دلوني على محمد

زهير كحالة

المنظر : (غرفة في منزل فاطمة بنت الخطاب ، لها نوافذ عالية وباب خشبي على اليمين وآخر على الشمال وسارية في الجانب الأيسر .. يظهر سعيد بن زيد قلقاً مهموماً ، يذرع الأرض جيئة وذهاباً ، وزوجه فاطمة تتحدث ويدها ممدودة إليه)..

فاطمة : سعيد .. ما بك يا ابن العم ؟

سعيد : قلبي يحدثني بأننا سنواجه أمراً جللاً هذا اليوم ..

فاطمة : ألا ترى أننا نكسب خيراً دائماً يا سعيد ، ما ثبتنا وصبرنا وضحينا واحتسبنا ؟

سعيد : بلى يا فاطمة .. لقد كسبنا إلى جانبنا حمزة بن عبدالمطلب ، وبذلك صار عدد المسلمين تسعة وثلاثين .

فاطمة : الحمد لله الذي أعزّنا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

سعيد : ولكني أريد أن أعرف ، إلى متى .. إلى متى نظل في هذا الرعب المقيم ، تبطش قريش بمن تشاء كما تشاء ؟

فاطمة : صدقت يا ابن عم .. إن البعض منا قد تركوا ديارهم وأموالهم .. وهاجروا بدينهم إلى الحبشة .. وبعضنا ارتضوا أن يقيموا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

سعيد : وما زال كل منّا لا يملك أن يصلي إلا خفية ، أو يقرأ إلا سراً ..

فاطمة : هي قريش يا سعيد .. تصر على اتباع دين الآباء ممن غبر ، وحجز العقول فلا تفكر ، وتغشية الأعين فلا تبصر .

سعيد : (حانقاً) أوَ لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ؟.. لقد مضت علينا ست سنين ونحن نحاول أن نخترق هذا السد المنيع من التفكير المتحجر والتعنّت المبكر .

فاطمة : رحم الله أباك زيد بن عمرو بن نفيل . لقد اعتزل آلهة قريش من قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن الوأد ، ولم يأكل من ذبائح الأصنام ، وتمنّى لو تركته قريش وشأنه .. ولكن ..

سعيد : ولكن أباك الخطاب وكّل به الغلمان والسفهاء ، فما زالوا به حتى أخرجوه من مكة شريداً عن بلده إلى أن أحرزه أجله ..

فاطمة : إن أبي كان فظّاً غليظاً ، لم يعرف هوادة ولا رحمة .

سعيد : هو ذلك يا فاطمة .. ولقد ورث منه أخوك عمر شدته وقسوته ، فلم يرحم المسترحمين ، ولم يلن للمستضعفين ..

فاطمة : أخي عمر .. آه لو شرح الله صدره للإسلام .. آه لو لان جلده لسماع القرآن ..

سعيد : مسكينة أختنا لبيبة .. كم ذاقت على يده ، وكم لاقت من أذيّته ..

فاطمة : ومع ذلك فإني لأرجو أن يقذف الله في قلبه الإيمان ، فيوسع الناس خيراً ، كما أوسعهم شراً ..

سعيد : (يتجه إلى النافذة ، فينظر منها ويتنهد بألم) هناك .. تحت سماء الحبشة .. أمن وسلام .. وهنا تحت سماء مكة .. رعب وعذاب .. ما ضرّ قريشاً لو تركتنا نتنسم هواء الأمن في هذه الأرض ، ما دام أن الهواء هواء حيث كان ، مثلما أن السماء سماء في كل مكان .

فاطمة : يخامرني شعور بالأمل يا سعيد ، في أن ينفتح قلب عمر لهذا الدين .

سعيد : (ساخراً) كلامك يذكرني بقول عامر بن ربيعة ..

