النص القرآني وآفاق التأويل

د. محمد سالم سعد الله

إشكالية فهم النص القرآني

محمد شحرور نموذجاً 

د. محمد سالم سعد الله

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

النص القرآني وآفاق التأويل

يظن البعض أن النص القرآني قد استوى على دلالته ، وفُسرت آياته ووضحت أحكامه وانتظمت قراءته بجهود أولئك المفسرين القدامى ، الذين انطلقوا من اتجاهات شتى في بيان دلالة النص القرآني بأبعاده المختلفة ، النصية الإرشادية ، والبلاغية الإعجازية ، واللغوية النظامية ، والفقهية الشرعية ، والمجمل والمفصل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والقصص والعبر والعظات ، ونحو ذلك.

وطبيعة النص القرآني تأبى ذلك الظن وترفضه ، لأن القرآن الكريم قد حث أصحابه على التأمل والتدبر والنظر المستمر الذي لا يعرف التوقف عند حد معين ، ولا يقتنع بفكرة واحدة قد تقيد النص وتحجم من طرق الاستنباط له. قال I : } أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { ، وقال أيضاً جل وعلا : } وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {.

وانطلاقاً من كون النص القرآني يحمل دلالات عدة ، ووجوه للتأويل متشعبة ، بحيث غدا نصاً متشظي الدلالات ، متسع المعنى ، مفتوحاً لطرق الاستنباط والتأويل الموضوعيين المرتبطين بطبيعة النص القرآني من حيث بنيته وأنظمته ورؤاه ومستودعه المعرفي والإنساني ، انطلاقاً من ذلك كله اجتهد بعض المعاصرين لتقديم قراءات معاصرة للنص القرآني ، تحمل في طياتها آفاق التعامل مع هذا النص ، مستفيدة من طروحات المناهج العلمية والتقديم الفكري والمعرفي الحاصلين في عصر العلم والتكنولوجيا ، والثورة المعلوماتية الهائلة بمختلف جوانبها.

وحسبنا أن نضع أيدينا على مشاريع ثلاثة ، قدمت ـ بل منحت ـ لأنفسها حق اللجوء إلى التأويل وآلياته لاستنباط الدلالات ـ التي قد تكاد مختفية وراء السطور والكلمات ـ من النص القرآني ، تلك المحاولات ارتكزت على جوانب مختلفة لتقديم قراءة معاصرة تعكس صلاحية النص القرآني لكل زمان ومكان ، ومحققة طروحات إعجاز هذا النص من خلال التحليل الدقيق لمعطياته التي رأوها مكنونة في نظامه البنيوي ولم تكتشف بعد ، ولسنا بصدد الحديث عن ردود الأفعال الموافقة أو المخالفة لتلك القراءات ، فهذا ميدان قد لا نستطيع الخوض في غماره ، وذلك لسببين : الأول خطورة النص  القرآني ، وثانياً عدم امتلاكنا لناصية العلم والمعرفة التي يتمتع بها أصحاب تلك القراءات.

وهذه المشاريع الثلاثة هي :

1-     الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة ، الدكتور المهندس محمد شحرور(1).

2-     مفهوم النص : دراسة في علوم القرآن ، الدكتور نصر حامد أبو زيد(2).

3-     جدلية القرآن ، الدكتور خليل أحمد خليل(3).

اتسم كل مشروع بخطوات جريئة ميزته عن غيره ، فالدكتور خليل أحمد خليل فسر بعض نصوص القرآن الكريم وفق الصراع الجدلي بين ثنائيات عدة منها : ( جدل الوعي والوحي ، جدل الغيب والأنبياء ، جدلية الخلق والنشور ، جدلية الطبيعة والإنسان ، جدلية الانقياد والصراع ، جدلية العادات والعلاقات الاجتماعية ، جدلية المجتمع والأمة
والدولة … ).

وقد ذكر المؤلف أن كتابه هذا جاء " للعقل والعاقلين ، سببه التزامنا العلي والعملي بتراثنا ، وخطره أن يخرج على المألوف الإيماني والإلٍحادي في تقويم الإرث السلفي ، أما هدفه العام فهو استنباط الدلالات الجدلية في القرآن الكريم ، وتصنيفها في ثلاثة مستويات تحليلية وتأليفية هي : الغيب ، الطبيعة ، البشر "(4) ثم يحدد الهدف الخاص لهذا الكتاب بقوله : " الهدف الخاص … هو وصل ظاهرة الفكر القرآني بتاريخ اجتماعي ملموس ، فبما أن القرآن الكريم كتاب أوحي للعقل ـ وكل ذي عقل يُوحى إليه ـ فإن العقل العربي المعاصر مسؤول عن ممارسة حقه الواجب في محاورته جدلاً ، نفياً وإثباتاً "(5).

أما الدكتور نصر حامد أبو زيد فقد وصف الحضارة الإسلامية بأنها حضارة نص وتأويل ، وقد استخدم التأويل بمعنى الكشف عن الدلالة الخفية ، والعودة إلى أصل الشيء ، والوصول إلى هدف وغاية ، وذكر أيضاً أن التأويل بوصفه حركة ذهنية هو الفهم الأقرب إلى الاستخدام القرآني ، وإن التفسير يحتاج إلى وسيط وهو النقل ، في حين لا تحتاج عملية التأويل إلى ذلك بل تعتمد على حركة الذهن في اكتشاف أصل الظاهرة أو في تتبع عاقبتها ، بمعنى أن التأويل يقوم على علاقة مباشرة بين الذات والنص ، في حين لا توجد هذه العلاقة في عملية التفسير ، والتفسير متعلق بالجوانب الخارجية للنص من أسباب النزول ونحو ذلك ، في حين يرتبط التأويل بدور القارئ في مواجهة النص واستنباط دلالاته(6).

