الأديب الإنجليزي ماثيو أرنولد ( 1822 _ 1888)

"ما مدى غنى الحياة ومتعتها في مجتمع صناعي حديث ؟! " كان ذلك هو السؤال الدائم التردد في شعر ماثيو أرنولد ونثره . طرح نفس السؤال في شعره ، وحاول في نثره الإجابة عنه ببعض الأجوبة . وربما لا تقنعنا أحيانا طريقته في طرح ذلك السؤال ، وأحيانا قد تكون إجابته خاطئة . ويقلل من قبولنا لعذره في أخطائه ، مثلما قال هو نفسه عن رسكين ، أنه ما كان مخطئا وكفى ، بل كان يتعصب لخطئه حين يخطىء بلا دليل . ومع ذلك ، وفي المجمل ، كانت رؤية كتاباته للمستقبل حسنة الحظ . كتب الشاعر براوننج : " سوء الفهم في عصره هو بالتحديد المهمة التي أرسل لمعالجتها كشاعر " . وللغرابة الكافية فإن تلك العبارة تبدو ملائمة جدا بفضل كتابة أرنولد أكثر مما هي بفضل ما كتب براوننج عنه ،وملاءمتها له كانت ملحة من العصر الفيكتوري حتى عصرنا لسبب جزئي هو أن " سوء الفهم " كان ملحا أيضا . ومثلما قال ف . ر . لِفِز فإن أرنولد هو الوحيد من بين كل كتاب العصر الفيكتوري الكبار " الذي يستحق دراسة خاصة بطريقة لن يستحقها الآخرون نظرا لذكائه الخاص وطبيعة علاقته الخاصة بعصره " .