فاطمة : ماذا قال يا سعيد ؟

سعيد : كان عمر يتهيّأ للرحيل ، هو وأمه ، إلى الحبشة ، فتركها في بعض حاجاته ، وإذا بأخيك عمر يقبل عليها ويقول : إن للانطلاق يا أم عبدالله ؟ فقالت نعم والله . لنخرجنّ في أرض الله . آذيتمونا وقهرتمونا ، حتى يجعل الله مخرجا . أتعلمين ماذا قال أخوك عمر بن الخطاب ؟

فاطمة : ماذا قال يا سعيد ؟

سعيد : ودّعها قائلاً " صحبكم الله " ثم انصرف ، وكأنه رقّ لها ، على غير ما عهدناه من قسوة عمر .

فاطمة : (بابتهاج) أرأيت يا سعيد ؟.. إن أخي مهما كان عاتياً فهو كالبحر يتلاطم الموج على سطحه ، وإن كان الماء مستقراً في قاعه .

سعيد : ألا أنبئك بما قال عامر بن ربيعة عندما أخبرته أمّه بما بدر من عمر ؟

فاطمة : ماذا قال يا ابن عم .

سعيد : قال : " والله لا يسلِم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطّاب " .

فاطمة : ما يدريك يا سعيد ؟ أليست قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبها كيف يشاء ؟

فاطمة : (تفتح الباب وتجول ببصرها هنا وهناك ثم تغلق الباب) لقد تأخر علينا خبّاب يا سعيد ..

سعيد : كم نحن في لهفة إليه ، إنه يأتينا بالوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقطر شهداً من شفتيه .

(يدق الباب)

سعيد : (يفتح الباب بسرعة) من ؟ أخي نعيم ؟

نعيم : (هامساً) السلام عليكم ورحمة الله ...

سعيد : وعليكم السلام ورحمة الله .. ادخل يا نعيم ...

(يدخل نعيم ، ويغلق سعيد خلفه الباب بحذر)

سعيد : خيراً يا نعيم ؟ ما وراءك يا أخي ؟

نعيم : أعلمت ما فعلت قريش ؟

سعيد : ماذا فعلت يا نعيم ؟

نعيم : لقد أرسلت إلى النجاشي من يستعيد منه اخوتنا المهاجرين ليعود بهم إلى مكة ..

فاطمة : وهل يفعل ذلك النجاشي ؟ أو ترضى له مروءته تسليم المستأمنين عنده ؟

سعيد : (بحدة) ويح قريش .. ويح كل جبار عنيد .. ويح كل كفار أثيم .. أما كفاهم أن صدّوا عن سبيل الله في مكة ، حتى بعثوا يصدون عن سبيل الله في الحبشة ؟.

نعيم : إنه الكفر العنيد يا سعيد .. لا يتراجع ولا يستسلم ، إلا أن يُقضى عليه القضاء المبرم ..

فاطمة : وطيف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أخي نعيم ؟

نعيم : لهفي عليك يا رسول الله .. إنهم يزدادون أذىً لك ، وضراوة عليك ، وأنت تزداد حزناً عليهم ، وأسفاً لهم ..

فاطمة : رباه .. متى تنقشع الغشاوة عن أعينهم ؟ متى ينور الله بالقرآن قلوبهم ؟

نعيم : إن قريشاً تقول : " إن القرآن ما نزل على محمد إلا ليشقى ، ولو أن محمداً ترك قريشاً ودينها لما شقيَ أبد الدهر "..

سعيد : (ثائراً) قريش تزعم ذلك ؟ أليست هي التي آسَفَت الله ورسوله بكفرها وصدِّها عن سبيل الله ؟..أليست شمس كل يوم تشهد على ما تفعله قريش بالمستضعفين ؟ أليست كل تضحية من جانب المؤمنين هي لتأمين السعادة للعالمين ؟ ألم يسمعوا قول الله عزّ وجلّ : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " ؟ فمن الذي هو أحق بأن يشقى بنزول القرآن ، سعيد الدارين ، أم محروم الجنتين ؟

فاطمة : متى تدرك قريش أن الإسلام هو صراط السعادة للمهتدين ، وأن النبي هو رحمة الله المهداة للعالمين ؟

نعيم : (محتداً) لابدّ من يوم يدرك فيه المشركون أن الشقي الشقي هو باء بالخسران .. وأن السعيد السعيد هو من فاز بالرضوان .. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ..

