رودريغيز والعداء للسامية
خرجت علينا الأخبار يوم الخميس الموافق 22/5/2025، أن شخصاً أمريكيا يدعى إلياس رودريغيز من مدينة شيكاغو أطلق النار على اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن، أمام المتحف اليهودي، ما أدى إلى قتلهم، وبمجرد انتشار الخبر، خرجت الجوقة إياها، بلطم الخدود والبكاء والعويل، بأن مرتكب الجريمة كان مشحوناً بعدائه للسامية وطافحاً بخطاب الكراهية، أي أنه يكره اليهود. وتكررت هذه الأقوال، واستخدمت التعابير ذاتها، وكأن مذكرة جاهزة يتم استخراجها من الكمبيوتر ويتم توزيعها على ذوي الشأن لتردادها، من دون تبصّر.
خرجت علينا وزيرة العدل الأمريكية تخبرنا أن قلب الرئيس انفطر إثر سماعه الخبر، وأنه يعتبر هذا الفعل عداءً للسامية، وأكدت وزيرة العدل أن لا مكان لخطاب الكراهية في بلادنا، وكأنها لم تسمع رئيسها، يستخدم ألفاظ كراهية على المهاجرين وعلى ناهبي ثروة أمريكا، من قبل لصوص الدول الأخرى. وتلاه رئيس وزراء بريطانيا والرئيس الفرنسي وسيدة ايطاليا الجميلة، وانتهت حفلة الزار بالسید نتنياهو، الذي أكد أن العملية إثبات جديد على أن العداء للسامية وكره اليهود، ما زالت متأصلة في نفوس البعض، وسايره في ذلك وزير خارجيته. جميعهم استخدموا التعابير ذاتها والمصطلحات ذاتها، وكأنهم يقرأون على الشيخ نفسه!
من الوقائع الثابتة التي وردت على لسان شرطة واشنطن، وسمعها أيضا من شاهد الشريط المصور، أن المتهم كان يهتف «فلسطين حرّة… فلسطين حرّة». لم يعلق أحد من أفراد الجوقة على هتاف المتهم، ولماذا كان يهتف لفلسطين، وما دخل حرية فلسطين بالعداء للسامية وخطاب الكراهية؟ إن هذه السرعة في اختراع الدوافع لدى المتهم أمرٌ مثير للشبهة والاستغراب، حتى قبل أن يتم التحقيق مع المتهم. من الواضح ان هذه العجلة في تسويق تهمة العداء للسامية يقصد منها التغطية على الدوافع الحقيقية، وهي الأقرب الى التفسير المنطقي والعقلاني، وهي تأثر المتهم بمحرقة غزة، وما يرتكب من فظائع لم يعد العقل البشري السوي يستطيع أن يتحملها. المتهم كان يهتف «فلسطين حرّة»، ولم يهتف بـ»الموت لليهود»» أو التطاول على الرموز الدينية لليهودية، ولم يوجه اتهامات بذيئة «لليهود»، أو أطلق تهديدات بقتل «اليهود»، وهي مكونات أساسية في العداء للسامية، وخطاب الكراهية كما طورتها الحضارة الغربية وثقافتها وممارساتها.
إن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل لا علاقة لها باليهود، لاسيما وأننا نشاهد الآلاف من اليهود يتظاهرون في مختلف الدول يحملون يافطات تحمل شعار «ليست باسمنا»، أو أن «إسرائيل ترتكب إبادة»، أي أن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ترتكبها باسمها لوحدها وعلى مسؤوليتها، ولا علاقة لليهود بها، هذه الشعارات تعلن براءة اليهود من الجرائم التي ترتكبها العصابة الحاكمة في إسرائيل، بوعي وبتبرير قانوني غير سائغ. ألم نسمع رئيس العصابة الصهيونية الحاكمة في تل أبيب في أول أيام المحرقة يعلن أنه لا يوجد شخص بريء في غزة، ویجب القضاء عليهم، وهذه دعوه للقتل خارج نطاق القانون، يعلنها حاييم هيرتزوج، وهو محامٍ ولا بدّ أنه يدرك الآثار التي تترتب عليها دعوته، ذلك أن نصف سكان غزة هم دون السنّ القانوني، أي أنهم أطفال، ولا تجوز مساءلتهم جنائياً. ولم تتحرك نقابة المحامين الإسرائيليين لجلب هيرتزوج للمساءلة، أو حتى فصله من النقابة على بذاءته تلك.
إن ما ردده المتهم من هتاف لحرية فلسطين، لا بدّ أنه يعكس الوجع الذي تحدثه فيه محرقة غزة، وتجويع الأطفال وأمهاتهم. إن صور المحرقة تنقل مباشرة على شاشات التلفزيون ووسائط الميديا الأخرى، وهذا من شأنه أن يحفر في الضمائر الحية ويستفزّ مشاعرها. ألا تذكرنا هذه الحادثة، بحادثة الطيار الأمريكي آرون بوشنيل، الذي أحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن في 25/2/2024، وكان يهتف «فلسطين حرّة» بينما النار تشتعل في ثيابه؟ وكيف نفسر مظاهرات الطلبة في أكثر من سبعين جامعة أمريكية، بما فيها أقدم وأعرق الجامعات مثل كولومبيا وهارفارد وييل ونيويورك وبراون وبيركلي. وهل جميع هؤلاء الطلاب يحركهم العداء للسامية وخطاب الکراهية؟ لقد أجاب الجنرال الإسرائيلي يئير غولان، بتاريخ 20/5/2025 الذي كان أول من قاد قواته لمحاربة حماس، في أول أيام المحرقة، بقوله «إن دولة عاقلة لا تقتل الأطفال كهواية»، وحذر من أن سلوك إسرائیل سوف يودي بها إلى أن تصبح دولة «منبوذة»، کما کانت جنوب افریقیا أيام الابارتهايد.
إن هتاف رودريغيز ما زال يتردد في ضمائر البشر، الذين لم يصابوا برجس الصهيونية، فقبل أیام، كانت زميلتي سيسيليا کولفر، تلقي كلمة الخريجين في جامعة جورج واشنطن، وهي الجامعة التي تخرجت منها قبل عقود، وتقول بلسان لا يترجرج وبنبره وادعة، إلا أنها تحمل شعوراً إنسانياً حارقاً: «إنني أشعر بالخجل حين أعلم أن الرسوم التي دفعتها لتمويل دراستي كانت قد استخدمت لتمويل حملة إبادة جماعية». لقد زلزلت كلماتها البسيطة قاعة الاحتفال واستقبلها زملاؤها الخريجون بحماس شديد. إن سيسيليا، مثلها مثل رودريغيز وبوشنيل، لم تحّركهم مشاعر العداء للسامية ولا خطاب الكراهية، إنما حرّكتهم كراهية الفجور في ارتكاب الجرائم الصهيونية في غزة، وموت أطفال غزة جوعاً، وكراهية منظر الناس تموت حرقاً على يد عصابة تجد كل الدعم ممن هم على شاكلة المجرم الفار من وجه العدالة الدولية.
إنها محرقة غزة أيها الأغبياء، حيث تقوم إسرائيل بحرق الأطفال فيها «كهواية»!
وسوم: العدد 1126