                                       ***

ولد ماثيو أرنولد في لِليهام ، وهي قرية في وادي التايمز . ويبدو قضاؤه طفولته في جوار نهر أمرا ملائما ؛ ذلك أن جداول صافية الجريان ظهرت في شعره رمزا للصفاء . وانتقل في عامه السادس إلى مدرسة رجبي التي صار والده دكتور أرنولد مديرا لها . ولما كان دكتور أرنولد رجل دين فقد تولى قيادة الكنيسة المتحررة ، ومن ثم صار واحدا من خصوم جون هنري نيومان البارزين ، وكذلك غدا في إدارته المدرسية مصلحا نابه الصيت ، ومعلما غرس في نفوس تلاميذه انشغالا حماسيا بالقضايا الخلقية والاجتماعية ، ووعي العلاقة بين الدروس المتحررة والحياة الحديثة . وتعرض ابنه الأكبر ماثيو في مدرسة رجبي إلى قوة عقله وشخصيته الكبيرة ، وكان موقفه من هذه القوة خليطا من الانجذاب إليها والصد لها . وتأثره الباقي بوالده جلي في قصائده وكتاباته في الدين والقضايا السياسية إلا أنه على مثال كثيرين من أبناء رجال الدين يومئذ بذل مجهودا عزوما في شبابه ليكون شخصية مختلفة . وسلك في جامعة أكسفورد كأنه واحدة من شخصيات روايات إفيلاين وو المبكرة . وبلباسه الأنيق الملون وبأسلوبه المراوح بين الفتور والمرح ؛ جذب الاهتمام بصفته غندورا متأنقا أثارت مزحاته الوقحة أصدقاءه ومعارفه في الدراسة الأكثر وقارا حتى ظهر شخصا لا صلة له بمعايير مدرسة رجبي الصارمة . وحتى دراسته بدا أنها لا تشغله شغلا جديا ، واستطاع بعد دورة دراسية مستعجلة حيازة مرتبة الشرف الثانية في اختباراته الختامية .وكادت تحل كارثة ، لولا أن الله سلم ، بتعيينه انتخابا زميلا في كلية أوريال . وعادة ما ينظر كتاب سيرته إلى طيش روحه بصفته حالة عابرة أو قناعا إلا أنه كان أكثر من ذلك . ومكث هذا الطيش يلون نثره ، ويضيء أكثر نقده جدية باللطافة والفطانة . وترى أغلبية القراء أناقة نثره ميزة كبيرة ، وإن كان آخرون يرونها شيئا سمجا مكروها . وأي شخص يرتاب في التحضر والتهكم سيتعجب من رأي ويتمان الفاسد الذي يقول إن أرنولد " واحد من متأنقي الأدب " ، والتقييم الأنسب لأسلوب أرنولد هو وصف أرنولد نفسه للناقد الفرنسي سانت بيف ب " ناقد المعيار ، قليل الإنتاج ، متوسط ، غير قروي ، مرح ودود ، أسلوبه في جودة موضوعه ، إنه الناقد الباسم " . وعلى خلاف الشاعر تنيسون أو كارلايل ، اضطر أرنولد إلى تقييد كتابته وقراءته بوقت فراغه ، ففي 1847 تولى وظيفة أمين سر خاص للورد لاندز داون ،وصار في 1851 التي هي سنة زواجه موجها مدرسيا ، وهي الوظيفة التي لبث فيها 35 عاما . ومع أن وظيفته موجها مدرسيا ربما تكون خفضت إنتاجه الكتابي إلا أنها كان لها مزايا كثيرة ؛ فقد أوصله سفره المترامي في إنجلترا للقيام بها ؛ إلى بيوت الطبقات المتوسطة الأشد التزاما بالبروتستانتية  . وحين انتقد سوء حال تلك الطبقات ، مثلما فعل دائما ، كان يعرف موضوع انتقاده معرفة وثيقة . وقادته وظيفته أيضا إلى السفر عبر القارة الأوروبية لدراسة أحوال مدارسها .وامتلك بصفته ناقدا للتعليم الإنجليزي القدرة على عقد مقارنات تعليمية نافعة ، واقترب من صياغة مجموعة أفكار جديدة بنفس الطريقة التي انتهجها في نقده الأدبي والتي أفاد فيها من معرفته بالفرنسية والألمانية والإيطالية والأدب الكلاسيكي لقياس منجزات الكتاب الإنجليز . وقد اقتنع بأهمية عمله في التوجيه المدرسي مع ما في كثير من ذلك العمل من الملل . ففي رأيه ، هو العمل الذي خدم ما عده أهم حاجة في قرنه ، القرن التاسع عشر ، وهو تطوير نظام تعليمي كافٍ للطبقات المتوسطة .