فاطمة : خفض صوتك يا نعيم .. خفض صوتك يا سعيد ..

نعيم : عذيرك يا أم جميل ..

سعيد : أنت محقّة يا فاطمة ، فما آن الأوان بعد ، لنقرع سمع الظالمين ..

فاطمة : خبّرني يا نعيم .. هل ما زلت تتفقد آل بني عدي ؟

نعيم : نعم يا فاطمة .. ولقد رأيت أخاك عمر بن الخطاب كتلة ملتهبة من الجمر حين غادر بيته وهو يقتاد مولاته لبيبة ، ليعذبها مع المستضعفين .. ورأيت زوجته زينب تكفكف الدمع خلفه ..

فاطمة : كان الله في عون زينب بنت مظعون .. وهدى الله زوجها عمر بن الخطاب ..

نعيم : لو رأيتما الصغيرة حفصة وهي تنظر بعين الفزع والرعب إلى المسكينة لبيبة ، وعمر ينهال عليها ضرباً بكلتا يديه ..

فاطمة : لهفي عليك يا حفصة بنت عمر ..

نعيم : لولا أنني أتعهد أرامل بني عدي وأنفق على أيتامهم لما دنوت من آل الخطاب خشية أن أتعرض من عمر لما أكره .

سعيد : احذر على نفسك منه يا نعيم بن عبدالله ..

نعيم : وأرجو أن تحذروا على نفسيكما منه كذلك .. آن لي أن أنصرف الآن .. السلام عليكم ورحمة الله ..

فاطمة وسعيد : وعليكم السلام ورحمة الله ..

(سعيد يفتح الباب ، ويصافح نعيم ، ثم يغلق الباب بعد خروجه) ..

سعيد : أن المشركين يريدون أن يستعيدوا اخواننا المهاجرين من الحبشة .. اللهم ردّ كيد المشركين إلى نحورهم ، واجعل الدائرة تدور عليهم ..

فاطمة : (ضارعة) اللهم أحبط مسعاهم ، وزد في غيظهم ، بأن تجعل أكبر سيد فيهم يدخل في دينك يا رب العالمين ..

سعيد : اللهم اجعل لنا من يكمل عدّتنا أربعين رجلاً ..

فاطمة : اللهم أكمل عدّتنا بعمر بن الخطاب ..

سعيد : (بابتهال) اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب ..

(طرق خفيف على الباب يتلوه صمت ثم طرق خفيف بإيقاع خاص) ..

فاطمة : (بابتهاج) هذا هو طرق خباب ..

سعيد : (يسرع إلى الباب ويفتحه) ..

خباب : (داخلاً) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

سعيد وفاطمة : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..

خباب : لقد جئتكم بصحيفة جديدة ..

سعيد : (يفرح) حقاً يا أخي خباب ؟ إننا لأشبه بالأرض العطشى تنتظر الرّي بالماء الزلال .

فاطمة : هيا عجّل واقرأ علينا يا خباب .. فإنك تسمع القرآن غضاً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

سعيد : روِّنا مما ارتشفته من نبعة الحق يا أخي خباب ..

(يجلسون متلاصقين .. خباب عن يمين سعيد وفاطمة عن يساره)

الملائكة : (تدخل بأجنحتها وتملأ المكان)..

خباب : (يقرأ بخشوع مع الترتيل) :

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

" طه . ما أنزلنا القرآن عليك لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى . تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلا . الرحمن على العرش استوى . له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرَّ وأخفى . الله لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى " ..

