في التطبيع والاتفاقات....نظرات ووقفات

تناول كثير من المفكرين والإعلاميين والسياسيين والاقتصاديين ما حدث في المنطقة العربية من تسارع وتهافت دول عربية على التطبيع مع الإحتلال والمبالغة غير المنطقية بالاحتفاء بهذا الحدث الصاخب والذي عده البعض سقوطا مهينا فيما رآه آخرون اسقاطا للأقنعة تمهيدا لمرحلة جديدة من تشكيل المنطقة ونهب ثرواتها بشكل علني وجذري. في هذا المقال وتجنبا لتكرار ما كتبه غيري، ساتوقف عند محطات في هذا الحدث وأنظر في بعض خلفياته.

  • كما العادة وفي كل اتفاقيات سلام مع الاحتلال، يتباهى القادة العرب بالعلاقات القديمة السرية والحميمة بينهم وبين الاحتلال الصهيوني وتكشف وسائل الإعلام الصهاينة والدول الموقعة أحيانا عن تفاصيل تلك اللقاءات وعلاقات التفاهم والتنسيق. السؤال هنا: كنتم على علاقات سرية ووثيقة معهم فيما كنتم تعلنون لشعوبكم عن المواقف الثابتة والراسخة من القضية الفلسطينية ورفضكم القاطع لتجاوزات الاحتلال ومحاولاته الاعتداء على الأقصى. كنتم تكذبون علينا عشرات السنين وتخدعون شعوبكم، فكيف نثق بكم الآن ونصدق أن هناك مصالح لكم ولدولكم في هذه الاتفاقيات وليست إعلانا للإذعان التام للصهاينة والركوع في محرابهم؟
  • يزداد قمع الحريات وخنق الاصوات وسجن المفكريين والسياسيين في الدول العربية التي تتهافت على التطبيع مع الصهاينة. هكذا يظهر أن الاستبداد والاحتلال هما حليفان بل ومرتبطان عضويا بما يشبه الزواج الكاثوليكي الوثيق بل أكثر من ذلك يبدو أن غالبية الانظمة العربية الرسمية أنظمة وظيفية لخدمة الآحتلال والدول الكبرى ومقايضة ثروات بلادنا وقرارها السياسي مقابل بقاءها في الحكم. اتفاقيات التطبيع بين مستبدين عرب وصهاينة برعاية أمريكية تسقط إدعاءات بأن الكيان الصهيوني ديمقراطي وبأن أمريكا تؤمن بقيم الحرية والديمقراطية خارج حدودها.
  • الأنظمة المطبعة تحكم دولها حكما مطلقا ويقدس إعلامها الحاكم ويعلي من شأنه، هذه الأنظمة فشلت تماما في الحكم، فلم تؤسس لبنية صناعية أو علمية حقيقية أو نجاح إقتصادي، فلا صناعات ولا أنتاج سوى استهلاك ثروة الأجيال (النفط) واستغلالها بشكل مدمر وخاسر. حتى النموذج الاستهلاكي والذي سوقوه لنا كانجاز عظيم (دبي مثلا) اكتشفنا في مراحل معينة أنها مجرد فقاعات صابون. بل وأنفقت تلك الأنظمة مبالغ خيالية في التسلح وأهدرت ثروة ابنائها وأحفادها في صفقات فلكية ضخمة، وهاهم اليوم يتسولون حماية الذئاب (الصهاينة وترامب) من الذئاب (إيران). فشلتم في كل شيء، فكيف ستنجحون هنا وكل القرائن والشواهد تقول أنكم سقطتم وأسقطتم بلادكم في هاوية بلا قاع؟؟
  • التجارب العربية في اتفاقيات السلام والتي أبرمت مع الصهاينة سلبية وحصادها مر كالعلقم. كان هدف تلك الاتفاقيات المعلن هو تحسين الوضع الإقتصادي فالمواجهات العسكرية تستنزف الإقتصاد والمال، بعد عقود من عقد تلك الاتفاقيات أصبحت الأوضاع الإقتصادية قاسية جدا ومأساوية. من ناحية أخرى لم يحترم الصهاينة يوما تلك الاتفاقيات وانتهكوها مرات ومرات، مثل محاولة إغتيال خالد مشعل، وقتل اردنيين في سفارة الصهاينة والتجسس على شركاء "السلام" إضافة إلى تقارير صحفية تحدثت عن بيع مصر إبان حكم السادات مواد سماد مسرطنة وتزويد الأردن بمياه شرب ملوثة بالمجارير، وما خفي كان أعظم. دول راسخة وعريقة كمصر لم تستطع التعامل مع اتفاقيات السلام أو الرد على انتهاكات الصهاينة لها، فما تفعل دولة مثل الإمارات بنيت أساساتها على شفا جرف هار؟