نشر أرنولد في 1849 ديوان " العربيد الضال " أول دواوينه الشعرية ، وتقديرا لمنجزه الشعري انتخب بعد ثماني سنوات أستاذا لمبحث الشعر في جامعة أكسفورد في وظيفة دوام جزئي لبث فيها عشر سنوات . وطاف في ما بعد ، على مثال الروائيين الإنجليزيين ديكنز وثاكري ، في أميركا لكسب المال بتقديم المحاضرات . وكان من مغريات زيارتيه إليها في 1883 و1886 رؤية ابنته لوسي التي تزوجت أميركيا . ومات بعد عامين من زيارته الثانية إلى الولايات المتحدة بسكتة قلبية مباغتة . ويمكن تقريبا تقسيم حياة ماثيو الكتابية إلى أربع مراحل . في 1850 ظهرت معظم قصائده ،وفي 1860 ظهر نقده الأدبي ونقده الاجتماعي ، وفي 1870 ظهرت كتاباته الدينية والتربوية ، وفي 1888 ظهرت المجموعة الثانية من مقالاته الأدبية النقدية . ويتردد دائما سؤالان عن حياته شاعرا . الأول : هل شعره في قوة نثره أم أنه أقوى منه ؟! والثاني : لماذا توقف فعليا عن كتابة الشعر بعد 1860 ؟! وطبعا نال السؤال الأول إجابات متعددة متباينة ، وكثيرون من القراء يوافقون على طلب الشاعر تنيسون  الذي بعث به في رسالة إلى أرنولد ،وهو " قولوا لمات ( اسم التدليل . المترجم ) أن يكف عن كتابة المزيد من هذه المنثورات مثل " الأدب والعقيدة " ، و أن يقدم لنا شيئا مثل " الصولجان " ، و" الطالب الغجري " ، أو " المخلوق البحري " . ومن ناحية أخرى فإن ثمة ناقدا محدثا هو ج . د . جَم يعظم قيمة نثر أرنولد إلا أنه لا يرى قيمة لغير قصيدة واحدة من شعره ،هي " شاطىء دوفر" . وكثير من القراء يتذمرون محقين من عادات أرنولد السيئة في الشعر مثل اعتماده المسرف على الكلمات الممالة في كتابتها بدلا من البحر الشعري  لتوكيد معنى البيت في القصيدة ، أو تراهم يشيرون إلى الإطناب النثري الذي يستفتح به سونيتته ( قصيدة من أربعة عشر بيتا . المترجم ) البديعة : " إلى صديق " حث يقول : " إنك تسأل : من يساند عقلي في هذه الأيام البائسة ؟! " . وعلى نقيض هذا ، حين يتخلى عن صقل أفكاره الشعرية ، ويحاول الترقي إلى قمة ما يسميه " الأسلوب الرائع " يتولد نوع من الشك الذي يبدو جليا مثلما في قصيدة " سهراب ورستم " في التشبيهات الفائقة البراعة ، بيد أن نجاح قصائد جميلة مثل " الصولجان " أكثر من كافٍ للتغلب على اتهامات النقاد لشعره . وغالبا ما يكون ، مثلما في قصيدة " الصولجان " ، في أحسن مستوياته شاعرا من شعراء الطبيعة . وشاطىء البحر أو النهر أو ذؤابة الجبل تقدم ما هو أكثر من خلفية مشهدية لهذه القصائد . إنها تعمل لرسم المعنى في وحدة واحدة . واهتمام ماثيو بإبراز الطبيعة الخارجية في شعره ربما يبدو أكثر من إنجاز مثير للفضول لكاتب فائق التفوق إلا أنه ، ومثلما لاحظ مزامنوه ، في هذه الناحية وفي نواحٍ أخرى كثيرة يشبه الشاعر توماس جراي . ولأرنولد حكم معقول على مزايا شعره ، فقد كتب في 1869 رسالة إلى أمه يقول فيها : " تمثل قصائدي في مجملها الحركة الأساسية للعقل في الربع الأخير لقرن من الزمان ، ولهذا قد يأتيها يومها حين يعي الناس معنى تلك الحركة ، ويهتمون بالشعر الذي يعبر عنها . ولعله من العدل التوكيد أن إحساسي الشعري أدنى من إحساس الشاعر تنيسون ، وأن طاقتي الذهنية وغزارتي الشعرية أدنى من الشاعر براوننج إلا أنه ، وربما لكوني أكثر تلاحما في شعري منهما ، وطبقت ذلك التلاحم بانتظام أكثر منهما على مسار التطور الحديث ؛ قد يأتيني دوري في الأهمية مثلما أتاهما دورهما ". والتوكيد في رسالته على " حركة العقل " يوجب دراسة شعره ونثره معا ، وهذه المقاربة قد تكون مثمرة شرط ألا تحجب الفرق المهم بين أرنولد الشاعر وأرنولد الناقد . قال  ت . س . إليوت مرة عن كتاباته الذاتية : "  الكاتب في أفكاره النثرية قد يكون منشغلا بالمثاليات بينما لا ينشغل في شعره إلا بالواقع " ، وتقدم كتابات أرنولد تطبيقا دقيقا لمفارقة إليوت الظاهرية هذه ، فهو في شعره عادة يسجل تجاربه الذاتية ، وشعوره بالوحشة والعزلة في الحب ، وحنينه للصفاء الذي لا يجده ، وإحساسه بالاكتئاب والأسى لانصرام ريعان الشباب ، ( فعلى خلاف كثير من الناس كان العيد الثلاثون لميلاد أرنولد مناسبة وجع مثلما قال : " تجمدت ثلاثة أجزاء من حياته جليدا " . إنه يسجل قبل كل شيء قنوطه في عالم بدا له فيه دور الإنسان متنافرا لا توافق فيه مثلما بدا أيضا للشاعر توماس هاردي بعده ، ففي فقرة من قصيدة " راهبة كرتوزية " يصف نفسه ب "الهائم الحائر بين عالمين أحدهما ميت ، والآخر عاجز عن أن يولد " ، ويخاطب رجال الدين الذين يراهم موتى صارخا : " خذوني يا لابسي قلانس الرهبان ، واحموني من كل ناحية عساي أمتلك روحي ثانية ! " .