الملائكة : (تردد بصوت مؤثر) الله لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى ..

فاطمة : (تتنهد) تباركت أسماؤه الحسنى ، إني لأسمع في الأعماق أصداء تردد معنا آيات القرآن ..

سعيد : لا أكاد أمسك نفسي وأنا أسمع كلام الله ..

فاطمة : آه لو سمع عمر هذا الكلام ..

خباب : (بابتسامة ذات مغزى) أتتمنين يا فاطمة أن تري أخاك في الجنة ؟..

فاطمة : وكيف لا يا خباب ؟ إنني لأتمنى من كل قلبي أن يشرح الله صدر أخي للإسلام ..

خباب : بشراك إذن يا فاطمة .. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يؤيد الإسلام بعمر بن الخطاب ..

فاطمة : (تهب واقفة من شدة الفرح) أحقاً تقول يا خباب ؟

خباب : نعم والله يا أختاه .. قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم أعزّ الإسلام بعمر بن الخطاب : (1)...

فاطمة : (ضارعة) اللهم حقق دعوة نبيك في عمر بن الخطاب .. اللهم أكرم بها عمر بن الخطاب .

سعيد : (ضارعاً) يا رب .. يا رب ..

(دق على الباب)

سعيد : (بحذر) من الطارق ؟

عتبة بن أبي وقاص : (من الخارج) عتبة بن أبي وقاص ..

سعيد : اختبئ يا خباب .. أخرجي يا فاطمة ..

(تخرج فاطمة من الباب الذي على يسار المسرح ويختبئ خباب خلف سارية الباب)

سعيد : (يفتح الباب الذي على يمين المسرح) مرحباً بك يا عتبة ..

عتبة : (داخلاً) هل رأيت نسيبك عمر يا سعيد ؟

سعيد : لم أره اليوم يا ابن أبي وقاص .. هل من جديد ؟

عتبة : نعم يا سعيد .. كنا اليوم في الندوة ، نبحث في أمر محمد . وكان ابو الحكم عمرو بن هشام أشدنا حملة عليه ، وإذا بعمر يفد علينا ، فما رأيناه مثل اليوم محمّر العينين ، منتفخ الوجنتين ..

سعيد : (بقلق) مم يا عتبة ؟

عتبة : مما صار إليه أمر محمد .. فما أن سكت عمرو بن هشام ، حتى قام أمية بن خلف ، فقال يا قوم إن الشريف من العرب ، وأشار إلى أبي لهب ، ليوتر دينه على دمه .. وشرفه على ولده ..

سعيد : إن أمية بن خلف كان يعني أبا لهب بشيء يا عتبة ..

عتبة : نعم يا سعيد ، فما لبث أن قام أبو لهب ، وقال : يا قوم ، إن محمداً عليَّ حرام ، ولو كان ابن أخي ، ألا وإنني قد أبحث لكم دمه .

سعيد : (باستنكار) ماذا تقول يا عتبة ؟.. أباح أبو لهب دم ابن أخيه محمد ؟.

عتبة : نعم يا سعيد .. ولكن أبا طالب ما زال يحميه ، وقد أبى تسليمه لنا يوم طلبنا منه ذلك ، فإن قتلناه لينهضنّ بنو هاشم ، ويضرمنّ نار حرب بين القبائل . لذا فكرت قريش في أن يتولى قتل محمد عمه أبو لهب ، فلا تفعل بنو هاشم بنفسها شيئاً ، وينتهي بسلام أمر محمد ..

سعيد : وهل قبل أبو لهب أن يسفك دم ابن أخيه ؟

عتبة : بل طلب من القوم أن يعفوه من ذلك . ويا لقريش وقد هاجت وماجت .. حتى قام فأخذ القوس باريها ..

سعيد : أبو الحكم عمرو بن هشام ؟

عتبة : بل عمر بن الخطاب يا سعيد ؟ !!

