مقومات الأمن الاجتماعي في الإسلام وآليات تحقيقه

المقدمة:

تعاني البشرية مِن موجات الخوف والجوع ونقص في الثمرات والأنفس بسبب الصراعات الدامية التي تغطي رقعة الكرة الأرضية، الأمر الذي يدفع بالقائمين على شؤون الناس من حكومات وأجهزة أمنية ومؤسسات المجتمع المدني إلى التفكير بصورة جدية لإعادة صياغة الأمن بكافة أبعاده والعمل بحماس لوضع منظومة للأمن الاجتماعي يكفل كل الجوانب الأمنية التي يحتاجها الفرد في مجتمعه.

أمنه على نفسه من الأخطار المحدقة به..

وأمنه على ماله من اللصوص وشركات السطو والاحتكار، وأمنه على عائلته وأبنائه وبناته مِن الثقافات المستوردة والمعلبة بأشكال مغرية.

وأمنه الغذائي، بمواجهة عوامل التخريب الاقتصادي ومكافحة البطالة المستشرية.

هكذا أصبح الأمن الاجتماعي الهاجس الأكبر في حياة كل فرد يعيش في المجتمعات البشرية سواء كانت المجتمعات المتطورة اقتصاديا، أو المجتمعات المتخلفة، فالحاجة إلى الأمن بمفهومه الأوسع يشمل جميع بني البشر الذين يعانون من المخاوف المتعددة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والخوف من المستقبل أيضا.

وقد قامت المجتمعات ممثلة بالسلطات

السياسية،والاجتماعية والدينية بوضع جملة إجراءات وبرامج وخطط سياسية واجتماعية وثقافية تستهدف توفير الأمن الشامل الذي يحيط بالفرد والمجتمع.

وليست هذهِ الإجراءات والخطط سوى جزء مِن الأمن الاجتماعي حيث لابد من تحقيق أقصى تنمية لقدرات الإنسان في المجتمع لتحقيق أقصى قدر مِن الرفاهية في إطار مِن الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية.

هذا بالضبط ما نقصده بالأمن الاجتماعي، فهو من جانب خطط واجراءات تضعها السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إضافة إلى انّ تفجير الطاقات المخبئة في داخل الانسان للحصول على أكبر قدر من الناتج الذي ينعكس بدوره على رفاهية المجتمع واستقراره.

فمتى ما بلغ المجتمع مستوى عالياً من الرفاه والاستقرار والسكينة وعدم وجود أي نوع من أنواع المخاوف حينها يصبح هذا المجتمع آمناً قادراً على أداء مسؤولياته التي خلق من أجلها كما قال تعالى في كتابه الكريم ((فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)).

الإسلام يوفّر أفضل مستوى للأمن الإجتماعي.

عند البحث في الماضي الإسلامي ومقايسته بالحاضر البشري اليوم، وعند تقصي المبادئ التي يقوم عليها النظام السياسي الذي يرعى شؤون الناس افضل رعاية لما تعدينا الإسلام كافضل نموذج للنظام الذي يحقق للبشرية أعلى مستوى من الأمن الاجتماعي. وليس من باب التغني على الماضي نقول بأن التجربة الحية في التاريخ تؤكد لكل باحث في هذا الموضوع إن الإسلام قدم أفضل نموذج في الأمن الاجتماعي خلال حكمه للبلاد. بالأخص في عصر النبوة وعصر الإسلام الأول إذ كان المسلم يعيش في أمن تام على حياته من أي اعتداء خارجي، وكانت حياته تمضي بصورة وطيدة لا يعكر صفوها شيء من الجوع آوالعري أو الخوف من أي شيء سوى الخوف من الله سبحانه وتعالى الذي هو القاعدة الرصينة التي يقوم عليها الأمن الاجتماعي.

فمن يخف الله لا يعتدي على أحد، ولا يسلب قوت أحد، ولا يهدد أحداً في حياته أو رزقه أو أهله.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "من أصبح وأمسى وعنده ثلاث فقد تمت عليه النعمة في الدنيا، من أصبح وأمسى معافاً في بدنه، آمنا في سربه عنده قوت يومه، فإن كانت عنده الرابعة فقد تمت عليه النعمة في الدنيا والآخرة، وهو الإيمان")

وعلى غرار ذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن من النعم سعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب")

ولو تجاوزنا التجربة التاريخية للحكم الإسلامي وفتحنا ملف الأمن الاجتماعي من خلال المبادئ والآليات التي جاء بها الإسلام لتكاملت الصورة عندنا عن نظرية الإسلام في الأمن الاجتماعي. فقد كتب علماء الإسلام في هذا الموضوع وأسهبوا فيه قديماً وحديثاً.

فقال الماوردي: "اعلم ان ما به تصلح الدنيا حتى تصير احوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستة اشياء في قواعدها وإن تفرعت وهي: دينٌ متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمنٌ عام وخصبٌ دائم وأمل فسيح".

فالأمن والاستقرار مظهران خارجيان لجملة عوامل ذكرها الماوردي ورددها من جاء من بعده مثل الإمام محمود شلتوت حيث حلل في تفسيره للقرآن الكريم العوامل الباعثة عن الإستقرار والأمن متخذا من كتاب الله أساسا لمنهجه الفكري: " يدلُّنا واقع الحياة وتاريخ الاجتماع ان احتفاظ الأمة بكيانها يرتبط بأمرين لابد منهما الاستقرار الداخلي والاستقرار الخارجي. والاستقرار الداخلي أساسه صلاح الأسرة وصلاح المال وقوة النظم التي تساس بها في جميع شؤونها، والاستقرار الخارجي أساسه احتفاظ الأمة بشخصيتها واستعدادها لمقاومة الشر الذي يطرأ عليها والعدو الذي يطمع فيها، ولابد مع هذا وذاك من تقوية العنصر الروحي في قلوب أبنائها حتى يتحقق فيما بينهم التضامن والتعاون على السير في الأمة في ظل تشريعها القوي العادل في سبيل الخير والفلاح والعز والمنعة".

المطلب الأول: المقومات التي يقوم عليها الأمن الاجتماعي:

يقوم الأمن الاجتماعي على مقومات تعتبر الأسس التي ينشأ منها الأمن في مختلف المناحي التي ذكرناها والتي هي بحاجة كل إنسان وهذه المقومات هي:

أولاً: سيادة القانون:

عندما يسود القانون تطمئن النفوس وتهدأ الخواطر ويشعر كل فرد في المجتمع بأنه في مأمن من أي متجاوز يتطاول على ماله او حياته أو عياله. وليس من الغريب أن نجد ان المجتمعات والدول التي يسود فها القانون ينتشر فيها الأمن والاستقرار أيضاً.

فهيبة القانون تستثير في النفوس التي تريد الشر بالآخرين مخاوف نيل العقاب جراء أي تجاوز على حق الآخرين، وهذا الخوف من العقاب أكبررادع يمنع الأشرار من القيام بأعمالهم الشريرة فيكون الناس في مأمن من شروره وطغيانه فقد ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): (من آذى مؤمناً فقد آذاني).

وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا يحل لمسلم أن يروع مؤمناً).

فالتعدي على حرمة المسلم هو تعدي على حرمة الرسالة، وهو تجاوز على منظومة القيم التي جاء بها الإسلام لتنظيم حياة المجتمع.