ويقدم أرنولد في كتابته ، على مثال الشاعرين ت . س. إليوت و: و . ه . أودين ، صورة شخص معتل في مجتمع معتل . كانت تلك هي " الحال " مثلما خبرها ، وينقب بصفته ناثرا وصائغا ل " المثل العليا " عن دور له مختلف هو ، مثلما يسميه أودين ، دور " الشافي " لمجتمع مريض ، أو مثلما سمى هو الشاعر الألماني جوته " طبيب العصر الحديدي " . وفي هذا الاختلاف للدور نجد جواب السؤال الذي سألناه من قبل : " لماذا هجر أرنولد كتابة الشعر ، وتحول إلى كتابة النقد ؟! " ومن بين الأسباب الأخرى لهذا الهجران كان عدم رضاه عن لون الشعر الذي يكتبه . وتصدمنا نغمة عدم رضاه ذاك  في إحدى رسائله البديعة إلى صديقه آرثر هيو كلو في 1850 ( وهي رسائل تعطينا أحسن استبصار لفكره وذوقه ) . يقول في تلك الرسالة : " أنا مبتهج من حبك لقصيدة " الطالب الغجري " ، لكن ماذا تفعل لك تلك القصيدة ؟! شعر هوميروس يبعث الحياة في النفوس ، وشعر شكسبير يبعث الحياة في النفوس ، وإخال قصيدتي "سهراب ورستم " تبعث الحياة أيضا بطريقتها البائسة أما " الطالب الغجري " فتبعث في أحسن حالاتها كآبة بهيجة ، ولكن ليس هذا ما نبغيه " ، وجليٌ أن أرنولد طور في بكور حياته الأدبية نظرية خاصة بما يجب أن يفعله الشعر للقراء ، نظرية تقوم في جانب منها على تأثره بما أنجزه الشعر القديم في هذا المجال . وفي رأيه أن الشعر يجب أن يجلب البهجة للناس ليجعل حياتهم محتملة العيش ، فالشعر ، مثلما يقول في مستهل " قصائده " في 1853 : " لابد أن يشجع القارىء ويبهجه ، ويأتي إليه بالجمال ، ويبث في نفسه الفرح " ، ولا يُستثنى من هذا الشعر المأساوي ، وإنما تستثنى الكتابات الشعرية " التي لا تلقى فيها مقاساة الإنسان متنفسا لها فعليا ، تلك الكتابات التي يطيل فيها الأدباء حالة التوتر الذهني " ، ويقول عن رواية إميلي برونتي " فيلِت: " لا شيء في بال الكاتبة إلا الجوع والتمرد والحنق . وما من كتابة بديعة بقادرة على إخفاء كل ذلك إخفاء تاما ، ومن شأن كتابتها هذه أن تكون مهلكة لها في المدى الآجل " ، وبتطبيق هذا المعيار تكون أغلب قصائد القرن التاسع عشر بما فيها قصيدته " الفيلسوف إمبادوقليس "  وسواها من قصائد أرنولد ليست بالمرضية . وهو حين حاول كتابة قصائد تستجيب لمواصفاته مثل " سهراب ورستم " أو "  بالدر الميت " لم يكن في أحسن حالاته شعريا . وهكذا ألفى نفسه في نهاية 1850  في طريق موصد ، واستطاع بتحوله إلى النقد أن يتلافى تلك المحنة جزئيا ، وتآزرت كآبته وشخصيته المرضية في نثره لإيجاد الشخصية المرحة ذات الهدف التي اصطنعها لنفسه بقوة إرادته . ويبين كتاباه " مقالات في النقد الأدبي " اللذان صدرا في 1865 و1888 على نحو متكرر كيف أن أدباء مختلفين اختلاف ماركوس أورِليوس وتولستوي وهوميروس