الرّوحُ المعنويةُ ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر (4)

مَــدخَـــل الحلقة (4)

انتهينا في الحلقتين السابقتين (2 و3) إلى النتيجة الآتية:

إنّ الإيمان والقِيَمُ الإيمانية في الإسلام، تُحدِّد الصفات الخُلُقية للإنسان المسلم كما أرادها اللّه عزّ وجلّ، التي بدورها، تُبقيه باستمرار، مُتَمَتِّعَاً بروحٍ معنويةٍ عالية، وهذه الرّوح المعنوية هي الشرط الذي لابدّ منه لتحقيق الإنجازات، صغيرةً كانت أم كبيرة، والإنجازات عادةً تُقوّي درجة الإيمان عند الإنسان، وتزيده ثقةً بإيمانه. وهكذا، تكتمل دورة: (الإيمان والإنجاز)، كما هو موضّح بالشكل الآتي:

sdgsgfgsss1033.jpg

*     *     *

وقمنا بذكر نماذج من الصفات الخُلُقية الإسلامية، التي لابدّ للإنسان المؤمن أن يتحلّى بها، وعرفنا تأثيرها المحوريّ في تحقيق الإنجازات. وفي هذه الحلقة (4)، نتابع دراسة نماذج أخرى من الصفات الخُلُقية الإسلامية، ذات التأثيرها المحوريّ في تحقيق الإنجازات، فنذكر منها ما يأتي:

د- الاستقامة:

وهي الاستمرار في طاعة اللّه عزّ وجلّ مهما كانت الظروف، ما دام الإيمان ملازِماً للمرء، مُستمرّاً في تمكّنه منه، قلباً وعقلاً وفكراً، فالمؤمن الحقّ لا يفكّر هل يطيع اللّه أم لا، بل يفكّر بأفضل الشروط لتقديم الطاعة في أفضل حالاتها، يقول سبحانه وتعالى في محكم التنزيل:

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ).. (فُصّلت/30، 31، 32).

فماذا يريد الإنسان المؤمن أكثر من هذا الذّي أعدّه اللّه له ووعده به في حال استقامته على الطاعات؟.. وهل هناك أفضل من طاعة اللّه في إنجاز الأعمال؟.. وهل ستكون هناك روح معنوية أعلى من روح المؤمن الذي وعده اللّهُ الذي لا يخلف وعده، بكل ذلك الخير العظيم في الدّنيا والآخرة، وحباه بكل تلك النعمة الغالية، التي لا يحلم بها غيره، ولا تخطر على قلب بشر؟!..

ه- الإخلاص:

ليس أدلّ على الإيمان من إخلاص القلب لربِّ العالمين، وصلاح النيّة في كل قولٍ وعملٍ وحركةٍ وسكون، فعندما يُسلم المرء وجهه للّه عزّ وجلّ، ويُقبل على عمله بصفاءٍ في النيّة وابتغاءٍ لمرضاته سبحانه وتعالى الذي آمن به، إنّما يكون بذلك قد ارتفع بقيمة ما يقوم به من أعمالٍ، إلى منزلة العبادة الصافية النقيّة لرب السماوات والأرض.

إنّه الإخلاص في إنجاز الأعمال، الذي يتولّد عن عمق الإيمان، فيدفع المرء للتضحية بكل غالٍ ورخيص، في سبيل أن يكونَ عملُهُ أفضل الأعمال، وإنجازه أعظم الإنجازات، لا يحكمه في ذلك إلّا ابتغاء رضى اللّه عزّ وجلّ: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).. (البيّنة/5).

وإنّ فقدان الإخلاص في إنجاز الأعمال، دليل على فقدان الإيمان من النفوس، وسيطرة نوازع الأثرة وحب الذات والرغبة في العلوّ والافتخار، وهي كلّها عوامل مدمِّرة للأعمال، هادمة للبنيان، مورّثة للفشل والنكسات: (إنّ اللّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صُوَرِكُم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم).. (رواه مسلم).

و- الصّبر:

فالمؤمن يوطّن نفسه على احتمال كل صعب، وانتظار النتائج مهما كانت بعيدة، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، بثباتٍ ورباطة جأشٍ وتماسك، يعكسه مدى قوّة إيمانه. (.. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).. (آل عمران/من الآية 186).