وعندما تسود القيم يسود القانون أيضاً لأنه سيخرج من كونه نصوصا وكلمات ليصبح مؤشراً يؤشر لحياة الناس، وبانتشار القيم يتحقق مقوم مهم من مقومات الأمن الاجتماعي ألا وهو سيادة القانون. الذي يترجم هذه القيم إلى أفعال وتروك. وبسيادته يسود الأمن والاستقرار حيث سيقف القانون بوجه كل من تسول له نفسه النيل من حقوق الآخرين ويثير الطمأنينة في النفوس بأنها في مأمن طالما كانت السيادة لهذه القيم المترجمه في تصوص القانون.

ثانياً: التكافل الاجتماعي:

من مقومات المجتمع الصالح وجود التعاطف والتوادد بين أعضائه، كل فرد فيه يحمل كماً هائلاً من العاطفة نحو الفرد الآخر ينظر إليه كما ينظر إلى نفسه، يسدده بالنصيحة إذا كان محتاجاً لها، ويقدم له المال عند العوز، ويعرض عليه خدماته كلما ألمت به الحاجة. وهذه صفة المجتمع الإسلامي في تواده و تراحمه كالجسد الواحد يعضد بعضه بعضاً خلافاً للمجتمعات المادية التي يعيش كل فرد فيه عالمه الخاص الذي لا يمت بأية صلة بعالم الآخرين، لا جسور بينهم ولا تواصل كالجزر المتناثرة في بحر مظلم.

فنحن بإزاء نوعين من المجتمعات؛ النوع الأول تسوده المحبة والأمن والاستقرار والثاني مجتمع مفكك كل فرد فيه يعيش على حساب آلاخر، يقتات من عرق جهده متجاوزاً على حقوق غيره ففي هذا المجتمع لا نشتم رائحة الأمن ولا نحس بوجود المشاعر الانسانية.

النوع الأول هو المجتمع الإسلامي، وقد جاء في الأثر : "الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه".

وقال أيضاً: "أيما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)".

وهو مجتمع يبادر كل فرد فيه بتقديم العون لأخيه قبل أن يتفوه ويطلب حاجته كما قال علي رضي الله عنه: "لا يكلف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته".

فإذا كان محور المجتمع هو الإحسان حتى للمسيء فكيف ستكون حالته عند الرخاء والمحبة والاستقرار. كيف سيكون حال المجتمع الذي يصبح كل فرد فيه خادماً للآخر يتطوع لخدمته بكل مشاعره متلذذا بها ويستأنس عندما يأمره أخوه بأمر فيلبي له حاجته بشغف ومحبة.

"المؤمنون خدمٌ بعضهم لبعض" قلت وكيف يكونون خدما بعضهم لبعض؟ قال:"يفيد بعضهم بعضاً").

تلك خصائص المجتمع الإسلامي، يشعر كل فرد فيه أنه ليس لوحده بل هناك الآلاف ممن يعيشون معه على أرض واحدة، وهو محتاج لهم كما هم محتاجون إليه وان أي ضعف في جزء من هذا المجتع سيؤثر سلباً على الجزء الآخر. فعلى هذه الروح قام التكافل الاجتماعي كأروع ما يكون في التاريخ البشري.

ثالثاً: التعايش:

إحساس كل عضو في المجتمع أنه لا يعيش لوحده بل يعيش مع الجمع، فلابد من بناء قواعد سليمة للعلاقة معهم تقوم على أسس من القيم الإنسانية تدفع بأعضاء المجتمع إلى الإندماج في بوتقة واحدة، وتخطي الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية ويصبح الفرد منتمياً إلى المجتمع بدلا من أن يكون منتمياً إلى ذاته، يأخذ بأخلاق المجتع ويسلك سلوكه، يتغنى بأعياده ويحزن بأيامه السوداء، وهذا هو التعايش بأبهى صوره الذي يريده منا الإسلام من خلال الكثير من تعاليمه ومبادئه فقد صدع قائلاً ((يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) وكان رسول الله إذا فقد الرجل من اخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.).

وكان(صلى الله عليه وسلم) يردد قائلا (أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض) وأكثر من ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش".

فهناك فائدة كبيرة من المداراة إنه ينقذ نفسه من المخاطر التي تهدده نتيجة علاقاته الاجتماعية المتوترة: (دار الناس تأمن غوائلهم وتسلم من مكائدهم).

والدفع باتجاه التعايش هو جزء من الاستراتيجية الاجتماعية في الإسلام فعندما يقول: (ليس شيء أدعى لخيرٍ وأنجى من شر من صحبة الأخيار).

وكأنه يريد لهذا المجتمع أن يتحول أفراده إلى صالحين من خلال معايشته لهم المعايشة الإيجابية باقتفاء أثرهم والأخذ بأخلاقهم وسلوكهم الصالحة. وجاء في الأثر: اتقوا الله وكونوا بررة متحابين في الله متواصلين متراحمين. ولما كان المجتمع من حيث الغنى والفقر على درجات وطبقات وكان لابد من معايشة أضعف هذه الطبقات ضماناً للأمن الاجتماعي قال رسول الله في هذا المعنى: (تمسكنوا وأحبوا المساكين وجالسوهم وأعينوهم، تجافوا صحبة الأغنياء وارحموهم وعفوا عن أموالهم).

وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يكرر كثيراً: (جالسوا الفقراء).

لماذا الفقراء؟!:

لأنهم الطبقة المعدومة التي تحتاج إلى المساعدة بينما تأتي التوصية بالإبتعاد عن مرافقة أهل البدع بأنهم يثيروا الفتن في المجتمع ويدفع به إلى عدم الإستقرار والأمن.

(لاتصاحبوا أهل البدع ولاتجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم).

فالمعايشة ذات بعدين؛ بعد سلبي وهو كل ما يثير المشاكل في المجتمع وبعد إيجابي بالالتصاق بكل ما يمسك الجماعة ويجعلها كتلة متراصة واحدة والتعايش بهذا المعنى له آثار أخلاقية، فمن آثاره تحمل الآخرين والصبر على اذاهم وقبولهم قبولا حسناً في مختلف الظروف والأحوال في الأحزان والمسرات.

رابعاً: التسامح، ونبذ العنف:

ليس هناك ما يفتح النار على الأمن الاجتماعي مثل العنف واستخدام القوة في حسم الأمور بدلاً من العودة إلى القانون.

وقد انتشر العنف في المجتمعات بسبب انحسار حالة التسامح والتعاطف والتوادد.

أصبح العنف اليوم ظاهرة خطيرة تهدد المجتمعات بالانهيار والإنزلاق إلى حروب وصراعات داخلية، وأمامنا مجتمعات كان الأخ فيها يقتل أخيه بسبب الصراعات العقيدية التي رافقتها ظاهرة العنف، الأمر الذي يستدعي منا وقفة لتأمل هذه الظاهرة لمعرفة أسبابها ونتائجها.

لاشك ان ظاهرة العنف أكثر ما تتفشى في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل والتطرف والذي يؤدي إلى سلب الأحقية عن الآخرين، وهذا هو منشأ التطرف؛ عندما يعتقد أحدنا أنه على حق والآخرين على باطل بدون حجة منطقية ولا دليل عقلي، فيحاول أن يثبت أحقيته من خلال القوة.

فالقوة هي الوسيلة البديلة عن الحوار والإقناع ودحض الدليل بالدليل والحجة بالحجة، من هنا نشأ العنف في المجتمعات التي يسوده الجهل والتطرف وهذا ما نبذه الإسلام جملة وتفصيلا واستأصل هذه الظاهرة من جذورها فدعى إلى الحوار بدلا من التزمت على الرأي وطالب المسلم بأن يسلم للحق أينما وجده حتى لو كان عند أعدائه.