  • إعلاميون وسياسيون بل وحتى بعض المحسوبين على علماء الدين في الدول المطبعة، صفقوا وهللوا وبشروا بهذه الاتفاقيات وأعتبرها بعضهم إنجازا ونصرا وذكاءا استراتيجي. كثير منهم إن لم أقل جميعهم، كانت له مواقف مناقضة تماما لمواقفه بعد إعلان التطبيع رسميا. فعلى سبيل المثال كان ضاحي خلفان في تسعينات القرن الماضي يحذر بتصريحات ومحاضرات عديدة إن إسرائيل تستهدف أقتصاديات دول الخليج وتريد تدميرها، وهو الذي كشف عن إغتيال الموساد المبحوح قبل عقد من الزمان وتعهد بملاحقة إسرائيل والتي انتهكت سيادة الإمارات، خلفان نفسه يتحدث الآن عن عظمة إسرائيل وروعة منتجاتها وقدراتها العلمية الفائقة. هكذا يدمر الاستبداد إنسانية الإنسان وأخلاقياته وقيمه ويحول ما يفترض أنهم نخب، لدمى وعرائس يحركها كيفما يشاء ولتتناقض في مواقفها وقيمها ودينها دون خجل ولا حياء.
  • تتحول إسرائيل وبشكل مفاجئ وسريع وحازم، من عدو محتل إلى حليف وثيق بروابط حميمية لا تتوفر بين الدول إلا نادرا، وتتغزل أدوات الأنظمة المطبعة بالاحتلال بشكل مهووس، وتنص الاتفاقيات عن تعاون في كل أوجه الحياة تقريبا. هذا التحول المفاجيء أو العلاقات الوثيقة والتي لم تتوافر حتى مع الدول المطبعة وحلفائها وأشقائها تكشف عن سفه وخفة سياسية من حكام الدول المطبعة أو أنها تخشى من حكومة الاحتلال بأن تكشف عنها ما لا تتحمل كشفه! وفي كلا الحاتين فإن هولاء لا يصلحون للحكم وبحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل نفسي، أقلها ليمتلكوا القدرة على ضبط إندفاعاتهم وعشقهم السياسي وولهم بالصهاينة وهو أمر غير مسبوق سياسيا على المستوى الدولي.
  • للشيخ زايد مؤسس الإمارات مواقف واضحة وصريحة من القضية الفلسطينية، وكان يكثر من استقبال عرفات ومن إعلانه الدعم المطلق للفلسطينين في مواجهة العدو بحسب توصيف زايد، وفي حرب 73 كان ممن أعلن وبوضوح مقاطعة أمريكا والغرب نفطيا لدعمهم إسرائيل، وله مقوله شهيرة حينها بأن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي. أبناء زايد والذين ورثوا الدولة من أبيهم ويستمدون شرعيتهم منه، ويتغنون به وبمواقفه "لفظيا" ليل نهار، يخونون إرث والدهم ويسفهون مواقفه السياسية، وإلا ما الذي تغير مع الاحتلال إلا أنه ازداد عنجهية وتطرفا وانتهاكا لحقوق الفلسطينين وأعتداء على حرمات ومقدسات المسلمين والمسيحيين. ليس هذا الموقف الوحيد والذي ناقض فيه الأبناء والدهم، فقد كان الإخوان المسلمين والذي يشن عليهم محمد بن زايد حرب ضروس، هم من أسس التعليم في الإمارات عن طريق بديع صقر وعدنان سعد الدين يرحمهم الله، بل إن د عز الدين إبراهيم وهو من قادة الإخوان ومن الرعيل الأول، كان مستشارا ثقافيا لعقود لدى الشيخ زايد حتى توفاه الله (زايد). وكان زايد قد كلف إبراهيم بأن يكون أول مدير لإول جامعة في الإمارات (جامعة الإمارات) ليكمل الإخوان فضلهم في تأسيس التعليم في الدولة التي تحاربهم الآن وتدفع المليارات لتصفيتهم سياسيا وحتى جسديا إن سمجت الظروف.
  • ما الذي ستجنيه دولة الإمارات والمطبعين معها من العلاقة المتماهية والحميمية مع الاحتلال وفي الحضن الأمريكي، والتي تناقض عقيدة الأمة وقرانها وثقافاتها وتراثها وحتى مصالح تلك الدول: الحماية والرعاية الأمنية؟ إذا كان العاقل من يتعظ بنفسه والأحمق من يتعظ بغيره، فما الذي يقال على من لا يتعظ بغيره وإن تكررت العظات مرات ومرات. فأمريكا تخلت عن شاه إيران وإسرائيل كثيرا ما تتخلى عن جواسيسها وعملائها في فلسطين وفي جنوب لبنان خصوصا من غير اليهود، وحين أعتدت إيران أو عملائها على السعودية في أهم منشآتها ارامكو، خذل ترامب الرياض بشكل مهين وهو الذي يعيرهم علنا بحمايته لهم ويطلب منهم وباسلوب مستفز ومذل ثمنا باهظا لتلك الحماية السرابية.

وسوم: العدد 895