ما لَنا كلُّنا جَــوٍ يَا رسُولُ!

د. خالد الكركي

(إلي محمد جبر الحربي مبدعا وصديقا)

ذاك أنت تسأل عنّا، نحن الذين التحقوا بصفوف اليتامي من المثقفين العرب بعد أن ذبحتنا السياسة وأهلها حين غلّقت الأبواب وقالت إن القيد هيت لكم، وخلفتنا نتشظي رؤي من الحسرة، والعزلة، وصدي القبور الموحشة، والدروب الوعرة في الزمان الإقطاعي الأمريكي الظالم والعجيب.

ها نحن وقد كتبنا بكاءً علي فلسطين فإذا الدمع لا يسعف، وصرخنا باسم الحرية فرددت الجدران صدي باهتا، وحرّضنا علي ظهور الخوارج ضد هذا العالم الذي أفسده الظلم، وخرّبه الذين لا ضمائر لهم يوم قتلوا إنسانيتنا فألقوا بمن ظل منا في غيابة الجبّ، ويوم عرفوا أن عطشنا للحرية هو مقدمة التغيير حرّموا علينا ذكرها، وياسمينها البهي، ورؤاها الخضر،ودفترها الحزين وقالوا لنا: إنكم عما يجري في زمان العولمة غافلون! وها نحن نعيد الأسئلة، ونقع في دائرة التكرار حتي يصاب القراء بالملل منا ومن أفكارنا، ذلك أننا لم نجرؤ علي الدخول في المسكوت عنه ، و الممنوع ، و المخبوء في أدراج الرقابات العربية، الحكومي منها، والطائفي، والأقليمي ! ولم نملك رؤية نقدمها للناس كي يتعلم الغاضبون مباديء تنظيم غضبهم النبيل حتي يكون احتجاجهم واضحا، وكي لا يسحقوا فرادي تحت أقدام الطغاة والغزاة والقاهرين.

إننا نكتب ولكننا لم نقل للناس كيف يخرج المقهورون من ثقافة الصمت إلي بهجة الخطاب، أو علي الأقل إلي فوضي الكلام ! وكيف يتغير واقع يرفض الذين أرهقوا  أنفسهم وهم يتحاورون حول أمراضه، وعلله، أن يتقدموا إلي مرحلة تغييره، ولو بالحد الأدني من الوسائل المدنية التي تمثل الحراك الاجتماعي الضروري حتي لا تتصلب شرايين المجتمع وهو يتوهم أنه في أفضل الأحوال.

إنها أزمة، والناس الذين تطحنهم أشكال جديدة من البطالة، والفقر والقمع يحدّقون في كتاب التنوخي الفرج بعد الشدة ، او كتاب ابن عاصم الغرناطي جنة الرضا في التسليم لما قدّر الله وقضي ، وينتهي قلقهم بالصبر والتسليم واستعادة مطلع قصيدة أندلسية  لكل شيء إذا ما تم نقصان !

إنها أزمة، وكأن الأمة لا تريد أن تتوحد، والدول القطرية تسعي إلي تجميل نفسها بالحديث عن الديمقراطية، ولا نية لديها لمواجهة الاسئلة الكبيرة في الحرية، و العدل ، والمساواة وقد وزعت حقوق  الإنسان المقدسة بين الجمعيات وبعض أهل الإعلام والكلام اعتقادا منها أن هذا مفيد لدي الغرب الذي يهذي بحقوق الانسان وغاب عنها أنه يضيق عليها الخناق فقط، وليس مهتما إن صارت ديموقراطية او دكتاتورية ما دامت موادها الخام تصل إليه، وأسواقها مفتوحة لبضائعه، وإعلامها لا يحرض علي التصدي لهيمنته، وإن ألقي بشقيق لها في غيابة الجبّ فعليها أن تنأي بنفسها عن المقاومة والجهاد والاستشهاد، فهذه أفكار تضرّ بصحة الأنظمة والحكومات! 