وأن لا يتكبر على أصحاب الحق وليتواضع لهم، وبهذا المنهج الرصين تمكن الإسلام أنه يقلع جذور التطرف في المجتمع.

ففي الخصال آخر ما وصى به الخضر موسى بن عمران قال له: لاتعير أحدا بذنب، وإن أحب الأمور إلى الله عز وجل ثلاثة: القصد في الجدة والعفو في المقدرة والرفق بعباد الله. وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله عز وجل به يوم القيامة.

وبالغ الإسلام في نبذ العنف حتى في النظرة فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله).

أما إذا تطاول عليه ونال منه بما يحزنه فسوف لا تنفعه كلما يقدمه رداً على ما فعله بحقه. قال الرسول الأكرم: (من أحزن مؤمناً ثم اعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفارته ولم يؤجر عليه).

والعنف ينتشر كانتشار النار في الحطب، فهو ينشأ من عمل صغير، ثم يتوسع ويتعمق ويكبر، فكانه لابد من مواجهته في منشاه.

فالعنف يبدأ بيد واحدة فتتكاثر إلى أيادي كثيرة وهذا ما نلاحظه اليوم في المجتمعات التي ينتشر فيها العنف حيث يبدأ صغيراً ويصبح كبيراً لايمكن مقاومته حين ذاك.

وهنا لابد من تتابع منشأ العنف وتطوره في داخل النفس الإنسانية من خلال حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الا أنبأكم بشر الناس؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال من أبغض الناس وأبغضه الناس، ثم قال: ألا انبأكم بشر من هذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي لا يقيل عثراً، ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنباً، ثم قال: الا أنبأكم بشر من هذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من لا يؤمن شره ولايُرجى خيره).

يضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أيدي الباحثين مراحل تطور العنف في داخل النفس الإنسانية. فالبداية تنشأ من البغضاء فانتشارُها بين الناس يوجبُ عدم التسامح في المجتمع وهو عنف خفيف عندما لايُقيل البعض عثرات البعض الآخر ولايقبل له معذرة ولا يغفر له ذنبا ثم يتطور من عنف خفيف إلى عنف شديد عندما يتحول البغض إلى منبع للشر فلا يؤمن شره ولا يُرجى خيره.

وهو مرحلة يتكامل فيه هذا المرض، ويتأصل في المجتمع ليتحول من مرض نفسي إلى مرض اجتماعي ومن مرض اجتماعي إلى ظاهرة سياسية عندما يستفحل ويتحول إلى حركة ومنظمة، هناك من يُنفذ ومن يؤيد ومن يعين على العنف.

ففي الحديث العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاءٌ ثلاثة..

وهذه هي خصائص الظاهرة الإرهابية المنتشرة اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية.

فقد تحول الإرهاب إلى مؤسسة وجمعية وحركة فهناك من يُمارسه بنفسه، وهناك من يدعمه بالمال والإعلام ومن يقف إلى جانبه ويؤيده وهؤلاء بأجمعهم يشكلون الظاهرة الإرهابية التي نُشاهد نماذج لها في الجماعات والحركات الإرهابية المنتشرة في عالمنا الإسلامي.

والعنف كما هو واضح من أخطر ما يواجهه المجتمع ويسلب منه الأمن والإستقرار وينشر الخوف والهلع بين الناس، فجاءت دعوة الإسلام إلى التسامح إلى إقالة العثرة والزلة وقبول العذر وغفران الذنب. إلى العفو عند المقدرة والرفق بعباد الله وجعل ثمن الرفق بالآخرين الرحمة الإلهية التي تنزل عليه يوم القيامة، بينما جعل جريمة قتل إنسان واحد معادل بقتل أمة يقول تعالى في كتابه العزيز: ((من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).

وطالما لم يسفك الرجل دماً حراماً فهو في مأمنٍ من كل شيء فالدم هو النقطة الحمراء التي يجب أن لا يصله الإنسان مهما كلفه ذلك من ثمن.

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).

ونظرة فاحصة إلى المجتمعات التي ينتشر فيها التسامح لانجد للعنف إليها طريقاً وهكذا كان المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، وعندما انتشر فيه التطرف والفكر الخارجي دب فيه العنف وانتشر فيه الإرهاب إلى يومنا هذا.

خامساً: التعاون الإقتصادي:

اقتصاد أي بلد هو معيار تقدمه وازدهاره واستقراره وأحد مكونات الأمن في المجتمع فعندما يكون الناس متعاونين فيما بينهم لبناء اقتصاد مزدهر تنتعش مفاصل المجتمع ويستتب فيها الأمن فلاتجد من يسلب الآخرين حقوقهم ولاتجد من يحاول أن يستغني على حساب المجتمع. بل تجد الجميع بحركة متصاعدة نحو بناء الإقتصاد سواء كان في مجال الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الخدمات. فعندما يكون المجتمع متكاتفا روحاً وجسداً تجد كل عضو فيه وهو يكمل عمل العضو الآخر، فالمزارع يزرع في الحقل والتاجر يأخذ محصوله إلى المصنع والعامل يصنع ماتنتجه الأرض وما ينتجه المزارع وهكذا تستمر الحلقة الاقتصادية بصورة مرتبة ودقيقة حاملة معها المجتمع إلى الرقي والاستقرار والأمن وقد حظي التعاون الاقتصادي باهتمام بالغ من قبل النظام الإسلامي فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان اليهم لم يعسروا).

وقال علي بن أبي طالب(رضي الله عنه): (أفضل السخاء أن تكون لمالك متبرعاً وعن مال غيرك متورعاً).

والسعي في قضاء حوائج الناس هو جزء من التعاون الاقتصادي الذي بوجوده ينتعش المجتمع، لأن وجود إنسان محتاج سيكون عالة على الاقتصاد وسيؤدي إلى انهيار الحياة الاقتصادية المرفهة.

لماذا ظلم نفسه وأساء إليها، لأن وجود إنسان محتاج يشكل ثغرة اجتماعية واقتصادية سيكون لها آثارا وخيمة على اقتصاديات المجتمع وبالتالي سيقع تأثيرها على جميع أبناء المجتمع بما فيه الشخص الغني، لأن وجود محتاج بلا سيولة نقدية يعني الجمود الاقتصادي بينما وجود السيولة بيد المحتاج سيحقق حركة في السوق بالتبادل السلعي. فهؤلاء الذين يسعون في قضاء حوائج الناس بتقديم المال لهم سواء عن طريق الهدية أو الصدقة أو القرض سيُساهموا في بناء الحياة الاقتصادية المرفهة.

سادساً: المشاركة:

لاشك ان النظام السياسي القائم على مشاركة أكبر شريحة من أبناء الوطن له دوره المباشر في تنمية الأمن الاجتماعي. فالنظام الذي يقوم على اختيار الأكثرية المطلقة من أبناء الشعب هو الذي يرى مصالح هذه الأكثرية ويوفر مستلزمات سعادتها ورقيها، وهذا النظام أقرب للاستقرار من بقية الانظمة لما يحظى من تأييد شعبي من قطاعات المجتمع، ولما هو موجود من تماسك بين الحكومة والشعب. فالحكومة تؤدي دورها الحافظ لكيان المجتمع، والمحامي المدافع عن حقوق أبناء الوطن، وهي في طريقها لتحقيق أهدافها تسعى جاهدة إلى التجاوب مع أماني الشعب وتطلعاته وتجسيد أهدافه في الحياة الكريمة وتوفير الحماية الكامله له ولعائلته.