هذا وسيكون محور الحديث عن كتاب الدكتور المهندس محمد شحرور.

1- إشكالية المنهج والأداة :

كتاب ( الكتاب والقرآن ، للدكتور محمد شحرور ) هو كتاب جديد لتفسير النص وقراءته ، ومنحه قراءة معاصرة تخرج عن الرؤية السلفية المقيدة ، وتطرح عصوراً خلت من التقييد بآراء المفسرين القدامى.

قضى المؤلف أكثر من عشرين عاماً في تأليف هذا الكتاب ـ على حد زعم المؤلف نفسه ـ وقد حوى هذا الكتاب على موضوعات مثيرة للجدل ، شيقة بأهميتها ، عجيبة بطروحاتها ، غريبة بتلك الاستنباطات التي قدمت لكشف دلالتها.

ولكي نصل إلى حوار علمي ومنهجي لابد من أن نتعرف على منهج الكاتب وآليات التأويل التي استخدمها في استنباط الدلالات من النص القرآني.

يحدد شحرور منهجه في ( الكتاب والقرآن ) بما يأتي(7) :  

1-  مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية ، فالمعرفة الحقيقية ليست مجرد صور ذهنية بل تقابلها أشياء في الواقع ، لأن وجود الأشياء خارج الوعي هو عين حقيقتها.

2-  الدعوة إلى فلسفة إسلامية معاصرة ، تعتمد المعرفة العقلية التي تنطلق من المحسوسات عن طريق الحواس وعلى رأسها ( السمع والبصر ) ، لتبلغ المعرفة النظرية المجردة ، في ضوء المنجزات العلمية التي بلغتها الإنسانية في بداية القرن الخامس عشر الهجري ، ويدعو المؤلف إلى رفض جميع المعارف الإشراقية الإلهامية الخاصة بأهل العرفان وأهل الكشف ونحو ذلك.

3-  الكون مادي والعقل الإنساني قادر على إدراكه ومعرفته ، ولا توجد حدود يتوقف العقل عندها ، وتتصف المعرفة الإنسانية بالتواصل وترتبط بدرجة التطور التي بلغتها العلوم في عصر من العصور.

4-  بدأت المعرفة الإنسانية بالتفكير المشخص المحدد بحاستي الشمع والبصر ، وارتقت ببلوغها التفكير المجرد العام ، وعليه فإن عالم الشهادة وعالم الغيب ماديان ، وتاريخ تقدم المعارف الإنسانية والعلوم هو توسع مستمر لما يدخل في عالم الشهادة ، وتقلص مستمر لما يدخل في عالم الغيب ، وبهذا المعنى يظهر بأن عالم الغيب هو عالم مادي ولكنه غاب عن إدراكنا حتى الآن لأن درجة تطور العلوم لم تبلغ مرحلة تمكن من معرفته.

5-    لا يوجد تناقض بين ما جاء في القرآن الكريم وبين الفلسفة التي تعد أم العلوم ، وتنحصر بفئة الراسخين في العلم.

6-  مسح عام لخصائص اللسان العربي بالاعتماد على المنهج اللغوي لأبي علي الفارسي الذي تمثل بابن جني وعبد القاهر الجرجاني ، وبالاستناد إلى الشعر الجاهلي.

7-    الاطلاع على آخر ما توصلت إليه اللسانيات الحديثة من نتائج ، من مثل إنكار الترادف في اللغة.

8-    الانطلاق من فرضية أن الكتاب قد تنزل علينا وأنه جاء لجيلنا ، وكان النبي  r قد توفي حديثاً.

9-    لا يوجد تناقض بين الوحي والعقل ، والوحي والحقيقة.

10-احترام عقل القارئ أكثر من احترام عاطفته(8).

هذا وقد حدد شحرور ضوابط وقواعد للتأويل بست(9) :

الأولى : التقيد باللسان العربي من حيث كونه لا يحوي على الترادف في الكلمات واعتماد أن الألفاظ خدم للمعاني ، وضرورة معرفة فقه اللغة.

الثانية : فهم الفرق بين الإنزال والتنزيل ، وهذا الفرق من أسس نظرية المعرفة الإنسانية
ـ التي تحدث عنها المؤلف ـ أي فهم العلاقة بين الوجود الموضوعي ( التنزيل ) والوعي الإنساني لهذا الوجود ( الإنزال ).

الثالثة : فهم الترتيل على أنه التنظيم والتصفيف على نسق معين ، ولا يُفهم على أنه التلاوة والتنغيم ، وهذه المسالة مهمة في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية.

الرابعة : عدم الوقوع في ( التعضية ) ، أي قسمة ما لا ينقسم ، بمعنى أن الآية قد تحمل فكرة متكاملة أو نظرية معرفية فلا يجوز تجزءتها.

الخامسة : فهم أسرار مواقع النجوم ، وهي الفواصل بين الآيات ، وهي من مفاتيح تأويل القرآن الكريم وفهم آيات الكتاب كله ـ كما يذكر شحرور ـ.

السادسة : قاعدة تقاطع المعلومات ، وتقتضي هذه القاعدة انتفاء أي تناقض بين آيات الكتاب كله في التعليمات وفي التشريعات ، فمن هذه القاعدة تم فهم الإنزال والتنزيل إذ تم مقارنة ومقاطعة المعلومات الواردة في آيات الإنزال والتنزيل وتم فهم معناها بحيث انطبق على الآيات كلها ، وتم فهم الفرق بينهما.