           

إن التحولات تتدفق في الدنيا، وهذا عصرٌ مدهش، وأمتنا كما يقول د. أحمد كمال أبو المجد، أمة مدهشة، ولم تفرغ بعد من الدهشة حتي تتعامل مع الواقع تعامل القادر علي إمساك الخيوط بيدها، والتعامل معه تعاملا جدّيا وها نحن ننفصل عن العصر، ويضيق بنا الحاضر، ولا نستشرف المستقبل، وندّعي أننا دخلنا القرن الحادي والعشرين دون أن نخجل من الاعتراف أننا نملك نسبا عالية من الأمية، ومن الناس الذين تحت خط الفقر، والذين لا مساكن لهم، ومن لا يجدون الماء الصالح للشرب، ومن لم يصلهم من بهجة الحياة سوي ما يكون في ساعة ولادة طفل جديد، ثم ينتظرون حزن ساعة الموت وهو أضعاف سرور في ساعة الميلاد ، كما أخبرنا المعري الذي نشتاق إلي ندائه:

الأرضُ للطوفانِ مشتاقةٌ     لعلها من درنٍ تغسلُ

(نسلم عليه، ونقرأ مطلع رائعة الجواهري في ذكراه:

قف بالمعرةِ وامسح خدَّها التَّـرِبا    واستوحِ من طوّقَ الدنيا بما وهبا)

وأعرف أن هذا اعتراض لا ضرورة له، لكنني أدرب قلمي علي الخروج علي،ّ والبوح بما يجب البوح به، لكنه يأبي أن يتغير الأسلوب!

           

إن الأزمة في اسلوبنا أيضا، وها نحن نتكيء علي التراث أحيانا، وعلي الشعبي من الأخبار في أحيان أخري، وقد جربنا الغموض والتستر وراء بهارج الألفاظ، ونحن ندرك أننا أمام غزو إقطاعي عالمي جديد ينشر الفوضي والخراب في الدنيا كلها، وقد استبد، وانحط، وتخلي عن القيم الإنسانية، حتي صار من أمرنا في فلسطين وأفغانستان والعراق ما هو واضح وجارح وهو يطالبنا بحلف بين الجزار والمذبوحين، وبسلام بين القتلة الصهاينة والاستشهاديين الفلسطينين، وقد ضاعت الحقيقة بين مصطلحات التكنوقراط، وأدعياء الديمقراطية الذين هم لها كارهون، وقالوا إن خلاصنا في الليبيرالية، ونحن أدري منهم بجراحنا وعلاجنا، ولدينا فيض في أعداد الذين تعلموا لا في الذين حوّلوا المعرفة إلي ثقافة ورؤية، وموقـف من الحياة:

حقوق الإنسان، والكرامة، والخبز، والغناء، والكتاب، والتقدم.

           

قد يري آخرون، خاصة من أهل السياسة، أن الناس يسعون وراء أمور لا تعنيهم، ولا يتركون أمور الحكم وادارة المجتمعات لأهلها، والجواب هو ما قاله الحارث بن عباد في حرب البسوس، يوم قتل ابنه: لم أكن من جُناِتها علمَ الله وإني بحرِّها اليوم صَالي وهذا هو حالنا، فنحن أجيال ظلت تنتظر التحرير فأطلت عليها النكبة والنكسة، ورأت حروبا أهلية من النوع الذي يشيب له الولدان، وعاصرت زيادة السجون، وكبت الحريات، وظلّت تري التناقص بين ما تتعلم وما تري في الواقع، لذلك كان عليها أن تخرج من ثقافة الصمت لتقول كلاما مختلفا أوّله عن حقها في البكاء علي أسوار القدس وبغداد، إن لم نقل إن عليها عبء التنوير والتحريض والتغيير، وإلا أسلمنا الأمة لمغول الزمان الجدد، وتجار الإعلام والحروب، ونسينا أحلامنا التي بدأها الكواكبي قبل قرن من الزمان وهو يهجو الاستبداد.

إن من يحاول أن يقدم شيئا متميزا يخشي جزاء سنمار ، والحكاية معروفة، لكن ما يبعث علي الأسي أن النعمان، سيد القصر الجديد، أراد أن يحتكر الفنان لنفسه، وحين أحسّ بأن ذلك قد لا ينجح ألقي به إلي حتفه!إنها حالات تبعث علي الأسي، وما تحاوله الرأسمالية العالمية اليوم هو احتكار من تراه نافعا لها، وإن وقعت منه علي ضعف في الولاء ألقت به من شاهق، أو أودعته في غيابة النسيان.

