الخدمة الإلزامية

يقصد بالخدمة الإلزامية أن يقضي شباب مجتمع ما فترة من الوقت في خدمة الجيش الوطني، وغالبًا ما تفرضها الحكومات في مناطق النزاع أو في المناطق ذات الموقع الاستراتيجي، وتسمى في بعض الدول بخدمة العَلَم.

وقد عرفت المجتمعات الإنسانية الخدمة الإلزامية العسكرية منذ فترات مبكرة، فقد طبقتها بعض المدن اليونانية وطبقها أيضًا دولة روما وإن اقتصرت على طبقة النبلاء.

وأول من طبق هذه الفكرة في العصر الحديث بروسيا في القرن الثامن عشر ثم تبعتها فرنسا في فترة حكم الثورة الفرنسية.

وما لبثت أن انتشرت فكرة الخدمة العسكرية الإلزامية وتبنتها الكثير من الحكومات وخاصة في أوقات الحروب حتى تحوّلت لقيمة وطنية تتلقاها المجتمعات بالقبول والاحترام.

ولفت انتباهي في هذا الشأن تقريرًا أصدرته إحدى منظمات المجتمع المدني (الرابطة السورية لكرامة المواطن)، وهو تقرير يسلّط الضوء على دراسة استقصائية أجرتها الرابطة السورية لكرامة المواطن حول الأسباب التي أدت لهجرة السوريين، والحد الأدنى من الشروط التي يجب توفرها للعودة (من وجهة نظر المهجرين أنفسهم).

وقد أعطت الرابطة السورية الأشخاص المشاركين بالدراسة من عمر 18 عاما إلى عمر 42 عدة خيارات للتعبير عن الحد الأدنى المقبول من التغييرات في القوانين فيما يتعلق بالخدمة الإلزامية:

- إلغاء التجنيد الالزامي بالكامل وحتى الاحتياط.

- ضمانات بإيقاف التجنيد الاحتياطي لمدة 5 سنوات.

- موضوع التجنيد ليس من شروط العودة.

وقد أضاف المهجرون المستطلعة آراؤهم خيارات أخرى مثل:

- في حال توفر حل سياسي نتج عنه حكومة شرعية وتعمل تلك الحكومة على إنشاء جيش وطني فليس هناك مشكلة فيما يتعلق بالخدمة الإلزامية.

فكانت نتائج الاستطلاع كما يلي:

اختار 54 % من المشاركين بالدراسة إلغاء التجنيد الإلزامي بالكامل، في حين اكتفى 26 %من المشاركين بإلغاء الخدمة الاحتياطية لمدة لا تقل عن خمس سنوات، واعتبر 16 % من المشاركين أن الخدمة الإلزامية ليست من شروط العودة لسورية بالنسبة لهم.

وبعد تحليل النتائج بحسب مكان الإقامة فكانت النتائج على النحو التالي:

التجنيد ليس من شروط العودة     الغاء الاحتياط لمدة 5 سنوات       إلغاء التجنيد بالكامل

النازحين         9%                                       16%                           75%

اللاجئين       21%                                     34%                            45%

وما يمكن ملاحظته بوضوح من التقرير الذي نشرته الرابطة السورية لكرامة المواطن تغير قيمي كبير بين السوريين فيما يتعلق بالخدمة الإلزامية بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية، فالغالبية الكبرى من السوريين ممن هم في سن الخدمة الإلزامية يرفضون الفكرة تمامًا ويطالبون بإلغائها، وهو أمر بالغ الخطورة بالنسبة لمجتمع يعيش على بقعة جغرافية مليئة بالتحديات المصيرية التي تستهدف وجود هذا المجتمع ووجود عدد من الدول المتدخلة في الشأن السوري ذات المصالح المتوافقة حينًا والمتناقضة أحياناً كثيرة.

وبطبيعة الحال لم تهدف الرابطة السورية لكرامة المواطن الترويج للفكرة المطالبة بإلغاء الخدمة الإلزامية ولكن تقريرها سلط الضوء على هذه النقطة.

فهل هذا التغير في احترام الخدمة الإلزامية كقيمة وطنية وليد الظروف التي مر بها المجتمع السوري في هذه السنوات العشر العجاف؟

وبعودة سريعة لتاريخ التجنيد الإلزامي في سورية؛ ففي مرحلة الحكم الوطني نجد أن المجتمع السوري كان ينظر باحترام للجيش باعتباره مؤسسة وطنية تهدف للدفاع عن سورية وتعقد عليها الآمال لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني ولا أدل على ذلك من يوم التسليح الذي أعلنت عنه الحكومة السورية للتبرع للجيش لدعمه بأسلحة متطورة ومدى الاقبال الجماهيري الذي فاق توقعات المنظمين لهذا اليوم، وكان السوريون ينظرون للخدمة الإلزامية باحترام وتقدير كواجب وطني للمشاركة بتحرير فلسطين وحماية الدولة السورية.

وبعد استيلاء حزب البعث على السلطة في السورية بدأ التغير في نظرة الناس تجاه الخدمة الإلزامية وإن كان طفيفاً، وأحدثت حرب الأيام الستة شرخًا كبيرًا في نظرة الاحترام الشعبية تجاه الجيش بعد الفشل الذريع في الدفاع عن الوطن.

وازداد الأمرُ سوءًا بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة، فقد تغيرت طريقة تعامل الضباط مع المجندين ولم تعد قائمة على الاحترام والحرص على جودة تدريب المجندين وساد الفساد واستغلال المجندين وبسبب طول فترة التجنيد وعدم الالتزام بمدة محددة، وأفقدت مشاركة الجيش السوري في محاربة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ومجزرة مخيم تل الزعتر وحصار طرابلس والمخيمات أي مصداقية للجيش بادعائه التحضير لتحرير فلسطين، وكان دخول الجيش السوري إلى المدن السورية في ثمانينات القرن الماضي وتدمير مدينة حماه قاصمة الظهر لأي تقدير شعبي للجيش.

وبعد استلام بشار الأسد للسلطة لم يتغير باتجاه الأفضل بالرغم من تحديد فترة الخدمة وأصبحت لا تتجاوز العامين، إلا أن منظومة الفساد أصبحت أكثر ظهورًا وأصبح دفع الرشاوي للضباط سمة غالبة للتخلص من الخدمة الإلزامية.

وبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 بات الشعور بالعداء جارفاً تجاه الجيش الذي سخره النظام لتدمير القرى والمدن السورية، وتسابق المجندون للانشقاق عن هذا الجيش وهاجر مئات آلاف الشباب إلى شتى بقاع الأرض حتى لا يكونوا جزءًا من هذه المنظومة الاجرامية.

وهنا علينا كسوريين التمييز بين استخدام النظام السوري للخدمة الإلزامية كوسيلة لدعم جيشه في معركته مع الشعب السوري، وهو استغلال سيء ومرفوض لقيمة وطنية مهمة لتدعيم حربه القذرة، وبين الخدمة الإلزامية كعمل قيمي يحظى بالاحترام والتقدير في جيش مهمته حماية الوطن والمجتمع تشرف عليه حكومة وطنية ترعى حقوق المواطنين وتطبق القانون على الجميع بالسواسية.

وأن نوضح للأجيال الشابة أن رفض الخدمة الإلزامية في جيش النظام هو بسبب الاستغلال السيء وأنه يجب الحفاظ على التقدير والاحترام للفكرة بشكل عام، حتى إذا نجح الشعب السوري في إقامة نظام حكم وطني يعود الشباب لتأدية خدمة العلم على الشكل الذي يحقق المصلحة العامة ويحفظ كرامة المجندين.