في الوقت نفسه يشعر الفرد المواطن أنه يعيش تحت ظل نظام يسهر على راحته ويُحقق رغباته المشروعة ويمضي قدما في بناء الوطن على أسس رصينة منطلقاً من منافع الشعب لا منافع طائفة أو حزب أو فئة. وعلى هذه الأسس من العلاقة القوية بين الشعب والدولة يقوم نظام الحقوق والواجبات. فللشعب حقوق وواجبات، حقوقه أن يحظى بحماية الدولة ويتساوى أبناؤه، وأن تتوفر له الحرية الكافية لينطلق في اداء واجباته، وهي مساهمة لبناء الوطن من خلال العمل الذي يقوم به سواء في الزراعة أو الصناعة أو الوظيفة، أو أي عمل آخر يقوم به.

يذهب إلى عمله بقلب مطمئن، ونفس راضية تحت غطاء من الحماية والأمن وهذا ما نلاحظه في الحكومات الديمقراطية التي تقوم على مبدأ المشاركة أما الحكومات الإستبدادية التي لايشعر فيها المواطن بأية قيمة إنسانية فلا وجود للآثار التي ذكرناها، لا وجود للحرية الكفيلة ولا وجود للمساواة والعدالة اللتان تشعران الإنسان بأنه محمي من قبل القانون، ولا وجود للعلاقات المتينة بين السلطة والشعب القائمة على مبدأ الحقوق والواجبات، والنتيجة الحاسمة لهذا النظام انعدام الثقة بين الشعب والدولة وانتشار الخوف؛ الخوف من السلطات، الخوف من المستقبل، الخوف على مصير الأبناء. وحصيلة كل ذلك ينعكس على فقدان الأمن الاجتماعي. لذا كان لابد من أخذ مبدأ المشاركة الشعبية في بناء النظام السياسي كمقوم أساسي من مقومات الأمن الاجتماعي.

وقد قام النظام الاسلامي على مبدأ الشورى حيث ورد في الكتاب العزيز ((وأمرهم شورى بينهم)) وأمرهم هنا يشمل كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد طبق المسلمون هذا المبدأ في العصور الاسلامية المختلفة محققين أعلى درجات المشاركة الشعبية في بناء السلطة والدولة والقرار السياسي.

ولم يكتف الإسلام بالدعوة إلى المشاركة في بناء السلطة والدولة بل جعل الناس شركاء في الثروة أيضاً، لايحق لأية سلطة مهما كانت قوتها منع المواطن من المشاركة الاقتصادية.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار).

وعندما تكون المشاركة السياسية قائمة على المشاركة الاقتصادية وتوزيع الثروة بصورة عادلة على أبناء الشعب تصبح هذه المشاركة عميقة الجذور، راسخة القواعد لا يمكن أن تلغيها أية قوة أو سلطة، لأن الشعب هنا هو المالك للثروة، وبما يمتلكه يستطيع أن يؤكد إرادته السياسية. وهذا ضمان لاستقرار البلاد وضمان لتوفر الأمن واستتبابه وليست هناك أية قوة قادرة على خرق جداره السميك لأنه متجذر على أرض صلبة وعلى جسور متينة بين الدولة والشعب.

سابعاً: الشعور بالمسؤولية:

قوة الأنظمة تقاس بمقدار ما تستطيع أن توجد لدى رعاياها الشعور بالمسؤولية، فالنظام الذي يتصف أبناؤه بقدر كبير من الشعور بالمسؤولية والنظام القوي القادر على فرض هيمنته على الجميع.

الشعور بالمسؤولية هو الزخم الذي ينتج الطاقة الخلاقة والتي بواسطتها تتمكن من تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فإحساس الإنسان بأنه مسؤول عن بني جنسه الذين يعيشون معه، وانه مسؤول عن الأرض التي يعيش عليها والمناخ الذي يتنفس منه، وانه مسؤول حتى عن الحيوان والجماد يجعله عنصراً إيجابياً للمجتمع يدرك المخاطر التي تهدد أبناء جنسه والأضرار التي تلحق بالأرض والبيئة والحيوان والنبات.

فالإحساس بالمسؤولية يولد لدى الإنسان شعوراً بأن كل شيء من حوله هو مسؤول عنه، هو مسؤول عن الأرض التي يعيش عليها والتي بدونها لايستطيع أن يحيا، كذلك الأمر بالنسبة إلى الهواء والماء والتراب والإنسان والحيوان والنبات وكل شيء. وقد عمل الإسلام على إيجاد هذا الإحساس في الإنسان المسلم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

هكذا يتبين لنا ان دائرة المسؤولية تتوسع لتشمل حتى البهائم والبقاع وهي الأراضي المتروكة التي تنتظر الإعمار، ويؤكد حجم المسؤولية التي تقع على عاتق الإنسان باعتباره خليفة الله على الأرض ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).

فالإنسان وبما أنه خليفة الله على الأرض فهو يتحمل مسؤولية كبيرة إزاء ما في الأرض وما عليها وحتى الذي في أعماقها ولايُمكن أداء هذه المسؤولية إلا في ظرف يسوده الأمن والاستقرار ولابد من إيجاد هذا الظرف لتسهل المهمة أمام الإنسانية في عمارة الأرض وإنشاء المدن والحضارات البشرية.

وفوق كل ذلك الإسلام يبني لنا الإنسان المسؤول القادر على تحمل أعباء المسؤوليات الجسام، وهو الذي يتصف كما ورد في حديث المعراج: (كثير حياؤهم قليلٌ حمقهم كثيرٌ نفعهم قليلٌ مكرُهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب، كلامهم موزون محاسبين لأنفسهم متعبيبن لها).

وهم الذين يتحملون أعباء المسؤوليات الجسام عن طيب خاطر حيث ورد: (خير الناس من تحمل مؤونة الناس).

فالمؤمن كتلة من الخيرات، يبادر لعمل الخير بدون إيعاز من أحد: (بادروا بعمل الخير قبل أن تشتغلوا عنه بغيره)، وقال أيضاً: (إن الله يحب من الخير ما يعجل)، فخير البر عاجله، وشعوره بالمسؤولية جعله حساساً إلى ابعد الحدود، يُسارع لعمل الخير قبل الآخرين لايؤجل عمل الخير خشية انشغاله عنه بأمور أخرى.

ومن خصائص الإنسان المسؤول هو الإنفاق فيده مبسوطة بالعطاء لا يتباطأ في تقديم العون لمن يحتاج.

وقد وصف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هؤلاء: (خير الأيدي المنفقة)، وعندما يقوم هذا النموذج الصالح المسؤول في المجتمع يصبح المجتمع الإسلامي مجتمعاً خيراً ورسولا للسلام والأمن، ليس فقط على أرض الإسلام بل على جميع البقاع والأقطار.