سعيد : (بدهشة) ماذا تقول يا عتبة ؟ عمر بن الخطاب ؟.. لأفعلنها يا عمر ... وأيم الكعبة لن يتركك بنوهاشم تمشي سالماً على الأرض ..

عتبة : ليتك سمعت أبا الحكم ، وهو يورث ناره ، ويعرك أنفه ، ويقسم ليدفعنّ إليه بمئة ناقة حمراء ، ومقدار من الذهب والفضة ونوافج المسك ، لو يأتي برأس محمد ..

سعيد : (مردداً بذهول) يأتي برأس محمد ؟..

عتبة : (بابتهاج) نعم يا سعيد .. ولو كنت معنا ، وسمعت نسيبك ، وهو يعدنا وعداً عمرياً ، ثم يمضي ونحن نردد بعده ، أنت لها يا عمر .. أنت لها يا عمر ..

سعيد : (يمسك رأسه بيديه من فرط حيرته) ..

عتبة : سأعود الآن إلى دار الندوة .. عمت مساء يا سعيد ..

سعيد : عمت مساء ..

(يفتح له الباب ويودعه ثم يغلق الباب خلفه)

سعيد : (صائحاً) فاطمة .. خباب .. أسمعتما ما قال عتبة بن أبي وقاص ؟

فاطمة : (داخلة) كيف قبل أخي بذلك ؟ .. كيف باع نفسه للشيطان ؟

سعيد : (بخوف) إنك تعلمين عمر .. فما وعد إلا وفى .. روحي فداك يا رسول الله .

فاطمة : (بخوف) رباه .. العصمة لنبيك ...

سعيد : (بقوة) يجب أن نحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فلا يجوز أن نتركه على مثل مشفر الأسد .

خباب : اطمئن يا سعيد .. اطمئني يا فاطمة .. فما بعث الله محمداً ليقتله الناس .. إن الله سيعصمه منهم .. وينصره عليهم .. وهل أرسله الله إلا ليتم نوره ، ويظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ؟.

(خبط شديد على الباب .. تقع الصحيفة على الأرض) .

عمر : (من الخارج) افتحوا الباب .. أنا عمر ..

(خبط سريع على الباب)

فاطمة : سعيد ....

(توميء إليه ليفتح الباب)

خباب : (يسرع ويختبيء خلف سارية البيت)

(سعيد يتجه نحو الباب فتبادر فاطمة وتسبقه لفتحه ويبقى سعيد ناظراً بخوف إلى الباب)

عمر : (من الخارج) ما هذه الهينمة التي سمعت ؟

فاطمة : (من الخارج) ماذا سمعت يا أخي عمر ؟

عمر : (من الخارج هادراً) ما الذي كنتما تتحدثان فيه ؟

فاطمة : إنه والله لا يعدو حديث كل يوم .

عمر : كذبت يا عدوة نفسها .. لقد أبدى الصريح عن الرغوة .. قولي إنك صبأت أنت وزوجك سعيد ..

فاطمة : إني لم أصبأ يا عمر ولكن ..

عمر : (يصفعها) اخرسي ..

فاطمة : (صائحة) آي ..

سعيد : (تثور حميته فيهم بالخروج للدفاع عن زوجته ثم يلتفت إلى خباب في مخبئه فيشير إليه بالتريث)

سعيد : لا فعلتها يا عمر .. تضرب أختك الطاهرة ، لا لذنب إلا أن صدقتك ولم تكذبك ..

عمر : (من الخارج) صه .. قسماً بهبل ، لأطأنك حتى أخمد أنفاسك أيها الصابئ اللعين ..

فاطمة : (من الخارج) ألا فاعلم إذن يا عمر ، لقد أسلمنا برغم انفك ، فاصنع ما شئت ..

عمر: (هائجاً) إخرسي عليك اللعنة .