           

إن زمانا لا يعطي فيه الناس حقهم في الخبز والحرية والكرامة والعلم زمان بائس، وأن أنظمة أو حكومات تغيب الشعوب عن الفعل السياسي، وتحتكر الحقيقة والقرار، هي أيضا بائسة، وإن فئات تريد العودة إلي الماضي والجمود عنده هي أيضا طيبة النية لكنها ساذجة، وإن الجاحدين الذين يتنكرون للأمة ويلقون بأنفسهم في أحضان الآخر المهيمن متآمرون، وأن الصراخِ الذي لا يتبعه تغيير في الواقع نحو الحياة الجديدة بمعاييرها (الحرية، والعدل،والمساواة، والديمقراطية) هو فعل ناقص لا فائدة ترجي منه وإن أمة تعدادها 257 مليون (تعداد 1996) بينهم 13 ملايين من الأميين، قد تظل في دائرة الفقر والتبعية إلي زمان قادم بعيد وستظل جراحها دامية، وقد لا تتمكن من تحقيق مشروعات التنمية لأنها غير متكاملة قوميا، ولا تملك في سائر الأقطار العربية قاعدة علمية وتكنولوجية راسخة.تلك هي الأمة الموزعة في اثنين وعشرين كيانا، وذاك هو صوت غناء قديم يمتد في مناخ الضعف: ويلي من البينِ ماذا حلَّ بي وبها من نازلِ البينِ، حلَّ البينُ، وارتحلواوقد عجبت لتكرار البين ثلاث مرات وكأن صخرة تطبق علي روح الشاعر، فتذكرت أن قطعا هائلة من الصخور تطبق علي أرواحنا، ويكفينا مصطلحات التصريحات السياسية العربية في موضوع احتلال أمريكا للعراق، والكثير من حوارات الإعلام العربي التي تضع الباطل إلي جانب الحق ثم تقول لنا: هذا هو الحوار، وهذا هو التعبير عن بنية الوعي الجديد،إذن فليتشكل الوعي الجديد بسيطا وعذبا مثل قصيدة لناظم حكمت:

أريد أن يغني أطفالنا

حين يعودون متشابكي الأيدي

من حدائق الأطفال

الأغاني التي غنيتها لنفسي

إن أجمل ما سمعته من أصوات

سؤال طفل عن النجوم

وهو ينام علي ركبتي في ليلة صيف

وليكن المبدعون العرب جديرين باسمائهم في الزمان القادم، وهم يحلقون بأجنحة منسوجة من الحرية، والعدل، وكرامة الإنسان، ولتكن لغتهم، وألوانهم، وإيقاعاتهم فرحا بالحياة والمقاومة، ورفضا لهذا السواد الذي يمدّه علي أرضنا الغزاة والمستبدون ولينشدوا مع جدّهم أبي الطيب رائعته:

ما لنا كلُّنا جَــوٍ يا رسولُ          أنا أهوى وقلبك المتبولُ

إنها لحظة تاريخية صعبة، ولكن الصمت فيها هزيمة، وخير من الهزيمة أن نحمل أكفاننا ونسعي إلي المقابر قبل زمان موتنا بزمان هذا إن كان الخائفون يستحقون أضرحة في تراب الوطن، ونعيا في أعمدة الصحافة، وتذكرا في أربعين الخوف والهزيمة، والصمت المريب.

صوت:

هوّنْ علي بصرٍ ما شقََّ منظرُهُ

فإنما يقظاتُ العينِِ كالحُلُمِِ

ولا تشكََّ إلي خلقٍ فتُشْمِتَهُ

شكوي الجريحِِ إلي الغربانِِ والرَّخَمِِ

وكنْ علي حذرٍ للناسِِ تسترهُ

ولا يغرَُّك منها ثغرُ مبتسمِِ

سبحانَ خالقِ نفسي كيف لذ ّتها

فيما النفوسُ تراهُ غايةََ الألمِِ

(المتنبي)

* ناقد وأكاديمي من الأردن