العقد الأسدي الأول وحروبه: البنية كتاريخ

خاض نظام حافظ الأسد الذي أكمل للتو عامه الثاني والخمسين ثلاث حروب في العقد الأول، التأسيسي، من حكمه، انحفرت في سجله الوراثي خلال السنوات والعقود اللاحقة.

الحرب الأولى ضد إسرائيل، وبالاشتراك مع مصر، في محاولة للرد على هزيمة حزيران التي طعنت في شرعية النظامين. خرجت سوريا من الحرب خاسرة عسكرياً أكثر من مصر، واستنتج النظام أن عليه أن يتجنب الحرب مع العدو القوي، وهو ما كان خلص إليه كذلك وعبر عنه صراحة أنور السادات الذي مضى إلى مصالحة فوقية مع الواقع الإسرائيلي. حافظ الأسد التزم بدرس الحرب، وإن لم يصرح بذلك، بل وأن ثابر نظامه على اعتماد خطاب مواجهة لم يترجم قط إلى فعل حتى بعد أن ضربت إسرائيل في سوريا مراراً وتكراراً، وإلى اليوم بعد ما يقترب من نصف قرن من تلك الحرب الأخيرة.

الحرب الثانية هي الحرب اللبنانية التي يخفي تقلب مواقع النظام في سنواتها الطويلة وراءه استمرارية على مستوى معين: إشغال الموقع المهيمن الذي يمكنه من توجيه التفاعلات اللبنانية بما يناسبه، من ضرب منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية في البداية واغتيال كمال جنبلاط إلى المواجهة مع الكتائب والقوات اللبنانية، إلى مواجهة ياسر عرفات من جديد في طرابلس، إلى دعم حركة أمل في حرب المخيمات… إلى تقييد جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وتوكيل المواجهة مع الإسرائيليين في جنوب لبنان إلى حزب الله الذي شكله الحرس الثوري الإيراني بعيد إخراج قوات منظمة التحرير من لبنان. كان لبنان هو المختبر الذي جرى فيه تطوير «الدور الإقليمي لسوريا»، أي حيازة «أوراق» يمكن اللعب بها مع القوى الدولية والإقليمية النافذة. عدا منظمات فلسطينية ولبنانية بلغت من الضعف أن فقدت إرادة ورؤية مستقلة، بنى النظام علاقات مع حزب العمال الكردستاني الذي كانت قيادته في لبنان، لكنها انتقلت بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 إلى سوريا التي صارت مركزاً سياسياً لأنشطته الموجهة ضد الحكم التركي لأزيد من 15 عاماً بعدها. في الفترة نفسها طور النظام علاقات مع المنظمات الشيعية والأحزاب الكردية العراقية ضد النظام البعثي المنافس في العراق أيام صدام حسين. ظل الحكم الأسدي متحكماً مباشرة في النظام اللبناني حتى الخروج الاضطراري من البلد الصغير عام 2005. لم يتلاش التحكم بعد ذلك، لكن تغيرت صيغته: صار يجري عبر حزب الله الشيعي اللبناني، المستمر من جهته في منع استقلال لبنان واستقراره، والحيلولة دون تشكل أكثرية لبنانية يمكن أن تطور سياسات استقلالية حيال النظام في دمشق. الاغتيالات الإجرامية التي جرت في فترة ما بعد انتهاء الانتداب السوري كانت مزيجاً من انتقام ومن إيضاح الحدود أمام من قد يفكرون بالتئام لبناني واستقلال حقيقي للبلد.

خارج المختبر اللبناني، أخذ «الدور الإقليمي» في وقت لاحق أشكالاً غنية بالعواقب، منها تسهيل عبور سلفيين جهاديين إلى العراق إثر الغزو الأمريكي له بغية بث الفوضى في البلد الجار والإمساك بشيء يمكن المساومة عليه. الورقة السلفية لعبت كذلك في لبنان ذاته عبر تنظيم فتح الإسلام كأداة فرعية للعب في الداخل اللبناني.

الحرب الثالثة هي حرب أهلية سورية ببعد طائفي قوي، تفجرت إثر مجزرة ارتكبها إسلاميون بحق عسكريين علويين في حلب في حزيران 1979، وقد كسبها النظام منذ صيف 1980 إثر الاحتلال العسكري لحلب في ربيع العام نفسه، وإن تكن أفدح وقائع هذه المواجهة وقعت في حماه 1982 ضد تمرد محلي لإسلاميي المدينة. بدءاً من عام 1980 نفسه، وخلال معظم عقد الثمانينيات، تحول النظام إلى معاقبة المنظمات اليسارية المعارضة التي لم تصطف إلى جانبه أو كانت مجاهرة بمعارضته، فضلاً عن سحق انتقامي حقود للإسلاميين. صارت الحرب الداخلية ضد قوى أضعف بكثير، أو حتى منظمات سلمية تجمع بالكاد مئات من الأفراد، منطقاً للسياسة في سوريا طوال العقدين الأخيرين من حكم حافظ.