سعيد : (يندفع إليه) ويحك يا عمر .. كيف تضرب أختك ، أن قالت ربي الله ؟

خباب : (يخرج من مخبئه خطوة قصيرة إلى الأمام ، ويداه ممدودتان بالدعاء إلى الله) ..

عمر : (من الخارج) أغرب عن وجهي ، بئس الختن أنت .. ماذا تقول قريش وهي تراني أمضي لأخمد الفتنة التي أوقدها محمد ، والأمر داخل عليّ في أهلي بين أختي وخنتي ؟

سعيد : (داخلاً القهقهري) لم لا تعقل يا عمر ؟ .. ألأجل أن كنا نأكل الميتة فهجرناها ؟ .. ألأجل كنا نكذب فصدقنا ، ونخون فوفينا  ؟.. ألأجل أن كنا نتبع الباطل فاتبعنا الحق ؟.. ألأجل أن كنا نعبد الشيطان فعبدنا الرحمن ؟...

عمر : (من الخارج) الرحمن ؟

فاطمة : (تدخل ووجهها يدمي ، وتقف إلى جانب زوجها) نعم يا عمر .. الرحمن الذي علم القرآن .. الرحمن الذي خلق الإنسان علّمه البيان .. الرحمن الذي رفع السماء ووضع الميزان ..

عمر : (من الخارج) لقد فتنكم محمد والله بشعره ..

سعيد : لا والله يا عمر ، ما هو بشاعر ..

عمر : (من الخارج) إذن فهو كاهن ..

سعيد : وما هو بكاهن ..

عمر : (من الخارج) إذن فهو ساحر ..

سعيد وفاطمة : وما هو بساحر ..

عمر : (من الخارج) ما ذاك ؟

فاطمة : (تشهق) رباه .. (تأخذ الصحيفة من على الأرض وتضعها في صدرها) ..

عمر : (من الخارج) دعيني أراها ..

فاطمة : لا يا عمر .. لا أعطيك كلام الله ..

عمر : (من الخارج) كلام الله ؟ أعطيني هذه الصحيفة لأرى ما فيها يا فاطمة ..

فاطمة : لا والله يا عمر ، أخشى أن تطيع الشيطان ، فتمزقها ، كما حاولت أن تمزّق وجهي ..

عمر : (من الخارج) لا يا فاطمة .. أعاهدك أن لا أفعل بها شيئاً .. دعيني أقرأها ثم أعيدها إليك فتحوزيها حيث شئت ..

فاطمة : أخي عمر .. إن هذا قرآن كريم ، لا يمسّه إلا المطهرون ..

عمر : (بدهشة) لا يمسّه إلا المطهّرون ؟.. أتمنعينني هذه الصحيفة لأني نجس ؟..

فاطمة : نعم يا أخي .. إن كلام الله لا يتلقاه إلا قلب طاهر ، ولا يقرؤه إلا فم طاهر .. فإن شئت أن تقرأ الصحيفة فاغتسل أو توضأ ..

عمر : (من الخارج) أتوضأ ؟..

سعيد : نعم يا أخي عمر .. تتوضأ فتخلي قلبك من كل شر ، وتطهر جسدك من كل قذر ، وتصفي روحك من كل كدر ، وتستعد لاستقبال فيض السماء الذي لا يستقبله إلا الجديرون بتلقيه على الأرض ..

عمر : (من الخارج) ولكني لا أعرف الوضوء ..

سعيد : تعال معي يا عمر أعلمك الوضوء ..

(يخرج إليه)

خباب : (يتقدم من مخبئه) ..

فاطمة .. أتأمنين على الصحيفة مع عمر ؟

فاطمة : (بابتسام) إن قلبي يحدثني بخير يا خباب ..

خباب : فاطمة .. إنك تدفعين كتاب الله إلى كافر ..

فاطمة : أرجو أن يهدي الله أخي يا خباب ..

خباب : أدعو الله أن يشرح صدره للإسلام ..

فاطمة : هداك الله يا عمر .. هداك الله يا عمر .. ستكون فرحتي غامرة لو استجاب الله وهداك يا عمر ..

