مرضى الحنين إلى النيو – عثمانية

ليس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولا «حزب العدالة والتنمية» وكوادره وقياداته، هم وحدهم دعاة استعادة الإمبراطورية العثمانية كما يسود اعتقاد شائع؛ تبسيطي من حيث المبدأ، ولكنه أيضاً يختزل ظاهرة اجتماعية وثقافية وشعورية تتجاوز بكثير عناصر الحميّة الدينية أو نوستالجيا الخلافة أو تغذية الفخار القومي. ولعلّ أفضل العلائم على تلمّس الجوهر الفعلي لهذه الظاهرة، في تجليات مختلفة وأشدّ عمقاً وإدهاشاً أحياناً، إنما تحيل إلى المخيّلة عبر أنماطها المختلفة، وخاصة بالطبع في ميادين الآداب والفنون من جانب أوّل؛ ثمّ لدى شرائح علمانية أو ليبرالية على وجه التحديد، داخل صفوف الأدباء والفنانين.

هذا هو موضوع كتاب «المتخيَّلات النيو – عثمانية في تركيا المعاصرة»، الذي أشرفت على تحريره كاتارينا رودفير وبيتيك أونور، وصدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات بالغريف/ ماكميلان في لندن؛ وضمّ 11 مساهمة تستكشف عشرات المظاهر ذات الصلة بحضور العثمانية الجديدة، في العمارة والفضاء العام ووسائل الإعلام والطقوس والأعياد والمناسبات والسياسة والذاكرة والمتاحف والنُصُب وأسماء الشوارع والساحات، فضلاً عن الشعر والرواية والمسرح والتشكيل والسينما والموسيقى… وكلّ هذا بعيداً، كثيراً أحياناً، عن السياسة المباشرة والصراعات الحزبية والانتماءات العقائدية، الأمر الذي لا يثير الدهشة في مستوى أوّل، فحسب؛ بل يحثّ على التأمل الثقافي للظاهرة وعلى الذهاب أبعد من المعطيات الجلية إلى العمق المبطّن أو الخفي من تفاعلاتها وتأثيراتها. وإذا صحّ أنّ «العدالة والتنمية»، والتيارات السياسية والفكرية المحافظة التركية إجمالاً، تأتي في طليعة أنصار الظاهرة النيو – عثمانية، فإنّ خلاصة كهذه لا تطمس إلا النزر اليسير من حقيقة الوجود الطاغي للظاهرة، في الميادين المشار إليها آنفاً؛ كافة، في الواقع.

على سبيل المثال، ليس جديداً (إلا عند المتشبثين باختزال الظاهرة وتبسيط مفاعيلها المتعددة) أنّ روائياً علمانياً وليبرالياً مثل أورهان باموق (نوبل الآداب، 2006) هو في طليعة المصابين بـ»حنين النيو – عثمانية»، رغم مواقفه المناهضة بقوّة لسياسات أردوغان وحزبه، وجسارته في تظهير التاريخ الدامي للإمبراطورية العثمانية والممارسات الأتاتوركية والمذابح بحقّ الأرمن واضطهاد الكرد. ويندر أن تخلو رواياته من ذلك التغنّي، الغنائي أحياناً وعلى خلاف نبرته الأسلوبية العامة، من تلك المشهدية التعددية التي رسخها العثمانيون على أصعدة إثنية ودينية ولغوية وثقافية، في اللباس والمطبخ كما في الموسيقى والعمارة. وسواء ذهب إلى أحياء إسطنبول الأقدم، أو توغل في نفوس متصوفة على تخوم المدينة الزاخرة، أو استبصر كتاباً أسود في أغوار قلعة بيضاء؛ فإنّ القواسم المشتركة عند باموق ترتدّ، دائماً، إلى التاريخ العثماني، أو الانفلات عنه، أو حضوره في تركيا الراهنة/ الشرق أوسطية، أو تمثيلاته في الثورة الثقافية الأتاتوركية.