هذا وقد ذكر شحرور أن تلك القواعد يمكن تطبيقها وفق خطوات منهجية هي(10) :

1-  عدة الرسول r قد توفي حديثاً ، وإن الكتاب قد جاء لنا ولمن بعدنا ، انطلاقاً من مبدأ أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان.

2-    صياغة نظرية في المعرفة الإنسانية ، وصياغتها تكون من اختصاص الفلاسفة حصراً.

3-  فهم الآيات القرآنية المراد تأويلها من قبل العلماء ، وكل حسب اختصاصه بحيث تصبح ضمن المعقولات أولاً ، إذ أن القرآن الكريم كله قابل لأن يدخل ضمن المعقولات
}
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  {(11).

4-  مطابقة ما توصل إليه العلم الموضوعي من إنجازات علمية ، وكل حسب
اختصاصه ، وهذا ما أطلق عليه شحرور : المدرك من عالم المحسوسات مع الفهم العقلاني للآيات المراد تأويلها ، أي مطابقة المحسوس بالمعقول مطابقة كاملة مثل كروية الأرض ودورانها وحركة الموجودات وقوانين الجدل.

5-  بالنسبة للآيات ذات المواضيع التي لم تدخل حيز العلم الحسي نهائياً ، يمكن تأويلها ـ كما يذكر شحرور ـ بوضع نظرية تبقى في عالم المعقول مرحلياً ، بحيث تنتقل مع الزمن إلى عالم المحسوس.

6-  تؤول آيات الساعة والصور والبعث واليوم الآخر والجنة والنار بحيث تدخل ضمن عالم المعقولات ، فبداية الكون يمكن أن تدخل ضمن المعقولات والمحسوسات معاً ، أما نهايته فتدخل ضمن نظرية شاملة مع بدايته ضمن المعقولات بحيث تدخل حيز قيام هذه الأحداث ضمن المحسوسات ، فالتأويل الحسي للساعة هو حدوثها فعلاً ، ولكن يمكن أن تؤول تأويلاً عقلياً قبل حدوثها. وعندما تدخل هذه المصطلحات ضمن المحسوسات ـ يقول شحرور ـ تتحقق الآية : } …  يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ  … {(12).

7-  التأويل الذي يقدم للنص القرآني قابل للتطوير أو النقض على مر السنين ، لأن تأويلات عصرنا تقوم على أساس : نسبية معرفتنا للحقيقة.

8-  علينا ـ كما ذكر شحرور ـ أن نسحب القرآن الكريم قبل أن يفوت الأوان من أيدي السادة الوعاظ والعلماء الأفاضل ، أو رجال الدين ، لأن دورهم دور وعظي بحت وموقفهم من القرآن الكريم موقف تسليم كالعامة.

من خلال ما سبق يتضح الدور الثنائي الذي قام الدكتور شحرور والدكتور جعفر دك الباب الذي اقتسم مع شحرور الحديث عن منهج الكتاب ، فقد ذكر ( دك الباب ) أن شحرور سيتبنى المنهج التاريخي العلمي المستنبط من منهج أبي علي الفارسي المتبلور عند ابن جني في الخصائص والجرجاني في الدلائل ، ويقتضي ذلك المنهج ما يأتي(13) :

1-    الانطلاق من وصف البنية اللغوية وصفاً تطورياً ودراسة الأصوات وأنواع الاشتقاق.

2-    الاهتمام باكتشاف القوانين العامة للنظام اللغوي مع المحافظة على اتساق ذلك النظام.

3-    البحث في القوانين الصوتية العامة المنبثقة عن الخصائص الفيزيولوجية للإنسان.

4-    أما جوانب نظرية الجرجاني المعتمدة : الانطلاق من وصف البنية اللغوية تزامنياً وربطها بالوظيفة البلاغية.

5-    الاهتمام بالنظام اللغوي والتأكيد على ربط اللغة بالتفكير.

ثم عرض ( دك الباب ) أسس شحرور التاريخية المعتمدة في(14) :

1-    التلازم بين النطق والتفكير ووظيفة الإبلاغ منذ بداية نشأة الكلام الإنساني.

2-    تدرج التفكير الإنساني في اكتماله وتطوره من الشخص إلى المجرد.

3-    انكار الترادف.

4-    النظام اللغوي يؤلف كلاً واحداً ، وتشكل مستويات البنية اللغوية فيه علاقة تأثير متبادل فيما بينها.

5-    الاهتمام بالعام المطرد دون إهمال الاستثناءات.

ثم استطرد دك الباب في الحديث عن نشأة اللغات الإنسانية وصفاتها وخصائصها ، كأنه يتحدث عن نظريات نشوء اللغة ، فضلاً عن حديثه عن اللسانيات ومجال دراستها ونحو ذلك.

والذي سيثير النقد هنا : ما علاقة الكلام المقدم من قبل ( دك الباب ) لكتاب يدرس القرآن الكريم بمنهج جديد مستنبط ، وهل يشكل ذلك التقديم منهجاً لغوياً ، ثم كيف يكون وضع المنهج اللغوي مع الحديث عن نشأة اللغة وعلاقتها بالوعي الإنساني ونحو ذلك ، بل لِمَ يجمع ( المُقدِم ) ذلك الشتات الهائل من المعلومات التاريخية من دون أن يدرك القارئ الصلة المباشرة بين ذلك الكلام ومنهج الكتاب(15).