خباب : أسمع صوت خطواته ..

فاطمة : اختبيء يا خباب ..

(خباب يختبيء خلف السارية ويرفع يديه داعياً)

عمر : (من الخارج) لقد توضأت يا فاطمة ..

سعيد : (داخلاً من الباب الذي على شمال المسرح) ها قد طهر جسدك بالماء يا عمر .. فعسى أن تطهر روحك بالإيمان قريباً إن شاء الله ..

فاطمة : هاك الصحيفة يا أخي ..

(تخرج من الباب الذي على يسار المسرح ثم تعود وتقف بجانب زوجها سعيد)

سعيد : اقرأ باسم الله يا عمر ..

عمر : (من الخارج) بسم الله الرحمن الرحيم .. (يرتجف صوته) ما هذا ؟..

فاطمة : عد إلى نفسك يا أخي .. اقرأ كلام الله جل جلاله .. فوالله ما يشرح الصدر مثله ..

سعيد : اقرأ يا عمر .. فالملائكة باسطو أيديهم ، خافضو أجنحتهم ، يقرأون ما تقرأ ، فتتلألأ الآيات كقلائد النور بترتيلهم ..

عمر : (من الخارج) بسم الله الرحمن الرحيم .. (يتمهل ثم يقرأ بتؤدة وتدبر) طه .. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ..

الملائكة : (من جميع الأطراف) طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ..

عمر : (من الخارج) إلاّ .. تذكرة لمن يخشى ..

الملائكة : إلا تذكرة لمن يخشى ..

عمر : (من الخارج) تنزيلاً .. ممن .. خلق الأرض .. والسماوات العلا ..

الملائكة : تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلا ..

عمر : (من الخارج) الرحمن ..

(يتوقف هنيهة) ..

سعيد وفاطمة : (برجاء) أتمم يا عمر ..

عمر : (من الخارج) الرحمن على العرش استوى . له ما في السماوات وما في الأرض .. وما بينهما . وما تحت الثرى .. وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرّ وأخفى .. الله (يتردد ثم يمضي) الله لا إله إلا هو .. له الأسماء الحسنى ..

الملائكة : الله ، لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ..

عمر : (من الخارج) ما أحسن هذا الكلام . أمن هذا فرّت قريش ؟

سعيد وفاطمة : (مأخوذين) اقرأ .. إقرأ هداك الله يا عمر ..

عمر : (من الخارج) وهل أتاك حديث موسى .. إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا ، لإنس آنست ناراً ، لعلّي آتيكم منها بقبس ، أو أجد على النار هدى .. فلما أتاها نودي يا موسى . إني أنا ربك ، فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى . وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى . إنني أنا الله ، لا إله إلا أنا فاعبدني . وأقم الصلاة لذكري . إن الساعة آتية أكاد أخفيها ، لتجزى كل نفس بما تسعى . فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ، واتبع هواه فتردى .. ما أكرم هذا الكلام .. ينبغي لمن يقول هذا أن لا يعبد معه سواه ...

سعيد وفاطمة : (بابتهاج) أخي عمر ......

عمر : (من الخارج بقوة) آن للنفس التائهة بين الظلمة والنور أن نغتسل من أدران الشرك وأخباث الشك ، وأن تستبرئ من دنس الخطايا والآثام ، لتلج إلى النور من باب الغفران ، وتلقي مراسيها على بر السكينة والسلام .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله ..

الملائكة وفاطمة وسعيد وخباب : (صائحين من الفرح) الله الله يا عمر .. الله الله يا عمر .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..

المنشد : يا رباه .. لولا معصيتي .. من يعلم أنك تواب غفار ..

يا رباه .. لولا طمعي بالغفران العلوي ، وإيماني ، ما كنت عصيت ..

يا رباه ، دعني أتمرغ في أحضان الغفران ..