ووردزورث وفروا له المزايا التي أرادها في قراءته لأعمالهم ، ومن بينها وضوح الأسلوب . ومع أنه امتدح في مناسبات متفاوتة ثراء لغة شعراء مثل كيتس  أو تنيسون وما سماه  " سحرهم الطبيعي " فإن إيثاره المعتاد إنما كان للأدب الخالي من الزخارف ، وكانت المزية التي تروقه في نقده أكثر من البدائع الأسلوبية هي ما سماه " الجدية العالية " ، ففي عالم تبدو فيه الديانة الرسمية ذات أهمية مساعفة ؛ تزايدت لدى أرنولد على نحو مطرد أهمية صيرورة الشاعر مفكرا جادا قادرا على أن يكون مرشدا هاديا لقرائه . وربما أدى موقف أرنولد من الدين في النهاية إلى طلبه الكثير جدا من الأدب ، وتبرز آماله المفرطة هذه خطأه الفادح الفاضح في النقد ، والمثال على هذا الخطأ مناقشته غير اللائقة في مقاله " دراسة الشعر " لنقص الجدية العالية عند الشاعر تشوسر . وواضح في مقاله " وظيفة النقد " أنه اعتبر النقد الأدبي الجيد ، مثلما اعتبر الأدب نفسه ، قوة فعالة في خلق مجتمع متحضر . ويمكننا بدراسة وثيقة لهذا المقال الأساسي أن نتنبأ بالمرحلة الثالثة من حياته الأدبية ، وهي تحوله إلى نقد المجتمع الذي قدر له أن يبلغ قمته في مقاله " فوضى الثقافة " في 1869، ومقاله " إكليل زهر الصداقة " في 1871. وتختلف نقطة بداية نقد أرنولد للمجتمع عن نقطة بداية كارلايل وجون رسكين ؛ إذ هاجم النبيان ( وصف مجازي لهما . المترجم ) القديمان الطبقات الوسطى في العصر الفيكتوري لماديتها ولامبالاتها بهموم الفقراء ، وفي الواقع لانعدام أخلاقها . أرنولد جادل بدلا من ذلك بأن " الفلسطينيين " ( كلمة يونانية الأصل تعني " الغرباء " " ومنها اشتق اسم الشعب العربي الفلسطيني . المترجم ) مثلما سماهم ليسوا أشرارا قدر ماهم جهلاء وضيقو الأفق ويقاسون من تبلد حياتهم الخاصة . وعزز هذا التحليلَ الجديد اقتناعُ أرنولد بأن عالم المستقبل سيكون عالم طبقة وسطى ، ومن ثم عالما تهيمن عليه طبقة وسطى غير معدة إعدادا ملائما لقيادته وللتمتع بالحياة المتحضرة فيه .ووظف أرنولد لترسيخ  نقطة البداية تلك المداهنة والهجاء ، ووظف حتى مقتبسات من الصحف بفاعلية كبيرة ، والكلمات الخلابة الجذابة مثل " الحلاوة ، سهل " التي ظلت شعارات مجدية مع أنها كانت عقبة في طريق فهم تعقيدات موقفه .فرأيه في الحضارة ،على سبيل المثال ، انخفض إلى صيغة من أربع نقاط هي القوى الأربع : " السلوك ، والعقل والمعرفة ، والجمال ، والحياة الاجتماعية والأخلاق " . وكانت صيغته بسيطة وفعالة ، وتوصل بعد تطبيقها على الحضارة الفرنسية والأميركية إلى ميزان يبين مزايا البلدان المختلفة ونواقصها . وحين طبق ذلك الميزان على بلاده منح دائما طبقات العصر الفيكتوري الوسطى الدرجة " أ " في نقطة السلوك إلا أنه منحها درجة " صفر"