ومن اللافت للنظر أن شحرور يقدم تصوراته واستنباطاته على أساس أنها حقائق علمية ومسلمات ثابتة ، فقد عمد إلى إنطاق النص لا استنطاقه وفق المنهج العلمي الذي يحترم آلية اللغة العربية في التعامل والتحليل والاستنباط ، ويبدو أن إشكالية منهج شحرور تقتضي أن شحرور يفترض أموراً من وحي خياله ، ثم يجعلها حقائق مسلمة يفسر القرآن الكريم في ضوئها من خلال تجاوز حدود اللغة وأنظمتها التعبيرية(16).

ولم يكن المنهج الذي قدمه ( دك الباب ) أو الذي صرح به شحرور نفسه إلا شعارات لا تحمل الحقيقة وتدافع عنها ، إنما سعت تلك الشعارات إلى تمويه المتلقي أولاً ، وتغطية الحقائق التي تقف وراء ذلك ( الكتاب ) الذي أسند لنفسه مهمة تقديم قراءة معاصرة للنص القرآني تنطلق من شخص وباحث لا يفقه من العربية شيئاً ، ولا يعلم أسرارها ولا يدرك كنه استخداماتها ، فاللغة العربية غنية جداً بمدلولاتها ، وخطرة جداً في كيفية استخدام تلك المدلولات وذلك لأن تلك المدلولات مشحونة بطاقة تعبيرية كبيرة جداً يستطيع
( المتلقي / القارئ ) أن يقلب وجوهها حسب هواه أو حسب ما تقتضي مصلحته ونواياه المبطنة ثانياً.

ومن هنا نشأت لدى شحرور انفصامات حادة بين التشكيل اللغوي للقرآن الكريم وكيفية نظمه ونظامه وبين المعاني المتخيلة التي افترضها المؤلف سلفاً ـ وهذا ما أحسسنا به ـ فهو يضع النتائج قبل التحليل مدركاً أن هذه الآية الكريمة يجب أن تقبل هذه الأفكار ، وإن لم نتقبلها يأول النص ، ويسند إلى جذر لغوي قد يكون مغلوطاً ـ كما فعل في مادة ( جَيَبَ )
و ( جَوبَ )(17) في آية } ...
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...{(18). وبهذا يمكننا القول بأن الإشكالية التي وقع بها شحرور تندرج في معطيات عدة نجملها وفق الآتي(19) :

·        أولاً : تحطيم خصائص اللغة العربية وأنظمتها.

·        ثانياً : عدم المقدرة على قراءة المعجم وفهمه ، وتفسير الكلمات بغير معناها.

·        ثالثاُ: مخالفة معجم المقاييس لابن فارس ، وإهمال المعاجم الأخرى كلسان العرب لابن منظور.

·        رابعاً: تزييف حقائق اللغة والإدعاء بما ليس فيها.

·        خامساُ: مخالفة نظرية الجرجاني في النظم من خلال اقتطاع المفردة من سياقها وتجريدها من معناها السياقي.

·        سادساً: مخالفة ما ورد من الشعر الجاهلي.

·        سابعاً: الاستخفاف بعقل القارئ وغياب المنهج العلمي الحقيقي

·        ثامناً: اختفاء صفة العلمية والحقيقة على افتراضات وتصورات مزاجية تجنح وفق هوى المؤلف.

·        تاسعاُ: الانطلاق من أفكار الماركسية ومبادئها وإكراه آيات القرآن الكريم للتعبير عن معطيات ماركس.

·        عاشراً: إقحام علم الرياضيات واستخدام ألفاظ العلم والتكنولوجيا لغرض الإرهاب العلمي ومصادرة الأفكار.

·        أحد عشر: بناء نظرية فقهية على أسس فاسدة ومقدمات باطلة علمياً ومنطقياً ولغوياً.  

·        اثنا عشر: -وضع النتائج قبل المقدمات.

·        ثلاثة عشر: عدم التوثيق ، وانعدام المرجعية مطلقاً ، وعدم مراعاة أبسط قواعد منهجية البحث العلمي الدقيق المتبع في جميع البحوث العلمية والدبية والثقافية التي تسند لنفسها اكتشاف الحقيقة وتقديمها للقارئ.

وقد كان هذا الكتاب مدار رد العديد من الباحثين والمفكرين والنقاد العرب ، وحسبنا الإشارة إلى أهم تلك الردود(20) :

ـ كتاب : قراءة علمية للقراءات المعاصرة / د. شوقي أبو خليل ، دار الفكر ، دمشق ، 1991.

ـ كتاب : ذاك رد ، د. نشأة ظبيان ، دار قتيبة ، دمشق ، 1992.

ـ كتاب : بيضة الديك ، يوسف صيداوي ، المطبعة التعاونية ، دمشق ، 1993.

ـ كتاب : تهافت القراءة المعاصرة ، منير الشواف ، دار الشواف ، دمشق ، 1993.

ـ كتاب : القراءة المعاصرة مجرد تنجيم للدكتور محمد شحرور ، سليم الجابي ، دار الفكر ، دمشق ، 1991.

ـ كتاب : الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن : دراسة منهجية ، ماهر المنجد ، دار الفكر ، سوريا ، 1994.

ـ مقالة : الخلفية اليهودية لشعار قراءة معاصرة ، محمد سعيد رمضان البوطي ، مجلة نهج الإسلام ، سوريا ، ع42 ، 1990.

ـ مقالة : تقاطعات خطرة على دروب القراءات المعاصرة ، شوقي أبو خليل ، نهج الإسلام ، ع43 ، 1991.

ـ مقالة : لماذا طفت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام ، نصر حامد أبو زيد ، مجلة الهلال ، القاهرة ، ع10 ، 1991.