يا رباه .. يا رباه ..

فاطمة : (تندفع نحو أخيها من فرط سرورها) ..

خباب : (يتقدم من مخبئه) الحمد لله الذي هدى عمر بن الخطاب ..

عمر : (من الخارج) من ؟ خباب بن الأرت ؟ ماذا تصنع هنا يا خباب ؟

سعيد : إنه يأيتينا بالصحف ليعلمنا ما فيها من وحي رب العالمين ..

عمر : (من الخارج) وحي رب العالمين .. اللهم عفوك وغفرانك .. كيف كنت عن هذا النور من العمين ؟..

خباب : أبشر يا عمر . بالأمس دعا لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

عمر : (من الخارج) ماذا قال يا خباب ؟

خباب : (بضراعة) اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب (1) . اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب (2)..

فاطمة : (من الخارج) هنيئاً لك يا أخي .. لقد استجاب الله فيك دعاء رسوله .. فأية كرامة أرادها الله لك ؟

عمر : (من الخارج) كرامة ؟...

فاطمة : (من الخارج) نعم والله يا أخي .. (تدخل) وهل أعظم من أن تحظى بهداية الله ورضوان رب العالمين ؟....

عمر : (من الخارج) واهاً لنفسي .. كيف ألقيت بيدي في التهلكة حين تقلدت سيفي ، وتنكبت كنانتي ، وتوجهت لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله في طريقي سعد بن أبي وقاص ، ونعيم بن عبدالله ، فأخبراني بإسلامكم ، وكانا هما السبب في مجيئي إليكم ..

خاب : والله ما جاءت بك إلا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر ..

عمر : (من الخارج) (بقوة) دلوني على محمد ..

خباب وسعيد : (بابتهاج) هيا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ...

(يخرجان)

فاطمة : (تسجد شكراً لله) ...

الراوية : (من طرف المسرح) قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لما أسلم عمر قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ، لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر " (3)..

المسلمون : (من بعيد) الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..

الراوية : إن المسلمين في دار الأرقم بن أبي الأرقم يكبرون لانضمام عمر إلى حزب الجنة ، وتلقي جائزة الرضزان ..

المنشد : زغرد في الأضلاع الفرح

المسكوب خطى نحو الجنة

زغرد فجر

في أفق النفس المصلوبة

بين الظلمة والنور

لمس النور الأسمى شفة الأرض

الحبلى بالوعد

اهتزت بالخصب

تنفس في دمها الدرب

يا للبشرى

النفس الراضية المرضية

تعبر مدخل مرضاة الرب

تدنو من عتبات الحب

وعلى الطرقات ملائكة

ترشقهم بالنور

تفرش بالبسمات الدرب لهم

وعلى رابية رضوان يشير لهم

أن طبتم نفساً

فهلموا (1)..

المسلمون : (من قريب) الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..

فاطمة : (تنهض مسرعة وتطل من النوافذ) يا إلهي .. إني لا أكاد أصدق عيني .. المسلمون يخرجون من دار الأرقم في صفين .. يقود أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ويقود الآخر عمر بن الخطاب .. إننا لنستقبل عهداً جديداً للإسلام .. الحمد لله الذي أعزنا عمر بن الخطاب ..

الراوية : قدماً تمضي نحو الجنة يا من أخرجك من الظلمات إلى النور .. وصعداً ترقى أعمالك يا فاروق ، يا راشد ، يا محقق عز الإسلام ..

الملائكة : " يهدي الله لنوره من يشاء " ..

صدق الله العظيم ..

المنشد : أول الطريق ... " دلوني على محمد ، " دلوني على محمد " ...

               

الهوامش :

  1. الطبقات لابن سعد .

  2. الحاكم وابن ماجه .

  3. الطبقات لابن سعد .

  4. أشعار المنشد مقتبسة من كتاب " القيامة " للشاعر عبد الفتاح قلعجي .