في النقاط الثلاث الأخرى . وجرته تعريته الصارمة لضيق أفق الطبقة الوسطى إلى حلبة خلافات دينية محتدمة .وكان بصفته ناقدا للمؤسسات الدينية يجادل بأنه مثلما أن الطبقات الوسطى لم تعرف كيف تحيا حياتها كاملة فإنها أيضا لم تعرف كيف تقرأ الكتاب المقدس قراءة ذكية فاهمة أو تحضر الصلاة في الكنيسة حضورا ذكيا . وتعتبر دراساته الثلاث المطولة للكتاب المقدس ، بما فيها دراسة " الأدب والعقيدة " في 1873 حاشية لنقده الاجتماعي ، وكان من رأيه أن الكتاب المقدس عمل أدبي جليل مثل ملحمة الأوديسا ، وأن كنيسة إنجلترا مؤسسة وطنية مثل البرلمان ، ومن ثم تتعين المحافظة على الكتاب المقدس والكنيسة كليهما لا  لكون المسيحية التاريخية كانت صادقة ، بل لأن الكتاب المقدس والكنيسة معا كانا إذا فهما فهماً صحيحا قويما أداتين لما سماه " الثقافة " ؛ لأنهما جعلا الإنسانية أكثر تحضرا .ولعل مصطلح " الثقافة " هو أشهر كلمات أرنولد الخلابة الفتانة ، وإن كان ما قصده بها غالبا ما أسيء فهمه ، ويعني المصطلح بالنسبة له خصائص العقل الواسع الأفق ( مثلما يصفها في مقاله " وظيفة النقد " ) ، ورفض تقبل الأشياء بتلقائية . ويبدو في هذه الناحية وثيق الصلة ب : ت . ه . هكسلي ، و : ج . س . ميل إلا أن المصطلح يعني عنده أيضا المعرفة التامة بماضي الإنسان ، والقدرة على الاستمتاع بأحسن أعمال الفن والأدب والتاريخ والفلسفة التي انحدرت إلينا من ماضي البشرية . وتمثل الثقافة بالنسبة له ، باعتبارها طريقة لرؤية الحياة في كل مناحيها ، أنجع وسيلة لإبلال أي مجتمع من أسقامه . إنها وصفته الطبية الأساسية . وتوصلنا محاولته تعريف الثقافة إلى آخر ناحية في حياته ناقدا ، وهي كتاباته عن التعليم التي سعى فيها لجعل القيم الثقافية ، مثلما قال ، " تسود " . وتتضمن هذه الكتابات بوضوح قوي رده على هكسلي في مقاله " الأدب والعلم " المتسم بالعقلانية اتساما مثيرا للإعجاب ، إضافة إلى مجلدات تقاريره الرسمية التي كتبها موجها للمدارس ، وتتضمن بوضوح أقل كل نثره . وفي لب هذه الكتابات إيمانه بأن التعليم الجيد هو الحاجة الفائقة الأهمية للإنسان الحديث . وكان أرنولد نفسه معلما عظيما في جوهره ارتقى إلى درجة عليا في كفاءته ، وكان له أيضا نواقص المعلم ، وهي الميل إلى تكرير نفسه ، والاتكاء بقوة على العبارات المجهزة ، واتباع طريقة مِقرأة الكنيسة لتلاوة الكتاب المقدس ( المقصود النمطية . المترجم ) . ويتمتع أيضا بمزايا المعلم العظيم خاصة مزية التوصيل البارع لقناعته التي قامت عليها كل مجادلاته ، وقوام هذه القناعة أن التراث الإنساني الذي هو أحد كاشفيه قادر على تمكين الرجل أو المرأة من عيش حياتهما بكمال أكثر ، وقادر أيضا على تغيير مسار المجتمع . وقد حارب دفاعا عن هذه القيم . لاكم لابسا القفازات ، ولاكم ساخرا مازحا ، مثلما ألف خصومه أن يقولوا . وزودنا هو بعرض حي لحركة قدميه في الملاكمة يمتعنا أن نشاهده ، بيد أن جمال العرض لا ينبغي أن يحجب الحقيقة ، وهي أنه ، مثلما قال كارلايل ، سدد ضربات شاملة  للحماقة الواسعة في زمانه . ومع أن هجماته طيلة حياته على نواقص مذهب التطهر تجعله واحدا من أشد المناوئين الفيكتوريين  للعصر الفيكتوري فإن ثمة فرضية خلف هجماته ، هي أنها ذاتها فيكتورية  الخصائص ، والفرضية هي أن الطبقات الوسطى التطهرية قابلة للتغيير ، وأنها ، ونقول هذا متحفظين ، قابلة للتعلم . قال في 1852 في رسالة إلى الأديب كلو حول موضوع المساواة ( وهي هدف سياسي آمن به قناعة إن لم يكن طَباعة ) : " يتزايد اقتناعي بأن العالم يتجه نحو صيرورته أكثر راحة لعامة الناس ، وأقل راحة لكل من لديهم موهبة فطرية أو تميز ، وإضافة إلى احتمال حدوث هذا فإن الموهوبين حتى الآن أذهلوا العالم وأبهجوه إلا أنهم لم يدربوه ولم يلهموه أو يغيروه تغييرا حقيقيا " . واستطاع أرنولد بمواهبه الشعرية والنقدية أن يفعل الأمرين : أن يبهج العالم وأن يغيره .

                            ***

*من قصيدة " الحياة الدفينة " :

" وا ألماه !

هل الحب أوهن من أن يفتح القلب

ويدعه يتكلم ؟!

هل المحبون عاجزون عن البوح إلى

بعضهم بحقيقة مشاعرهم ؟!

عرفت كثيرين يخفون خواطرهم

مخافة أن يقابلهم الآخرون

باللامبالاة التامة إن باحوا بها .

عرفت أنهم عاشوا وتحركوا

متخفين حيلة وتقية ،

غرباء عن بقية الناس ،

غرباء عن ذواتهم إلا

أن ذات القلب يخفق في صدر كل إنسان " .

*عن " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي " .

وسوم: العدد 918