ـ مقالة : المنهج النفعي في فهم النصوص الدينية ، نصر حامد أبو زيد ، الهلال ، ع3 ، 1992.

ـ مقالة : قراءة نقدية في ( الكتاب والقرآن ) ، محمد شفيق ياسين ، نهج الإسلام ، ع46 ، 1996.

ـ مقالة : الحدود في الإسلام ، محمد شفيق ياسين ، نهج الإسلام ، ع47 ، 1992.

ـ طرافة في التقسيم وغرابة في التأويل ، طارق زيادة ، مجلة الناقد ، بيروت ، ع45 ، 1992.

فضلاً عن كتب ومقالات أخرى كثيرة تناولت المؤلِّف والمؤلَّف المذكور من خلال الميدان النقدي والمنهجي والعلمي والديني والسياسي والفكري …

2- إشكالية الرؤية والتطبيق :

القارئ لطروحات شحرور العلمية ، والوعود المنهجية التي تقدم بها سيبني قصوراً من الأحلام التي تتكئ على قراءة جديدة مرجوة من هذا الباحث للقرآن الكريم ، تلك القراءة ذات النكهة المرغوبة والحاجة الملحة في اقتنائها ، تلك القراءة ستغدو أمل هذا القارئ الذي أغوته معطيات شحرور المنهجية التي وعد القارئ بها.

ولكن ما أكثر الكلام في التنظير وما أقله لدى التطبيق ، إذ تحولت طروحات شحرور المنهجية إلى حفرة تبتلع جميع الشعارات التي رفعت لاحترام القارئ العربي ، وإعلاء شأن النص القرآني المعجز ، وتقديم قراءة معاصرة تتسم بالعلمية والالتزام المعرفي التكنولوجي المتطور ، ومع إننا لا نستطيع حصر جميع الأبواب التطبيقية التي تحدث عنها شحرور لضيق مساحة البحث ، لكننا سنقتصر على أهم ما جاء به من مصطلحات غريبة عجيبة تثير الدهشة أولاً ، وتوحي بالجدة ثانياً ، وتنهي قارئنا إلى هشاشة الاستنتاج ، وعقم التفكير ، وسذاجة الطرح.

من المواضيع المهمة التي سنتحدث عنها هنا ـ بوصفها أمثلة على إشكالية رؤية شحرور في تطبيق منهجه المقترح لتفسير النص القرآني ، هي ما يأتي :

ـ مصطلحي الإنزال والتنزيل.

ـ الإله ذو العلم الرياضي.

ـ لباس المرأة وزينتها.

ـ بعض الأمور المتفرقة من هنا وهناك.

 

ـ الإنزال والتنزيل :

يقول شحرور : " التنزيل : هو عملية نقل موضوعي خارج الوعي الإنساني ، أما الإنزال : فهو عملية نقل المادة المنقولة خارج الوعي الإنساني ، من غير المدرك إلى
المدرك ، أي ( دخلت مجال المعرفة الإنسانية ) هذا في حالة جود إنزال وتنزيل لشيء واحد مثل القرآن والماء والملائكة والمن والسلوى ، أما في حالة وجود إنزال دون تنزيل كما في حالة الحديد واللباس فإن الإنزال هو عملية الإدراك فقط ( أي المعرفة فقط ) "(21).

ثم يذكر المؤلف أن ذلك المعطى قد اقتبسه من تطور العلوم التكنولوجية التي أعانته في فهم الإنزال والتنزيل ، ولكي يكون المؤلف دقيقاً بالدقة الشديدة يقترب من العقل العربي ليفهمه الإنزال والتنزيل عن طريق شرح لمباراة بكرة القدم بين البرازيل والأرجنتين جرت في المكسيك ، وهناك شخص في دمشق يريد أن يتابع تفاصيل هذه المباراة ، فكيف تشكل له تلك المباراة إنزالاً ، ومتى تشكل له تنزيلاً ؟!(22).

عملية نقل المباراة الأصلية عن طريق الأمواج من المكسيك إلى دمشق هي
التنزيل ، لأن ذلك قد تم خارج وعي المشاهد ، والنقل حاصل بصورة مادية خارج وعي المشاهد بوساطة الأمواج ، أما عن عملية دخول الأمواج إلى جهاز التلفزيون المحولة إلى صوت وصورة أي المحولة إلى حالة قابلة للإدراك من المشاهد فهذا هو الإنزال(23).

وفي حالة القرآن الكريم ، يجب أن يكون له وجود مسبق قبل الإنزال والتنزيل ، ولهذا فلا داعي لذكر أسباب النزول لأن ليس لها شأن في القرآن الكريم ـ كما يذكر شحرور ـ لأن تنزيل القرآن الكريم على النبي r حتمي ، سُئل عنه أم لم يسأل ، لذا قال عن الأشياء التي تخص الغيب : } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا
عَنْهَا
{(24). ولم يقل أبداً عن الأشياء التي تخص الأحكام(25).