ثامناً: الأخوة:

الشعور المتبادل بين الفرد والآخر هو أساس التضامن والتماسك في المجتمع أن يوجه المسلم مشاعر الحب والود إلى المسلم الآخر فيعملان معاً على ترسيخ قواعد هذا الحب داخل المجتمع. عندما توجد هذه المشاعر تتولد أحاسيس اجتماعية من قبيل التخوف من الحاق الضرر بأبناء المجتمع، والعمل على توفير الراحة والرفاهية لأبنائه، مثله مثل الأب الذي يحرص على حياة أبنائه يخشى عليهم من ظلمة الليل ومن الريح العاصف ولا يهدأ له بال إلا عندما يُشاهد أبناءه في راحة واستقرار بعيداً عن مواطن الخطر. وهذه المشاعر لن تتكون إلا في إطار الأخوة، عندما يشعر كل فرد في المجتمع بأنه أخ للفرد الآخر. ومساحة الأخوة في الإسلام أوسع من المفهوم المتعارف اجتماعياً، فهو يطلق عبارة الأخ على كل فرد مسلم فكل من ينتمي إلى عقيدته هم أخوة له تتكون بينهم قواسم مشتركة من الحب المتبادل والعمل المشترك والميدان الواحد. بل ذهب الإسلام إلى ما هو أكثر من ذلك فهناك أخوة في النسب وهناك أخوة في الدين وهناك أخوة في الخلق، وقد شبه الإمام الغزالي عقد الأخوة في الإسلام بعقد النكاح بين الزوجين قائلا: (اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين)، ثم يحدد حقوقاً ثمانية للأخوة الإسلامية مستلهماً من الأحاديث والروايات( أن تبدأه بالسلام، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشيعه إذا مات.

والأخوة بهذا المفهوم يضع بين المسلمين واجبات وحقوق. من هذه الحقوق: (من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يُشبع جوعته، وأن يواري عورته، ويُفرج عنهُ كربته، ويقضي دينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده)، وبإزاء هذه الحقوق ليست هناك مشكلة إلا وهي قابلة للحل، وحتى مشاكله بعد مماته سيجد من يحلها ويتصدى لها.

وليست الأخوة فقط القيام بهذه الواجبات وحسب بل هي مشاعر متدفقة تتداخل لتتحول إلى شعور واحد يجمع الكل في إحساس واحد من الأخوة، فالمؤمن يأنس للمؤمن يُجالسه ويُلاطفه يلتجأ إليه عندما تهب عليه المصائب وتحوم حوله المشكلات: (إن المؤمن يسكن إلى المؤمن كما يسكن الضمآن إلى الماء البارد).

الحياة في واقعها مجموعة أزمات ومصائب فعندما تحل بأحد أزمة لا يوجد طريقاً للخلاص إلا في أحضان أخيه المؤمن وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من نفس عن أخيه المؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه سبعين كربة من كرب الآخرة)([43]) وفي إطار من الأخوة بنى الإسلام المجتع الإسلامي في المدينة المنورة الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا.

فكم كان بين الأوس والخزرج من الحروب الطاحنة، وكم كان بين المكيين وأهل يثرب من أحقاد دفينة اججها اليهود بين هاتين الطائفتين كلها تبخرت مع حلول آصرة الأخوة حتى أصبح الأنصاري أخا للمهاجري يهب له أفضل زوجاته ليختار منهن ما يريد، كما فعل سعد بن الربيع الأنصاري لعبد الرحمن بن عوف المهاجري، فأين تجد هذه الصورة الرائعة من الأخوة، لن تجدها بالطبع إلا في ظل الإسلام الذي بنى المجتمع على قاعدة العقيدة وجعلها أفضل ركائز في التعامل الاجتماعي فقتل المسلم أخاه الكافر الذي أولدته أمه من أجل عقيدة الاسلام. وأمام هذه العقيدة تزول كل الحواجز والثغرات.

تاسعاً: المواطنة:

الانتماء إلى الوطن ركن أساس في الحياة الاجتماعية، بدون هذا الانتماء يصبح الإنسان بدون هوية معلقاً بين السماء والأرض، فالانتماء مسألة ضرورية لتكوين العلاقات الحميمة بين أبناء المجتمع الواحد.

وينشأ من الانتماء إلى الوطن شعور غامر بأن الوطن هو بيته وداره وانه مسؤول عن سلامته وأمنه ورفاهيته وديموميته، عندما يتولد هذا الانتماء يصبح الفرد جزءا من الكل، وانه لبنة في بناء كبير ويترتب على هذه المشاعر مسؤوليات ازاء الوطن ومن يعيش على أرضه. فيتمنى أن يرى وطنه بأبهى صورة من جمال الطبيعة وجمال المدن والمرافق العامة والمباني.

يتوقع أن يرى أبناء وطنه على أفضل صورة وهم يمارسون حياتهم الطبيعية بشوق ولهفة ويتوقع أن يرى سواح بلاده وهم يحملون أفضل الانطباع عن وطنه بعد زيارتهم له وعودتهم إلى بلدانهم.

ويتوقع أن يرى وطنه نظيفاً سليماً من الجهل والمرض تنتشر فيه المدارس والجامعات وتعمه المراكز الصحية من مستشفيات ومصحات.

يتوقع أن يرى وطنه وقد أصبح في مصاف البلدان الراقية والمتطورة اقتصادياً وثقافياً وصحيا، يتمنى أن يضرب وطنه الرقم القياسي في الرخاء الاقتصادي والامن الاجتماعي والتقدم العمراني والسلامة الصحية والرقي الثقافي ويُرافق جميع هذه التوقعات والتمنيات عمل جاد يقوم به كل فرد في المجتمع حسب امكاناته والأدوار التي يقوم بها.

من هنا كان من الضروري على المربين والمرشدين أن يخلقوا المشاعر الوطنية في نفوس ابناء الوطن منذ الصغر حتى تنموا هذه المشاعر مع نموهم الفسيولوجي.

فتنمية هذه المشاعر هي مسؤولية دينية ووطنية وهي مسؤولية كل من يريد الأمن والاستقلال والاستقرار للبلاد وكل من يريد ابعاد الوطن عن شبح الصراعات والمعارك الداخلية التي تنجم عن انتماءات وهمية تتحول إلى انتماءات مؤثرة ومحركة لفصائل المجتمع. وهكذا عندما تطغى الانتماءات الثانوية على الانتماء الحقيقي للوطن تبدأ الازمات وتنتشر الخرقات فتنهار الأسس والضوابط التي يقوم عليها بناء الدولة والأمة، فيتبدد كل أمل بالأمن والسلام والاستقرار.

عاشراً: الغذاء لكل فم:

ضمان الحاجة إلى الغذاء هو ركن آخر من أركان الرفاه الاقتصادي والأمن الاجتماعي، فالبلدان التي تعاني من الفقر والفاقة هي البلدان التي تشهد الاضطرابات بينما البلدان الغنية هي أكثر استقراراً وأمناً، وهذا لايعني انعدام الحوادث فيها، ربما تأتي بعض الأزمات بسبب الغنى سيما إذا اضطربت المعايير الأخلاقية في المجتمع وسادت الممارسات التي يفرزها الغنى كشرب الخمر وتناول المخدرات وانتشار المافيات. لكن على العموم يمكن لنا أن نقيس تقدم وازدهار واستقرار البلدان إلى عامل الوفرة الغذائية كأحد العوامل المؤثرة في الاقتصاد والرفاه وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن الكريم في قوله (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

فالعبادة كقيمة معنوية لا يُمكن فرضها إلا في حالة الاستقرار وفي حالة التوازن النفسي والاجتماعي وهذا ما لا يتأتى إلا بخطوتين؛ الأولى: تأمين الجانب الغذائي للبشرية. والثانية: ضمان الأمن وازالة المخاوف.