وفي علم الاجتماع البسيط، فإنّ شيوع هذا المرض على نطاق اسع عابر للحساسيات والعقائد، متغاير في الزمان والمكان، موحِّد في كثير أو قليل بين أمثال باموق وشفق وبديع الزمان… يستوجب الكثير من الرصانة والتعمق والتأمل، واستبعاد الاختزال والقراءة الأحادية

وهل يُدهش المرء، في مثال ثانٍ، أن تكون ابنة بلده الروائية إليف شفق مصابة بمرض الحنين إياه؟ من الأيسر الذهاب في المثال الأول إلى روايتها «تلميذ المعماري»، 2015، التي تُبحر في قرن كامل من التاريخ العثماني، يبدأ من سنة 1540 وتتناوب على سردياته المتشابكة أجيال بعد أجيال من الأتراك، وهذه المفردة الأخيرة ذات دلالة خاصة وكبيرة في الرواية. ولا عجب في أنّ معظم النقّاد الأتراك لا يرون ضلالة، أو زيغاً أو سوأة، في هذا التوجّه الذي دأبت عليه شفق؛ بينما يذهب عدد غير قليل من الباحثين والنقاد الأوروبيين، من أهل الاختصاص في التاريخ العثماني تحديداً، إلى درجة اتهام الروائية التركية بـ»إشاعة يوتوبيا عثمانية»… ليس أقلّ! آخرون من هؤلاء قرأوا رواية «لقيطة إسطنبول»، 2006، بوصفها بحث شفق عن «فضاء نقيّ وآمن» للمجتمعات التي تدين بالولاء للروحية العثمانية؛ رغم أنّ زليخة بطلة الرواية شخصية متمردة ورافضة للتقاليد المحافظة، على خلاف أختها بانو المحجّبة والمتدينة.

وإلى جانب باموق وشفق، هنالك روايات أحمد رفيق ألتيناي (1880-1937)، التي لم تهبط شعبيتها قطّ لدى شرائح متنوعة من القراء الأتراك المصابين بالمرض إياه؛ رغم أنّ المجتمع التركي تجاوز الكثير من المواضعات والأعراف التي تشدد تلك الروايات على تبجيها وامتداحها، كما تحثّ على إحيائها. هنالك، أيضاً، الشاعر واسع الشعبية يحيى كمال بياث (1884-1958)، وزميله أحمد حمدي تانبينار (1901-1962)؛ وكلاهما لم يكتفِ بالحنين إلى الأحقاب العثمانية، بل غمز من قناة الأتاتوركية والجمهوريين والجمهورية. هذا إذا وضع المرء الأدباء والكتّاب جانباً، واستسأنس بمجموعة خاصة من دعاة العثمانية الجديدة، تألفت عموماً من متصوفة أقاموا صلات وثيقة مع طرائق صوفية مشرقية نافذة مثل النقشبندية والرفاعية، ثمّ حركة تجديد التصوّف التي قادها بديع الزمان سعيد نورسي الكردي (1877-1960).

وفي علم الاجتماع البسيط، فإنّ شيوع هذا «المرض»، إذْ تستوجب الأمانة العلمية حصر المفردة ضمن أهلّة، على نطاق اسع عابر للحساسيات والعقائد، متغاير في الزمان والمكان، موحِّد في كثير أو قليل بين أمثال باموق وشفق وبديع الزمان… يستوجب الكثير من الرصانة والتعمق والتأمل، واستبعاد الاختزال والقراءة الأحادية. هذا، الشطر الأوّل من المعادلة الآنفة، هو ما يجهد المشاركون في كتاب «المتخيَّلات النيو – عثمانية في تركيا المعاصرة» لتبيانه ورصده وتحليله؛ بما ينتهي إلى خلاصات لامعة، علمية وملموسة ومهتدية بنُظُم تحليل متقدمة، تتكفل بإحالة الشطر الثاني من المعادلة إلى سلال مهملات التسطيح.

وسوم: العدد 1021