وهكذا فالقرآن الكريم في لوح محفوظ وفي إمام مبين هو من علم الله I بصيغة غير قابلة للإدراك الإنساني وغير قابلة للتأويل وبصيغة مطلقة ، وعندما أراد الله  I إعطاء القرآن الكريم للناس ـ كما يذكر شحرور ـ غيّر صورته من صيغة غير قابلة للإدراك مطلقة إلى صيغة قابلة للإدراك الإنساني نسبية ، وهذا التفسير عُبر عنه بفعل الصيرورة
( جَعَلَ ) }
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ   {(26). أي كان له وجود مسبق قبل أن يكون عربياً فجعله عربياً أي غير في صيرورته وهذا معنى الجعل ، وقد جاء أيضاً } إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ   {(27). والإنزال هو نقل غير المدرك إلى المدرك ، أي كان القرآن الكريم غير مدرك ، فأصبح مدركاً وهذا ما جاء في الإنزال ، ومن ذلك يتضح ـ كما يذكر شحرور ـ أن : الجعل هو التغيير في الصيرورة ، والإنزال : هو النقل من صيغة غير مدركة إلى صيغة مدركة ( أي مشهورة ) ، وهكذا فالقرآن الكريم الموجود في أيدينا ليس عين القرآن الكريم الموجود في اللوح المحفوظ وليست صيغته هي تلك الصيغة عيناً في اللوح المحفوظ ، وإنما هو صورة قابلة للإدراك الإنساني ( الإنزال ) تم التغيير في صيرورتها ( الجعل ) حتى أصبحت مدركة ثم وصلت إليه عليه الصلاة والسلام ـ بوساطة الوحي مادياً ( التنزيل ) والنبي نقلها إلى الناس آلياً(28).

من ذلك يخلص المؤلف إلى أن القرآن الكريم أنزل دفعة واحدة في ليلة مباركة لقوله I : } إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ   { أي أصبح قابلاً لأن يدرك من الناس وهذه الليلة } لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر ِ {  والشهر هنا من الشهرة ـ كما يقول المؤلف ـ لا الشهر الزمني المعروف كقولك ( الشهر العقاري ) وكذا ( الألف ) بمعنى ضم الشهر بعضه إلى بعض وليس بمعنى العدد المعروف ، ويصبح المعنى : إشهار القرآن الكريم خير من كل الإشهارات الأخرى مؤلفة كلها بعضها مع بعض ، ويذكر المؤلف اجتهاداً غريباً في مسألة
}
لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ   {  فهو يذكر أن القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو النسخة المصورة عن الأصل في اللوح المحفوظ ، وإنه نقل إلينا بصورته الصوتية ، ووفقاً لذلك يكون تأويل قوله  I : } إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ  *  فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ  *  لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ {(29) المكنون هو المخبأ أي القرآن الكريم المخبأ في اللوح المحفوظ الذي أخذت عنه الصورة المترجمة التي بين
أيدينا ، والمطهرون هنا هم الملائكة الموكل إليهم حفظ القرآن الكريم فلا يصل إلى هذا الكتاب المكنون أحد من البشر ، لا نقي ولا شقي ولا متطهر ولا جنب(30).

ـ الإله ذو العلم الرياضي :

يقول ( شحرور ) علم الله I رياضي ويستدل على ذلك بقوله I : } …  وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا { (31) و } وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ { (32) وعلمه رياضي لأن الرياضيات اليوم هي أرقى أنواع العلوم ، والرياضيات كما يذكر المؤلف ـ علم يتصف بالدقة والتبؤ ، بمعرفة القانون الرياضي لظاهرة ما في الطبيعة ليصبح من السهل التنبؤ بسلوكها وابعادها ، وقد دل المؤلف على هذا الاستنباط " العقل المصوغ من     الله "(33) ولا ندري ما المقصود بذلك إذ لم يوضح المؤلف قصده من هذا الطلسم ، ويذكر أيضاً أن علم الله علم مبرمج سلفاً في اللوح المحفوظ ويحوي على قوانين جدل الطبيعة والخلق والتطور والساعة والبعث واليوم الآخر وقوانين الجدل المادي ، وعلمه قد يكون ـ إن لم يكن مبرمجاً سلفاً كما يذكر شحرور ـ علماً في كلية الاحتمالات لظواهر الطبيعة الجزئية القائمة على الأضداد التي نفهمها من خلال الرياضيات التي سماها القرآن الكريم ـ كما استنبط شحرور ـ ( كتاب مبين ) إذ قال  I :
 }
 إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ { (34) أي أن الإمام المبين هو أرشيف الأحداث ـ كما يذكر المؤلف ـ الجزئية الجارية للأشياء في الكون والإنسان لذا جاء القصص من الإمام المبين وهناك معلومات ـ عند الله I فقط غير مؤرشفة وغير مبرمجة سلفاً(35) وهي التي قال عنها I : }  إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ
... { (36).

وفي الإطار نفسه يتحدث شحرور عن مفهوم قضاء الله والمشيئة والحرية والاذن ونحو ذلك ، فيذكر أن القضاء من الفعل قضى قد جاء بمعاني أربع ( أخبر ، أمد ، إنهاء
الشيء ، بمعنى الإرادة الإلهية النافذة ، وهناك القضاء الأزلي والقضاء غير الأزلي فهلاك قوم صالح أو ثمود أو نحو ذلك قضاء غير أزلي بمعنى أن الله
I لم يقض بهلاكهم منذ  الأزل ، ولو كان القضاء أزلياً لأصبحت الرسالات ، وبعثة الأنبياء ضرباً من العبث لا داعي لها(37).

ـ لباس المرأة وزينتها :

زينة المرآة عند شحرور ـ كما استنبطها من الآية (31) من سورة النور ـ قسمان :

زينة ظاهرة وزينة مخفية. والزينة ثلاثة أنواع : ( زينة الأشياء ) و ( زينة المواقع )
و ( الزينة المكانية والشيئية ) فزينة الأشياء قال عنها
I : } يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ … { (38).