فالغذاء أولا وقبل كل شيء فقبل أن تُطالب الإنسان بأية مسؤولية لابد من تأمين حاجاته إلى الغذاء. وقد رعى الإسلام هذا الموضوع أشد اهتمام فبالغ في دفع المسلمين إلى الزراعة وتنمية القدرات الانتاجية لتوفير سلة الغذاء للمواطنين، فمن ناحية أخرى كافح البطالة بشتى السُبُل، ومن جانب آخر أعطى ضمانات مالية لكل من هو عاجز عن العمل لأسباب صحية تعيقه عن القيام بأعباء الحياة، وبهذا حل الإسلام أزمة الغذاء وإلى الأبد ممهدا الطريق أمام الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي وكل الأهداف التي يسعى من أجلها المجتمع الإسلامي.

وعند إعادة قراءة المقومات السابقة لا نجد صعوبة في القول إن جميعها تتداخل بشكل وآخر مع هذا العامل وهو توفير الحاجات الغذائية للإنسان.

فالقانون لا يُمكن تطبيقه إلا بإزالة المجاعة من المجتمع.

وتوفير الغذاء، والتكافل الاجتماعي حلقتان متداخلتان، وأساس التعايش هو التعاون الذي يقوم بين أبناء الشعب الواحد في توفير سبل الحياة والعيش الكريم، والتسامح وإشباع الحاجة إلى الطعام عاملان متداخلان أيضاً، والتعاون الاقتصادي أحد أسسه التعاون على توفير المحصول الزراعي سواء بواسطة الزراعة أو التجارة أو الصناعة. والمشاركة السياسية لا يُمكن بلوغها إلا عندما تكون الأفواه مملوءة بالطعام ولا يُمكن تنمية الشعور بالمسؤولية إلا بعد سد حاجات الفرد من الغذاء واللباس والمسكن ورعاية شؤونه الصحية والتعليمية.

والأخوة الإسلامية إذا لم تقم على تلبية المسلم لحاجة أخيه المسلم في كافة الأمور لا فائدة من هذه الأخوة بل ستتحول إلى شعار براق، وأخيراً المواطنة بحاجة إلى عربون لقيام هذا العقد بين الوطن والمواطن وعربونه هو كرم التربة والأرض عندما تدر بالمحاصيل أو المعادن فتصبح هذه الأرض بخيراتها ذات قيمة حياتية للفرد فيقوى انتماؤه إلى هذا التراب، وتالياً تقوى عنده روح المواطنة.

هذه هي المقومات الأساسية التي يقوم عليها الأمن الاجتماعي والتي بدونها تتبدد الآمال بتحقيق الأمن والسلام.

وسائل وآليات الأمن الاجتماعي:

ذكرنا سلفاً ان فكرة الأمن الاجتماعي تقوم أساساً على وجود تلك المقومات وعلى وضع الخطط والمناهج الحكيمة لكن تبقى هناك ضرورة وجود وسائل وآليات تعجل في تحقق الأمن الاجتماعي وهي: القضاء والمؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني من جمعيات الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية وأيضاً شركات التأمين عن الحياة وجميع هذه الوسائل تعمل بعد وجود المقومات السابقة.

وللإسلام وسائله وآلياته الخاصة في توفير الأمن والاستقرار، وهي:

أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

المجتمع الإسلامي؛ مجتمعٌ يصلح نفسه بصورة ذاتيه من خلال منظومة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مجتمع ديناميكي متغيّر ومؤشرات التغيير تُشير دائماً إلى الأفضل. فأي مظهر سلبي سيُقابل بمواجهة شاملة من قبل أبناء المجتمع بأسره، فهناك دفع باتجاهين اتجاه نحو إصلاح الخلل وهو النهي عن المنكر واتجاه نحو إشاعة المعروف وهو الأمر بالمعروف وهذا يعني ان حركة المجتمع هي نحو الأمام أخذاً بالمحاسن ونبذاً للمساوئ.

وآلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل التي تحصن المجتمع ضد الانحراف والجريمة لأنها تخلق رأياً عاماً، وهذا الرأي العام سيُنمي الأجواء الإيجابية في المجتمع، ويقلع الأجواء السلبية. قال الإمام أبو زهرة: (إنه في سبيل تهذيب الأفراد أوجب أن يكون هنالك رأي عام مهذب ملائم يحث على الخير وينهى عن الشر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن الرأي العام له رقابة نفسية تجعل كل شرير ينطوي على نفسه فلا يظهر، وكل خير يجد الشجاعة في إعلان خيره).

ولأهمية ذلك جاءت دعوة الإسلام بقيام جماعات ومؤسسات وحركات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر تحت ظل الآية الكريمة ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)) وذلك لضمان استقامة المجتمع ونظافة مسار حركته باتجاه الإصلاح والخير، ويتجلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجمعيات الخيرية ومؤسسات النفع العام التي تعمل لصالح المجتمع في مجالات الرعاية الاجتماعية والصحية والحماية من الثقافات الهدامة وجمعيات حماية الأطفال من الانحراف شكل من أشكال هذه الجمعيات التي تعمل في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانياً: القضاء والحدود:

العقاب العادل هو الوسيلة الوحيدة التي تردع من شب على الجريمة ولا سبيل لإصلاحه إلا بمعاقبته العقاب الذي يستحقه، ولهذا اهتم الإسلام بالقضاء، وأعطيت هذه المهمة إلى رئيس الدولة، فهو المسؤول عن القضاء فقد كان الخلفاء الراشدون هم الذين يفصلون في القضايا إضافة إلى وظيفتهم الأساسية في إدارة الدولة، وذلك لحساسية هذه المهمة لأنها تتعلق بتثبيت الحق من خلال معاقبة المسيء والإحسان إلى المحسن.

وقد وضع الإسلام حدوداً لمواجهة الأشرار رأفة منه بالمجتمع الذي تهدده الجريمة إذا لم يُستخدم أساليب الرد..فللحدود دور في استقرار المجتمع.

ويأتي دور القضاء بعد استنفاذ كل الوسائل والطرق في مكافحة الجريمة، بعد استنفاذ وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعجز المجتمع عن استئصال الجريمة بالطرق السلمية، فكان لابد من اللجوء إلى آخر الدواء وهو القضاء ليحكم القاضي بحكم الله ويصدر حكماً رادعاً يرتدع منه المنحرف ويمنعه عن مواصلة انحرافه، ويمنع من تسول له نفسه العبث بأمن الناس وأمن المجتمع.

إذاً الأمن الاجتماعي بحاجة إلى العصا الغليظة أيضاً كما هو بحاجة إلى الكلمة الطيبة، فلولا الصرامة التي تواجه بها اللصوص لواصلوا تطاولهم على أموال الناس وممتلكاتهم، ولكي تصبح القوة إشارة رادعة تمنع الآخرين من ممارسة اللصوصية. وهكذا نجد أن مساحة الأمن الاجتماعي هي مساحة كبيرة تشملُ مختلف الأساليب والطرق والآليات فكل ما يؤثر في الأمن يؤخذ بنظر الاعتبار عند المخططين للأمن الاجتماعي.

وتقوم بمساعدة القضاء أجهزة أمنية تسهر على راحة المواطنين، فهي تؤدي دوراً كبيراً هي العين الحارسة على مصالح الناس وأرواحهم، وهي تنشط عندما تجد ثغرة أو انحرافاً فتُسارع في التدخل واتخاذ الأجراء اللازم ويُشكل وجود هذه الأجهزة قوة رد تمنع الأشرار من العبث بمقدرات الناس.

