العقل زينة

"جيفري لانج" هو استاذ الرياضيات في جامعة "كنساس" الأمريكية، وبعد حصوله على الدكتوراه في الرياضيات أصبح أستاذًا في جامعة سان فرانسسكو، وكان في هذه الفترة مُلحدًا، وفي بدايات عام 1980، قرأ نسخة مترجمة من القرآن، فأعلن إسلامه، ومنذئذ وهو يقدم محاضرات عن الإسلام وأصدر عدة كتب في هذا المجال.

كانت محاضرته "رحلتي الى الإسلام" من أجمل ما شاهدته، فهي تشرح بالتفصيل وبعبارات غاية في الدقة كيف يمكن للعقل البشري الباحث عن الحقيقة بتجرد، أن يصل الى الإيمان ويدخل الإسلام بلا ترغيب ولا ترهيب، وتروي قصة التحول الفكري الجذري عند هذا الأستاذ الجامعي الذي كان كباقي الملحدين المتعلمين فخورا بما وصل إليه من معرفة وعلم. 

كانت البداية عندما وجد على مكتبه في الجامعة كتابا مزخرفا عنوانه: معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، ويبدو أن أحد الطلبة المسلمين تركه له لتعريفه بالإسلام، قال في نفسه: يا لهذا المغفل..وهل يعتقد أنني سأضيع وقتي في قراءة مثل هذه الأشياء!؟، فوضعه على أحد الرفوف.

عندما انتقل الى جامعة "كنساس"، جمع كل أغراضه في المكتب لشحنها، وتذكر الكتاب، فاستبقاه معه ليقرأ منه في الطريق، ولما فتحه قال لنفسه: ماذا سأجد فيه غير ما في الكتب المقدسة الأخرى..سأقرأ منه بضع دقائق ثم يغلبني النعاس مللا.

يقول "لانج": "من الصفحة الأولى شدني الأسلوب، فبعد ذكر صفات الله يقول: اهدنا الصراط المستقيم...، قلت لنفسي يا لفطنة هذا الكاتب (وكان وقتها يعتقد أنه من تأليف البشر)، فكأنه يقول للقارئ: تابع معي لأدلك على المعرفة الحقة، فتابعت، وفي السورة الثانية وجدته يقول منذ البداية " ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۛ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"، شدّني التحدي.. فيا لثقة الكاتب بنفسه، فهو يقرر سلفا أن ما فيه ليس مجال شك، لذا سأتابعه لأرى.

يقول "لانج" كلما قطعت معه شوطا كنت أجد شيئا جديدا، حتى وصلت الآية الثلاثين: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، وكان أهم ما هزني فيها، هو أن فيها إجابة على أهم ثلاثة أسئلة، كانت سبب بناء القاعدة الإلحادية لأفكاري، وذلك في قصة خلق الأب والأم الأولين: 

السؤال الأول: لماذا عاقب الله آدم بإخراجه من الجنة بذنب قدره عليه، وهو يعلم أنه سيرتكبه؟، فها هو الجواب: فإسكانه آدم وذريته في الأرض لم يكن عقوبة بل استخلاف له فيها، وأن يكون الإنسان خليفة لله فهذا تكريم عظيم لم ينله حتى الملائكة وليس عقابا، وهذا الأمر لم يذكره لنا القساوسة، بل قالوا إنه كان جزاء معصيته.

السؤال االثاني: لماذا أعطى الله العقل لمخلوقاته وفرض عليهم طاعته بلا جدال، فها هم الملائكة يحاورون الخالق في أمر قدره، ويتلطف معهم فيجيبهم أنه يعلم ما لايعلمون، إذاً فالعبودية لله لا تعني الإذعان وعدم التفكير، بل البحث عن التعليل، مع اليقين بأن المعرفة المطلقة لا يملكها غير الله.

السؤال الثالث: لماذا حمل الله المسؤولية عن الخروج من الجنة لزوجة آدم، ولماذا التحيز ضد المرأة بالقول أنها هي التي أغوته، وذلك في القصة المذكورة في الكتاب المقدس عن الحية والتفاحة ودور حواء في ذلك، فيقول "لانج" لم أجد في القرآن ذكرا لذلك، بل ورغم أنهما كلاهما أكلا من الشجرة المحرمة، إلا أن الله حمل المسؤولية الكاملة لآدم: " فأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى"، وهنا تتبدى العدالة والتي لا تكون إلا لإله عليم حكيم.

يتابع "لانج": هكذا كانت تتساقط حججي الإلحادية واحدة تلو الأخرى. 

وما أن أكمل القرآن حتى تلاشت جميعا، وعندها أدرك مبرر القول في بداية الكتاب أنه "لا ريب فيه"، إذ لم يجد فيه أي تناقض.

وعندها أدرك أن من لديه الثقة بقدرة هذا الكتاب على فعل كل ذلك، لا يمكن أن يكون بشرا، لذا فهذا هو كتاب الله حقا.

من قصة "لانج" نفهم معنى "هدى للمتقين"، فما أن قرأ القرآن ذاته، وليس عنه، بهدف الفهم والبحث المحايد حتى انشرح صدره للإيمان.

وسوم: العدد 969