فجسد المرأة كله زينة وفيه قسم ظاهر بالخلق وهو المتعلق بالرأس والرجلين واليدين ويستند شحرور على قوله I : } … وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ ... { (39) ،  وقسم غير ظاهر بالخلق أي المخفي وهو الجيوب وقد رجع المؤلف إلى الجذر الثلاثي ( جوب ) في حين أن الأصل الثلاثي لمادة جيوب هو ( جيب ) وبينهما فرق دلالي كبير ، فمن معاني
( جوب ) : الخرق وهو المعنى الذي استخدمه المؤلف ليثبت صحة نتائجه ومن هنا جعل
( الجيب ) الوارد في الآية الكريمة هو ( الفرج )(40) ، وقد نص المعجم صراحة في اللسان على الاحتراز من الوقوع في هذا الخطأ فقد ذكر ابن منظور تعليقاً على ( جيب القميص ) : فليس من لفظ الجيب لأنه من الواو ، والجيب من الياء ، ثم ذكر في مادة ( جيب ) : فليس
( جبت ) من هذا الباب لا عين ( جبت ) إنما هو جاب يجوب ، والجيب عينه ياء ، لقولهم جيوب(41) والمعنى من الآية أن الجيوب فتحات الأثواب وأطواق القمصان لا الفروج كما زعم
ـ شحرور ـ وقد كانت نساء العرب في الجاهلية جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وكن بسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة ، فأمرهن الله
I بإسدالها(42).

ويخرج شحرور بمصطلح مثير للجدل والاستغراب هو ( الحد الأعلى والحد الأدنى ) فيذكر أن الحد الأعلى للباس المرأة هو الملابس الخارجية  التي ترتديها ، في حين يمثل الحد الأدنى اللباس الداخلي لها فقط ، وهكذا يبيح المؤلف للمرأة المسلمة أن تخرج إلى الطريق بلباسها الداخلي فقط من دون أن يكون في ذلك تجاوز لحد من حدود الله I ، وليس ذلك
فقط ، فقد أباح أن تجلس المرأة بين أصناف سبعة عارية بصورة كاملة ، والسبعة هم المذكورون في سورة النور الآية (31) وهم : الأخ والأب وابن الأخت وابن الأخ ووالد الزوج وابنه       ) ويشرح ذلك بقوله : " أي إذا شاهد والد ابنته وهي عارية فلا يقول لها هذا حرام ، ولكن يقول لها هذا عيب "(43) وبهذا ستتحول البيوت إلى نوادٍ للعراة(44) بدعوة القراءة الجديدة وآلية التأويل والاستنباط من سورة النور الآية (31).

ـ بعض الأمور المتفرقة :

من الأمور المتفرقة التي اخترناها من هذا الكتاب المثير للتساؤلات ، والمشحن بالمغالطات ، مسائل معرفية ولغوية عامة ، من ذلك :

ـ ( النساء ) في القرآن الكريم لا تشير إلى الإناث إنما هي جمع ( نسيء ) أي المستجد
( المتأخر ) ، فقوله } …
 وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ … { (45) فكلمة نسائهن هنا تعني المتأخرين عما ذكر من الأصناف كالأحفاد وغير ذلك(46).

ـ الرسول r كان أمياً بمعنى أنه غير يهودي وغير نصراني وكان أمياً بكتابهما وكانت معلوماته عنهما بقدر ما أوحي إليه ، أما إسقاط كون النبي أمياً لا يقرأ ولا يكتب فهذا
خطأ ـ كما يذكر شحرور ـ وأمية الرسول
r تنجلي عند شحرور في نقطتين الأولى : أن النبي كان أمياً بالقرآن الكريم قبل البعثة إذ لم يحدث العرب عن شيء من ذلك ، والثانية أنه كان أمياً بالخط فقط ، وقد استنبط شحرور ذلك من آيات عدة(47).

 التفرقة بين ( الكتاب ، الفرقان ، الذكر ، القرآن ) يذكر شحرور أن لفظة الكتاب تعني موضوعاً أو مجموعة موضوعات وهي لا تعني كل المصحف إذا جاءت نكرة ، لأن المصحف يحتوي عدة كتب أو مواضيع ، ولكن إذا أتت بـ ( ال ) التعريف ( الكتاب ) فتعني مجموعة الموضوعات التي أوحيت إلى النبي  r  وهي تؤلف ـ عنده ـ كل آيات
المصحف ، والكتاب كتابين : كتاب الرسالة يشير إلى قواعد السلوك الإنساني ويمثله الآيات المحكمات وسميت بـ ( أم الكتاب ) وكتاب النبوة ويشمل مجموعة المواضيع التي تحتوي على المعلومات الكونية التاريخية وتمثلها الآيات المتشابهات وهي القرآن الكريم ، فالقرآن الكريم هو الآيات المتشابهات فقط ـ كما يبين شحرور ـ ، فهو جزء من الكتاب وغير مرادف له ، وأما الذكر فهو تحول القرآن الكريم إلى صيغة لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي ، والفرقان يمثل جزءاً من ( أم الكتاب ) وهو الوصايا العشر(48) ، المذكورة في سورة الإنعام التي سميت بالصراط المستقيم }
 وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  *   وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { (49).

ـ الترتيل : هو أخذ الآيات المتعلقة بالموضوع الواحد وترتيلها بعضها وراء البعض الآخر ، والرتل هو الصف على نسق معين ـ هكذا بمعرفة شحرور ـ ويذكر أن الترتيل في القرآن الكريم لا يقصد به التلاوة ولا التنغيم إنما يقصد به صف الموضوعات المتشابكة بعضها مع بعض وقراءتها ، فمثلاً موضوع آدم u موجود في سور البقرة والأعراف وطه وسور أخرى ، والترتيل يقتضي صف تلك المواضع المتطرفة وقراءتها وإدراك معناها(50).