وتقوم الدول بتطوير أجهزتها الأمنية وتمنحها صلاحيات واسعة في إقرار الأمن، لكن ما يُخشى عليه أن تتحول هذه الأجهزة بسبب اتساع صلاحياتها إلى التمادي فتتحول هي بنفسها إلى سبب في عدم الاستقرار، وانعدام الأمن كما نُشاهد ذلك في البلدان البوليسية التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية العابثة بمقدرات الناس، لكن وجود القضاء العادل هو الذي يمنع ايضاً هذه الأجهزة من التمادي، ويضعها عند حدود مسؤوليتها دون تجاوز الصلاحيات الأمنية الممنوحة لها من قبل القوى الأمنية الصالحة.

ثالثاً: الكفارات:

الذنوب التي يرتكبها الإنسان ذات بعد اجتماعي حتى لو كان ذلك الذنب هو الإفطار في شهر الصيام، فكيف لو تم هذا الافطار من زنا، فهناك مجموعة من الذنوب التي يرتكبها المسلم لها آثار اجتماعية وخيمة، ومن أجل تصحيح الموقف كان لابد لمن ارتكب الذنب أن يعوض المجتمع بجزء من ماله لإطعام ستين مسكيناً أو عشرة مساكين في بعض الموارد، ويُسمى هذا المال الذي يدفعه المسلم عوضاً عن ارتكابه لهذا الذنب بالكفارة. فالكفارة إذاً هو وسيلة من وسائل تحقيق الأمن الاجتماعي فهو من ناحية يمنع التجاوز على قيم وضوابط المجتمع بتشريع الضريبة المالية الموجعة في بعض المرات، ومن جانب آخر يعوض المجتمع بالأخص الطبقة الفقيرة بمقدار من المال عند قيامه بالتجاوز فعلاً.

ولاشك ان هذا الأسلوب (الكفارات) يقوم على فكرة واقعية وراقية هي إن للذنوب التي قد يرتكبها المسلم آثارا اجتماعية، وانها تتسبب في فقد التوازن الاجتماعي ومن أجل إعادة هذا التوازن للمجتمع لابد من توجيه عقوبة مالية لمرتكب الذنب، وهي مقدار من المال تصرف على فقراء المجتمع.

رابعاً: أشهر وأماكن الحرم:

لشدة اهتمام الإسلام بالأمن الاجتماعي حدد لنا أربعة أشهر حرم يحرم فيها القتال، كما وحدد بعض الأماكن المقدسة التي يحرم فيها حمل السلاح كالمسجد الحرام، وهذا يعني في الواقع إن الإسلام ضد الحرب والقتال وانه دين السلام والمحبة، وانحصار الأشهر الحرم بأربعة أي ثلث السنة لا يعني أنه يدعو إلى القتال في الأشهر الأخرى بل هو من باب تدريب الناس على التعايش السلمي والابتعاد عن الحرب حدد هذه الأشهر الأربعة لتتأصل هذه العادة في النفوس التي اعتادت على التصارع والقتال والعنف ثم لتتحول إلى قيمة اجتماعية وحضارية.

ونقف عند نقطة أخرى، فمهما اشتد أوار الصراع في الأرض فثمة أماكن آمنة حددها الإسلام يستطيع أن يلتجأ إليها الإنسان الخائف على حياته، ففي هذه الأماكن سيجد مأمنه ويزول عنه الخوف حيث ليس هناك من يهدده في حياته أو ماله.

وهذا مما يمنح الإنسانية مقداراً من الشعور بالأمن والاستقرار بأن ثمة أماكن يمكن له أن يطمئن اليها على حياته مهما كانت الخطورة الموجهة إليه. وهذه الفرصة يمنحها الإسلام للإنسان الخائف على حياته بسبب اعتداء ظالم موجه إليه وهو بالطبع لا يشمل المجرمين الذين يفرون إلى هذه الأماكن للتخلص من العقاب فهؤلاء لا يحصلون على هذا الامتياز حيث يضيق عليهم حتى يخرجوا من هذه الأماكن لينالوا جزاء أعمالهم.

خامساً: حسن الظن:

المجتمع الاسلامي هو مجتمع الثقة المتبادلة التي تقوم على مبدأ حسن الظن.

فدعوة الإسلام إلى حسن الظن بالآخرين، وصحة عمل المؤمن والأخذ بظواهر الأمور هو ليس من باب تبسيط الأمور والتغطية على أصحاب النوايا الدنيئة الذين يفلتون من عقاب المجتمع تحت ذريعة هذه القيم، لا بالطبع فحسن الظن ليس تبسيطاً للأمور بل من أجل تعزيز حالة الثقة في المجتمع، بحيث كل فرد في هذا المجتمع يثق بالآخر فعندما يصبح كل فرد في المجتمع وهو يحمل في نفسه الثقة العالية بالآخرين يعيش هذا المجتمع في سلام ووئام فيتحقق الأمن الاجتماعي والاقتصادي.

أما سوء الظن بالآخرين واتهامهم جزافاً بلا علم ولا كتاب مبين يؤدي إلى تفتيت المجتمع وانقسامه، وليس أدلّ على ضياع هذه القيمة الإسلامية من انتشار ظاهرة التكفير في المجتمعات الإسلامية وهي ظاهر خطيرة سلبت الأمن والإستقرار من الكثير من البلاد الإسلامية، وهي ليست من الإسلام بشيء، بل على عكس ما جاء به الإسلام الذي حمل للبشرية المحبة والسلام والإخلاص والثقة المتبادلة.

سادساً: الصحبة الخيرة:

من وسائل الإسلام في إصلاح المجتمع تحصينه ضد الأفكار والممارسات الهدامة هو الدعوة إلى الصحبة الخيرة، بأن يختار المسلم صديقه اختياراً صحيحاً، لأن الصديق هو الطريق لنقل العدوى، فإذا جعلنا هذا الطريق سالكاً وسليماً أوقفنا انتقال مكروب الانحراف من شخص لآخر.

وقد أولى الإسلام أهمية كبرى إلى الصداقة والأصدقاء داعياً إلى تعزيز روح الأخوة والصداقة مانعاً ما يعكر أمر الصداقة الصحيحة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (سائلوا العلماء وخاطبوا الحكماء وجالسوا الفقراء)، وقال أيضاً تأكيداً على روح الجماعة والابتعاد عن الفردية: (من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، ولتحصين المسلم من مخاطر العلاقات الاجتماعية الفاسدة دعا إلى نبذ أهل البدع والأفكار المنحرفة.

ولتمتين العلاقات الاجتماعية وتقويتها وضع الإسلام بعض القواعد المهمة، كأن تلق أخاك بوجه طلق، والابتسامة في وجه أخيك صدقة.

سابعاً: الصدقات:

للصدقات أبعاد اجتماعية ونفسية واقتصادية، فهي من جانب تخفف من آلام الحاجة والحرمان عند الطبقة الفقيرة من المجتمع، ومن ناحية أخرى تُحسن الدافع الوجداني والراحة النفسية وإنها تشارك أبناء المجتمع عمومه وتساهم في الارتقاء بالمجتمع إلى مستوى مناسب من الاكتفاء الذاتي وعدم الحاجة.

ومن ناحية أخرى تُحرك الصدقة دواليب الاقتصاد لأنها توفر السيولة لدى المحتاجين وهي بدورها تُحرك عجلة السوق، ومن هذه المواقع يأتي تأثير الصدقة في الأمن الاجتماعي فهي من جانب تمنع الجريمة التي ترتكب بسبب الحاجة والعوز، وتمنع الفساد الأخلاقي الناشئ من الفقر والفاقة، وفي الحديث الصدقة حملة السارق والزانية والغني البخيل على التوبة والإصلاح.

