهب في حرب حزيران ومن دون قتال حتى، لو كان جاداً باستعادته لوافق على العرض الإسرائيلي ثم ذهب بشأن ذلك الشريط (الذي لايشكل أكثر من واحد بالمئة من مساحة الجولان) إلى محكمة دولية كما فعلت مصر بشأن طابا. ودعونا نذكر في هذا المجال أن النظام السوري الذي يدعي حرصه على كل شبر من الجولان، لم يفتح ولو حتى تحقيقاً شكلياً لتحديد المسؤولين عن ضياعه بتلك الصورة المريبة في حرب حزيران، لاحين كانالأسد الأب وزيراً للدفاع ولاخلال حكمه الذي استمر أكثر من ثلاثين سنة ولاخلال فترة حكم ابنه التي تجاوزت الدزينة من السنوات، وكأن هناك مالايريدون كشفه أمام الشعب والعالم!

الآن وقد عرفنا ماذا عرضت إسرائيل، نعود إلى الجزء الثاني من السؤال: لماذا رفض الأسد الأب العرض؟ يرى المحللون السياسيون أن سبب رفضه وتحججه بشريط ساحل طبرية هو في الحقيقة في غاية الوضوح، فالديكتاتور عادة يفكر بمصلحته الشخصية وكرسي الحكم قبل أي شئ آخر بما في ذلك مصلحة الوطن. فهو من جهة كان يعرف أن استعادة الجولان وتوقيعه معاهدة سلام مع إسرائيل هو أمر له تبعات، من أولها أن عليه الانسحاب من لبنان، ولبنان بالنسبة له أثمن بكثير من الجولان. ومن جهة ثانية، فان معاهدة السلام تلك ستعني إنهاء حالة الحرب وبالتالي سيكون ملزماً بالغاء قانون الطوارئ الذي لايستطيع أي ديكتاتور أن يستمر بدونه. فهذا سيعني استحقاقات العودة إلى الحياة الديمقراطية والتعددية السياسية وإطلاق الحريات العامة، وهذه كانت ومازالت ألد أعداء أي ديكتاتور في أي مكان في العالم في أي حقبة من التاريخ. ولاأعتقد أن أحداً يشك في تصنيف الأسد الأب كديكتاتور، حتى هو لايشك بذلك، وبالتالي فهو حتماً كان قد نظر إلى الأمر من نفس المنظار، فوجد أن احتفاظه بالحكم (إلى الأبد ولولد الولد) إنما هو أهم بكثير، ليس فقط من الجولان، ولكن من أي شئ آخر.

ولكن وإذا كذبنا كل تلك الحقائق، وكذبنا الواقع الذي أنتجه ذلك النظام مع إسرائيل على الأرض ، وافترضنا أن الرجل إنما تحكمه دوافع وطنية بحتة وأن رفضه عرض إعادة الجولان كان بهدف عدم التفريط بأي شبر منه، وأن إضاعته في حرب حزيران كانت مجرد هفوة بسيطة فحسب، وأن عدم فتح تحقيق بالموضوع فيما بعد كان مجرد سهوة لاأكثر. إذا افترضنا كل ذلك فيبقى هناك عدة أسئلة صعبة تتعلق بسلوكه عليه الإجابة عليها ليبرئ نفسه من كافة التهم السابقة.

السؤال الأول هو هل يعقل لرئيس تحركه دوافع وطنية أن يرتكب بحق شعبه مجزرة كمجزرة حماة والتي تصنف بأنها الأبشع في تاريخ الانسانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين (وهي التي راح ضحيتها خمسون ألفاً خلال أيام)؟ هذا طبعاً إذا لم نذكر مجازر سجن تدمر وجسر الشغور وادلب وغيرها التي حدثت في نفس الفترة من بداية ثمانينيات القرن الماضي.

السؤال الثاني هو إذا كانت تلك المجازر كافية لنزع صفة الوطنية عن أي كائن وتوجيه تهمة مجرم حرب له، فكيف سيكون الحال إذا أضفنا إليها المجزرة المروعة بحق اللاجئين الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر في لبنان عام 1976 (والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف لاجئ). وكذلك مساعدته لإسرائيل على إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982؟

السؤال الثالث والأخير هو إذا كان الرجل لم يقتنع فعلاً بالعرض الإسرائيلي لاعادة الجولان، فما الذي منعه من تحريره، أو على الأقل محاولة تحريره، بالقوة العسكرية على مدى ثلاثة عقود؟ أما مقولة نظامه ونظام ابنه اليوم أنهم هم من (يختارون زمان ومكان المعركة) فقد أصبحت مقولة في غاية الوضوح، فقد رأيناهم كيف اختاروا زمان ومكان المعركة في حماة وتدمر وجسر الشغور وغيرها في زمن الأب، وفي كافة المدن والبلدات السورية وعلى رأسها درعا وحمص وحلب وادلب في زمن الابن. هل بقي هناك بعد كل هذا أي مكان لادعاء أي نوع من أنواع الوطنية حقاً؟ 

إذاً فقد قدم الأسد الأب خدمة عظيمة لليمين الإسرائيلي المتطرف بمماطلته في تلك المفاوضات مما أدى في النهاية إلى فشلها. فعاد هذا اليمين إلى الحكم بشخص إيريل شارون (2001-2006) مع شعاره (السلام مقابل السلام) بديلاً لشعار سلفه العمالي (الأرض مقابل السلام). وكان الأسد الابن قد وصل في تلك الأثناء إلى الحكم بالتوريث، فوجد كل واحد في شريكه (أفضل عدو يمكن الحصول عليه). إذ أن كليهما يفهمان أصول لعبة شد ورخي الحبل التي تحدثت عنها في مقال سابق، ويطبقانها على أرض الواقع قلباً وقالباً بما يضمن استمرار كل واحد منهما باحكام قبضته على مقاليد الحكم في بلده. وذلك على مبدأ (حكلي لحكلك) وكذلك مبدأ (نيال كل مين فاد واستفاد)، أما كل مايحصل بين الطرفين خارج ذلك السياق ويتمثل بالتهديدات والاتهامات والشكاوى في مجلس الأمن والأمم المتحدة إنما يندرج تحت عنوان (الحكي ببلاش).   

وسوم: العدد 818