هذا فضلاً عن موضوعات أخرى كثيرة في ميدان التطبيق تبقى وستبقى مدعاة للجدل والرد والحجاج.

وأخيراً يمكن القول أن النص القرآني نص مغرٍ بشتى جوانبه الدينية والمعرفية ، ذلك الإغراء جعل المؤولين يتوافدون عليه بالتأويل والاستنباط واقتناص المعارف واكتشاف سبل البيان والإعجاز ، … وبهذا اختلفت آليات التأويل من مؤول إلى آخر ، تلك الآيات التي يجب أن تضبط وفق مسارات معرفية ومنهجية تحد من جنوحها وتضبط حركتها ، لكن ذلك لم يكن معياراً إنماز به جميع من استخدم التأويل مع النص القرآني.

والقراءة المنهجية التأويلية التي قدمها شحرور انطلقت من سوء فهم  النص القرآني
أولاً ، ومن جهل باللغة العربية وفنونها وأسرارها ثانياً ، وعدم التمكن من الإحاطة بالنص من جميع جوانبه ثالثاً ، ومخالفة المسار العام للتشريع والتفكير الإسلامي رابعاً ، ومن هنا انعكست هشاشة آلية التأويل المعرفي لشحرور من خلال وضع النتائج قبل الاستنباط ، ووضع المسلمات قبل الاجتهاد ، والرجوع إلى الجذور اللغوية الخاطئة ، واقتطاع اللفظة من
سياقها ، وتفسير الآية وفق معطيات فاسدة ، فضلاً عن عدم تمثل شحرور لأية مرجعية لمفسر أو مؤول سابق أو لاحق ، فخرجت نتيجة لذلك تصورات خيالية حول المعاني التي طرحها لنا شحرور حتى لا يقف القارئ مذهولاً متسائلاً هل فعلاً قصد الله
I ؟! وإن كان قصده لِمَ لَمْ يلتزم به النبي r والصحابة w من بعده كاجتهاد شحرور في مسالة الحجاب والعورة ، وأمية الرسول r ، وتحديد علم الله I ، وتبقى نتائج شحرور ومعطياته تخفي ورائها الشيء الكثير غير المعلن عنه. وهذا مدعاة للتأمل.

              

الهوامش :

(1) الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة ، د. محمد شحرور ، سلسلة دراسات إسلامية معاصرة (1) ، دار الأهالي ، ط7 ، دمشق ، 1997م.

(2) مفهوم النص : دراسة في علوم القرآن ، د. نصر حامد أبو زيد ، المركز الثقافي العربي ، ط4 ، بيروت . الدار البيضاء ، 1998م.

(3) جدلية القرآن ، د. خليل أحمد خليل ، دار الطليعة ، ط1 ، بيروت ، 1977م.

(4) ينظر : م.ن : 7-10.

(5) ينظر : م.ن : 7-10.

(6) ينظر : مفهوم النص : 219-232.

(7) ينظر : الكتاب والقرآن : 42-43.

(8) ينظر : م.ن : 43-45.

(9) ينظر : م.ن : 196-203.

(10) ينظر : م.ن : 203-205.

(11) سورة الزخرف : الآية 3.

(12) سورة الأعراف : من الآية 53.

(13) ينظر : الكتاب والقرآن : تقديم المنهج اللغوي ، جعفر دك الباب : 20-21.

(14) ينظر : م.ن : 22-24.

(15) ينظر : الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن : دراسة نقدية ، ماهر المنجد ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، دار الفكر ، دمشق ، ط1 ، 1415هـ = 1994م : 87-88.

(16) م.ن : 105.

(17) الكتاب والقرآن : 607.

(18) سورة النور : من الآية 31.

(19) ينظر : الإشكالية المنهجية : 178-179.

(20) تراجع بشكل مفصل حول المناقشات والحوارات التي دخل بها المؤلف ( شحرور ) مع  النقاد والمفكرين من أمثال نعيم اليافي ، ونصر حامد أبو زيد ، والبوطي ، وطارق زيادة ، وشوقي أبو
خليل ، والدكتورة نشأة ظبيان ، ينظر : الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن : 64-90.

(21) الكتاب والقرآن : 149.

(22) م.ن : 150.

(23) م.ن : 150.

(24) سورة المائدة : من الآية 101.

(25) الكتاب والقرآن : 151.

(26) سورة الزخرف : الآية 3.

(27) سورة يوسف : الآية 2.

(28) ينظر : الكتاب والقرآن : 152-153.

(29) سورة الواقعة : الآيات 77-79.

(30) الكتاب والقرآن : 156.

(31) سورة الجن : من الآية 28.

(32) سورة الرعد : الآية 8.

(33) الكتاب والقرآن : 389.

(34) سورة يس : الآية 12.

(35) الكتاب والقرآن : 390.

(36) سورة لقمان : من الآية 34.

(37) سورة الأعراف : من الآية 31.

(38) سورة الأعراف : من الآية 32.

(39) سورة النور : من الآية 31.

(40) الكتاب والقرآن : 606.

(41) لسان العرب ، ابن منظور ، ( ت 711هـ ) ، دار صادر ودار بيروت ، بيروت ، ( د.ت ) ، مادة
( جيب ).

(42) الإشكالية المنهجية : 165.

(43) الكتاب والقرآن : 607.

(44) الإشكالية المنهجية : 161.

(45) سورة النور : من الآية : 31.

(46) الكتاب والقرآن : 609.

(47) م.ن : 141.

(48) ينظر : م.ن : 51-99.

(49) سورة الأنعام : الآيات 151-153.

(50) الكتاب والقرآن : 197.