ومن جانب آخر الصدقة تنمي الشعور الجمعي والإحساس بالآخرين في المجتمع وكلها مؤشرات فاعلة في استئصال شأفة الجريمة والميوعة والبطالة الجرمية.

ومن أجل هذه الأهداف شرع الإسلام هذا العطاء وجعله في بعض الموارد من الواجبات كالزكاة وفي موارد أخرى من المستحبات، فالصدقة الضريبة التي يدفعها المسلم ليعيش في جو آمن مُسالم، وهو يدفعها عن طيب خاطر وراحة ضمير.

فالصدقة هي الوسيلة الناجعة لمكافحة الرذيلة والانحراف لأنها تقلعها من جذورها.

كيف ذلك؟ لأن المجتمع الذي يعيش في الرفاهية وفي بحبوحة العيش سينعم بالأمن والاستقرار أيضاً.

ثامناً: المسجد ومنبر الجمعة:

من الأسباب التي تؤدي إلى استتباب الأمن واستقرار المجتمع هو اجتماع الناس فيما بينهم واستماعهم إلى النصائح والتعريف بمشكلاتهم وحلولها وهذا ما يقوم به المسجد من دور أساسي في تنمية الأحاسيس الاجتماعية من خلال الحضور المباشر والمستمر في المسجد ومن خلال ما يسمع في خطب الجمعة من أحاديث تهم أبناء المجتمع.

وهذا الحث الذي نجده في الإسلام بهذا الشكل هو لتحقيق الغايات السامية في المجتمع، ومنها بالطبع تأمين الجانب الاجتماعي والذي بدوره ينعكس في تحقق الأمن الاجتماعي.

تاسعاً: الأسرة:

الأسرة هي القاعدة التي يُبنى عليها الضوابط الاجتماعية من خلال تعهد الأبوين لأبنائهم وتربيتهم التربية الصالحة، وقد أوجب الإسلام على الاباء مسؤولية تخريج أبناء صالحين يُساهمون في بناء المجتمع على أسس رصينة وذلك من خلال تربيتهم لأبنائهم التربية الإسلامية بتعويدهم على عمل الخير وتأصيلهم على حب الآخرين واحترامهم، وتقوية الفضائل في نفوسهم مثل الصدق وحفظ الأمانة ورعاية الضعفاء والمساكين، فهذه الصفات الحميدة لايُمكن أن يكتسبها الفرد إلا في أسرة سليمة يقوم الأب بالدور المناط به، وكذلك تقوم الأم بالدور المرسوم لها، فإذا أديا ما عليهما من مسؤولية فإن أبنائهما سيكونوا صالحين وتالياً سيكون المجتمع مجتمعاً صالحاً يسودهُ الأمن والاستقرار.

عاشراً: المؤسسات التربوية والخدمية:

من الدعوات الملحة التي أكد عليها الإسلام الدعوة إلى التجمع للقيام بالمسؤوليات البنائية في المجتمع. يقول تعالى في محكم كتابه الكريم ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))

فكل مؤسسة أو جمعية تعمل لخدمة المجتمع سواءٌ في المجال التربوي أو الثقافي أو الاقتصادي أو الخدمي تنطوي تحت هذه الآية الكريمة، وكان الإسلام حريصاً أشد الحرص أن يكون عمل هذه المؤسسات خاضعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذات الدلالات العبادية والخدمية وفي الميادين الوسيعة.

وكل عمل يستهدف الخير والاحسان للمجتمع، ويعمل على تخليصه من براثن الانحراف والانزلاق هو في إطار الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي دعت إليه الآية الكريمة.

ولاشك إن لهذه المؤسسات والتجمعات التي تقوم بأعباء هذه الأنشطة دور مهم في تأسيس بنية الأمن الاجتماعي، وتمتين جذور المجتمع ليتمكن من مواجهة الانحرافات والثغرات التي تُسببها الحالات الفردية.

فمسؤولية هذه الجمعيات والمؤسسات هي الوقاية من هذه الخروقات بدفع المجتمع إلى عمل الخير وتحصينه من بذور الشر والانحراف.

نتائج، ووصايا:

من كل ما تقدم نستطيع أن نستخلص هذه النتائج ونوصي بما يأتي:

  1. الإسلام بنظامه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يُقدم لنا أفضل نموذج للأمن الاجتماعي.
  2. لابُد من تفعيل دور الأسرة في بناء الإنسان السوي وسد الثغرات التي ينشأ منها الخروقات الأمنية والإنحرافات.
  3. التأكيد على دور المدرسة في تنمية الأخلاق العامة لخلق الجيل الناهض، وتحصينه من الإنحراف.
  4. التأكيد على دور المسجد كمنطلق لتكوين التجمعات المناطقية القائمة على التكاتف والتعاون.
  5. تحفيز المجتمع على التعاون والتكاتف والتراحم وإشاعة روح التواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  6. تكفل اليتامى والمشردين واحتضانهم في مؤسسات الرعاية الاجتماعية والصحية.
  7. العمل على رفع مستوى الدخل الفردي بمكافحة التضخم والبطالة.
  8. بث ثقافة التعايش في المجتمع.
  9. إشاعة روح التسامح وحسن الظن بالآخرين.
  10. تفعيل دور القضاء واحترام القانون والالتزام بالمقررات والتعليمات التي تنظم شؤون المجتمع وتشديد العقوبة على المنحرفين والأشرار.
  11. إقامة صندوق للصدقات والكفارات والهبات وتنظيم توزيع إيراداتها على المحتاجين وحسب حاجاتهم.
  12. إشاعة روح المواطنة وحب الوطن وزرع روح المشاركة للعمل على اعماره والحفاظ على وجهه الحضاري.
  13. إيجاد جهاز للمشاورة الاجتماعية والنربوية يلحق باحدى الوزارت المعنية مهمته تقديم المساعدة لذوي المشكلات النفسية والاجتماعية.
  14. وأخيراً لابُدّ من وجود هيئة تتحمل مسؤولية التخطيط لأمن الاجتماعي، وهي تضم ممثلين عن الأجهزة الأمنية وأئمة المساجد ومنظمات المجتمع المدني ومدراء المدارس والدوائر المعنية وأساتذة جامعيين في علم الاجتماع والتربية... إلى آخره. تقوم هذه الهيئة بالتخطيط ووضع الوسائل وتحديد السبل لتحقيق الأمن الاجتماعي.

المصادر والمراجع:

١. ابن ورام، أبي الحسين ابن ابي فراس المالكي: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، الدار الإسلامية.

٢. الإمام أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، دار الفكر العربي، القاهرة 1975.

٣- اسكندر، نبيل رمزي: الأمن الاجتماعي وقضية الحرية، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية 1988.

٤- سيد فهمي، محمد: الرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعي، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية 1998.

٥- الامام محمود شلتوت: تفسير القرآن الكريم، دار القلم، القاهرة 1966.

٦- عمارة، محمد: الإسلام والأمن الاجتماعي، دار الشروق، القاهرة 1998.

٧- العوجي، مصطفى: الأمن الاجتماعي مقوماته تقنياته، ارتباطه بالتربية المدنية، مؤسسة نوفل، بيروت 1983م.

٨. الإمام الغزالي، أبي حامد: إحياء علوم الدين، طبعة عثمان خليفة سنة 1933م.

٩- الماوردي: أدب الدين والدنيا، دار الكتب العلمية، بيروت.

١٠- الهندي، علي المتقي بن حسام الدين: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مكتبة التراث الإسلامي، حلب 1989م.

وسوم: العدد 1003