والصّبر وسيلة المؤمن للنجاح في اختبار اللّه عزّ وجلّ لمدى تـَمَكُّن الإيمان من نفسه، والصّبر من دلائل هيمنة النفس على كل شيءٍ حولها، وهو دليل على النضوج والبطولة والصلابة، لأنّ الأعمال الكبيرة والأهداف العظيمة لا يتصدّى لها إلّا أصحاب النفوس الكبيرة العظيمة، التي تَمَكَّنَ الإيمان منها، فرفع من درجات تحمّلها، وقَوَّى كواهلها، وشدَّ من عزائمها لإنجاز أعمالها.. وفي ذلك يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (.. يبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم فمن ثَخنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه ومن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه).. (رواه: سعد بن أبي وقاص، حديث صحيح، المحدّث: الألباني).

والمؤمن الحق يعمل ويعمل ويصبر على عمله لأنه يعلم أن النتائج بيد اللّه سبحانه وتعالى، وليس المطلوب منه إلّا أن يتّخذ كل الأسباب لإنجاز أعماله، ويبذل الجهود المناسبة لذلك، ثم يصبر ويصبر لا يزحزحه عن طريقه وعَزمه شيء، لأنه يطمع بجزاء اللّه في الآخرة، وهو يعلم أنّ أعظم الأجر يُمنح للصابرين العاملين:

(.. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)..(النحل/96).

ز- اليقين والتّوكّل:

المؤمن باللّه سبحانه وتعالى، يعرف أنّ عليه أن يفعل ذلك بشكلٍ مُطلق، فيتوجّه بكلّ جوارحه نحو الإله الواحد الحيّ القيوم الذي آمن به، ويعلم أنّ حق اللّه عليه، هو الخضوع الكامل له والانقياد والتسليم المطلق له إلهاً واحداً يتوجّه إليه بالعبادة والطاعة، ويعدّ العدّة للقائه، ويرهب من عقابه، ويطمع في ثوابه، وإلى كل ذلك يطمئنّ قلبُهُ وعقلُهُ وفِكْرُهُ، كما تطمئن نفسه وجوارحه.

واللّه سبحانه وتعالى الذي يؤمن به الإنسان المسلم حق الإيمان، جعل لكل نتيجةٍ سبباً، وجعل من سنن هذا الكون، ما هو سبب للنفع وما هو سبب للضرر، ثم جعل كلَّ ذلك بيده سبحانه وتعالى، ورسم للمؤمن طريقه لإنجاز أي عملٍ مهما كان، فأمره أن يتخذَ بالأسباب كلها ثم يسأل اللّه عزّ وجلّ تحقيق النتائج.

وهكذا، فالمؤمن دوماً وحتى يكون مؤمناً حَقَّ الإيمان، عليه أن يبذلَ كلَّ جهدٍ ممكنٍ للوصول إلى المطلوب، ويتّخذ كلَّ وسيلةٍ مشروعةٍ لا تتعارض مع مقتضى إيمانه، ثم يطلب من اللّه العون والمدد، ويعتقد بدون أي شكٍّ أو ريبٍ، أنّ الموصل إلى تحقيق الأهداف هو اللّه عزّ وجلّ وحده، وأنّ الأمور بيده سبحانه وتعالى، وهذا هو التوكّل:

(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).. (الطلاق/من الآية3).

فالمؤمن الذي يتوكّل على اللّه سبحانه وتعالى حق التوكّل في أعماله كلها، إنّما يُفَعِّل مَخزوناً هائلاً من الطاقة الإنسانية في سَيْرِهِ لإنجاز أعماله، فينجزها في أفضل صورة، بروحٍ معنويةٍ عاليةٍ تعكس حقيقة أنّ هناك قوةً لا مثيل لها، تُعينه على ذلك إذا سار في الطريق الصحيح لاتخاذ الأسباب، وبَذَلَ الجهدَ المناسب، هذه القوّة الداعمة مادياً ومعنوياً، هي قوّة الإله الواحد الأحد الذي آمن به، إنّها قوة الخالق عزّ وجلّ، التي لا تنفد، ولا يحصل أي إنجاز بدونها.

*     *     *

-يتبع إن شاء الله.

وسوم: العدد 1033