وبما أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فقد نقشت دروس هذه الحروب الثلاث المبكرة بعمق في بنية النظام. لقد طور إدماناً على الحرب التي ينتصر فيها، الحرب الأهلية التي ترسخت كبنية مستمرة عبر أجهزة أمنية مطيفة وتشكيلات عسكرية ذات وظيفة أمنية مطيفة هي الأخرى. وعرض امتناعاً تاماً عن الحرب التي يخسرها، الحرب ضد العدو المحتل للجولان، ولم يؤشر انطلاق «عملية السلام» معه عام 1991 في مدريد على تغير بنيوي في الداخل السوري. وحده الدور الإقليمي انقلب على نفسه كما سنقول للتو، فصارت أدوات التدخل في الجوار متدخلة هي ذاتها في سوريا.

مواجهة الثورة السورية بالحرب منذ اللحظة الأولى هي بمثابة استئناف لإدمان الحرب الأهلية. منذ أن ألقى بشار الأسد خطابه الأول يوم 30 آذار 2011 تكلم على الحرب وبدا الأمر محسوماً سلفاً. الحرب الأهلية كبنية للنظام هي غريزته السياسية الأصيلة التي سبقت، عبر تطييف الوظيفة الأمينة، حتى تفجر أول حروبنا الأهلية أواخر السبعينيات، وإن تكن هذه رسختها ترسيخاً حاسماً.

اجتناب الحرب مع القوي الإسرائيلي استمر بصلابة اجتناب السياسة مع الداخل السوري، حتى بعد أن أخذت إسرائيل تضرب في سوريا دونما توقف. الإيرانيون وأتباعهم من الحزب اللهيين المستهدفون بالهجمات الإسرائيلية التزموا بحرص وسواسي بتجنب الرد الذي قد يكلف النظام بقاءه. هذا استبطان لمنطق أن السيادة العليا لإسرائيل، وأن الحرب الممكنة هي ضد بيئات التمرد السورية.

أما «الدور الإقليمي» فقد شهد انقلاباً عجيباً. كانت «سوريا الأسد» قد عملت كقلب يضخ العنف في الجوار العراقي والتركي واللبناني (مع محاولات لم تنجح في الجار الرابع، الأردن)، لكن هذا القلب انبسط بعد الثورة وعاد إليه الدم: حزب الله اللبناني الإيراني متدخلاً في سوريا حامياً للنظام، حزب العمال الكردستاني متدخلاً بدوره بتسهيل من النظام منذ تموز 2012 للسيطرة على المناطق الكردية وعزلها عن الثورة، ميليشيات شيعية عراقية تحارب مع النظام، وتفعل كذلك منظمات فلسطينية مستتبعة منذ عقود. وعاد من العراق أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، رسول خراب للسلفية الجهادية السنية. تبدو «سوريا الأسد» قلباً عنيفاً لما يحيط بها من إقليم، ويبدو تاريخها خلال نصف قرن ونيف من الحكم الأسدي بمثابة نبضة مكتملة: تدخل منها في الخارج القريب يعقبه تدخل الخارج القريب في الداخل السوري. المحصلة: سوريا بلا داخل، أي كذلك بلا خارج.

وخلال عقود، كان السوريون موضوعا للعبة وليسوا لاعباً بحال. اللاعب هو حكم عائلي، يستخدم الموالين له بالذات ورقة بقاء. كان متباهون بالدور الإقليمي للنظام ومعجبون بنموذجه التسلطي، مثل باتريك سيل وناهض حتر، يثنون على تحويله سوريا من ملعب إلى لاعب. سيل وحتر لم يرحلا قبل انقلاب لاعبهما إلى ملعب من جديد. هنا أيضاً ثمة مستمر بنيوي بين الطورين: الحكم الأسدي منظمة ما دون دولة في حقيقته، مثل حزب الله والحزب العمال الكردستاني والمنظمات السلفية، استولت على دولة وجعلت منها قاعدة لحكم سلالي.

52 عاماً من الحكم الأسدي هو تاريخ نزع وطنية الدولة في سوريا عبر منظمة ما دون الدولة الحاكمة. أزمة الوطنية والمواطنة في سوريا جذرها هنا، في نزع وطنية الدولة، وقد تطور إلى نزع ملكية البلد من سكانه لمصلحة تحالف سلالي أجنبي.

وسوم: العدد 1007