الحج

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من مشهدين

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

المشهد الأول :

أبو إبراهيم في بيته  يرتب بعض حاجاته كمن يتجهز للسفر سمع طرقات على الباب أسرع وفتح

أبو همام : السلام عليكم يا أبا ابراهيم أتأذن بالدخول ؟

ابو ابراهيم : أهلا وسهلا   تفضل البيت بيتك

 أبو همام: شكرا ..  يسلم البيت وأصحابه ..  يدخل .. يجلس حيث أشار إليه أبو ابراهيم ثم قال : ( شغلت بالي عليك ..   خير..  رأيتك اليوم منهمك ومستعجل.. ولا تكاد ترى أمامك !

أبو ابراهيم : لا شيء .. ولكني نويت على أداء فريضة الحج فأنا أجهز نفسي

ذهبت اليوم إلى دائرة الهجرة والجوازات وسجلت اسمي للحج

أبو همام : ماذا !!  تريد الحج !؟

أبو ابراهيم : نعم ..  أريد الحج  ..إني اليوم قادر على الحج .. المال موجود والصحة تمام والحمد لله .

أبو همام : ولكن أليس الوقت مبكرا يا أبا ابراهيم فما زلت شابا  دون الخمسين من العمر !!

أبو ابراهيم : (يضحك  ويعجب ) ماذا تقول يا أبا همام !! أتقصد أن الحج لا يجوز لأمثالي !! من أين لك هذه الفكرة !؟

أبو همام : نعم .. نعم.. ولكني أقول أن الإنسان يؤدي الحج في أواخر عمره كي يذهب إلى ربه وهو طاهر ونظيف وخالي من الخطايا والذنوب ..   أي يواجه ربه وهو مغفور له

أبو ابراهيم ( يزداد عجبه من هذا الكلام ) ومتى يكون آخر العمر يا أبا همام ؟ هل تعرف متى يكون!!  أخبرني أر.. جوك

أبو همام : ( يرتبك ويتلعثم ) أقصد أن في الأمر سعة  وأنت لا تزال شابا فلو أنك زوّجت ولدك ابراهيم وفرحت به كان ذلك أولى أليس كذلك أم أنا مخطىء ؟

أبو ابراهيم : بالنسبة لزواج ولدي فهو محسوب ومحسوم وابراهيم لا يريد الزواج الآن   أما كوني شابا فهذا أدعى لتحمل مشاق السفر والترحال وأداء الفريضة على أكمل وجه  ما قولك ؟

أبو همام : من رأيي ــ وأنت حر ــ أن تؤجل الموضوع عدة سنوات لتطمئن على نفسك وعلى عيالك وتؤمن لهم ما يحتاجون

  أبو ابراهيم : ياأبا همام .. يا أبا همام هذه كلها وساوس شيطان ومداخل إبليس ليصدّ المؤمنين عن عبادة ربهم  فكثير من الشباب يمنعهم شيطانهم عن الصلاة مثلا  بدعوى أنهم لا يزالون شبابا  ويريدون أن يتمتعوا بحياتهم ثم يتوبون ويصلون ويعبدون ربهم إذا تقدّم بهم العمر

أبو همام : هذا صحيح ولا ريب

أبو ابراهيم : وأنا أقول هذا صحيح  وهذا هو عمل إبليس يصدّ عن سبيل الحق ويلهي الناس عن عبادة ربهم وطاعته ..  صحيح ..ومن قال ليس صحيحا .. وإلا ما هو عمله غير ذلك ؟ هل تريد من إبليس أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر !؟

أبو همام: لا..لا.. ما هذا قصدي  أقصد أن يكون الحج خاتمة الأعمال يحافظ بعده الإنسان على الطاعة والعبادة وعمل الصالحات

أبو ابراهيم : ولكن   أليس مطلوب من العبد من أول عمره إلى آخر عمره أن يحافظ على الطاعات والعبادات, وأن يعمل الصالحات ,لأنها هي التي تبقى  ويفنى كل شيء غيرها .   ألا يزال إبليس يتلاعب بك يا أبا همام !؟ إصح يا نايم .. إصح يا ضايع ..  إصح يا تايه .. إصح  !!!  من يضمن لنا العيش إلى الغد ؟ اسمع يروى أن أحد الصالحين, رأى صاحبه عائدا من السوق وهو يحمل كمية وافرة من الخضروات والفواكه ,  فسأله : ما هذا يا أخي ؟  قال له : خضروات وفواكه زهيدة الثمن,  فاغتنمتها, وأرجو أن تكفيني مع عيالي عدة أيام, فوجم الرجل وتجهم في وجه صاحبه وقال له: لا كلمتك منذ اللحظة .  قال له صاحبه : لم يا أخي  ماذا فعلت, وبماذا أخطأت ؟ قال له : إنك رجل طويل الأمل.. طويييل الأمل   تأمل أن تعيش عدة أيام .!!  هلاّ تزودت ليوم ليس فيه بيع ولا شراء ؟ والله إني أضع رأسي على الوسادة لأنام وأنا أخاف أن أرفعه في القبر !!وأنت تشتري طعاما لعدة أيام

أبو همام:والله إنه لكلام أسمعه لأول مرة في حياتي . شيء عجيب ! 

أبو ابراهيم : لا عجيب ولا ما يحزنون   أنا الآن عمري (49)سنه فهل بقي لي من العمر ما يمكنني من الذهاب لأداء فريضة الحج ؟   لا أدري .. كم سنعيش يا أبا همام   بل متى سنموت ؟

أبو همام : لا أدري .. لا أدري  اليوم نحن معا  ولا نعلم غدا من يترك صاحبه إلى غير رجعة

أبو ابراهيم : ها..ها.. هذا هو الكلام الصح  لا يدري أحد ماذا يحلّ به بعد ساعة وليس بعد يوم ..ولكني يا أبا همام أقول لك جازما أني سأعيش عمري كاملا غير منقوص أبدا  وكذلك أضمن لك أن تعيش انت عمرك كله كاملا غير منقوص

أبو همام : الله أكبر .. الله أكبر  وكيف ذلك !!؟ هل تستطيع   هل بإمكانك ؟؟

أبو ابراهيم : نعم .. إذا قلت لي كم هو عمرك؟  كم هو بقاؤك في هذه الحياة ؟

ابو همام :  آه.. آآآه ... فهمت عليك   لا أحد يعرف كم سيعيش  ومتى سيموت

أبو ابراهيم : الآن أستطيع أن أقول أنك يا أبا همام قد صحوت .. وعقلت 

أسمع يا أخي , أحد الحكماء كان يقول دائما  : (تب  قبل موتك بيوم واحد  ) هكذا .. قبل أن تموت بيوم واحد  تب لله تعالى  !! فكان الناس يستغربون كلامه , فيستدرك ويقول : ( فإذا كنت لا تدري متى تموت فكن عمرك كله تائبا )

أبو همام ( بحماس ) : صح .. والله صح  الإنسان لا يدري متى يموت , وكم سيعيش , لذا عليه أن يكون دائما في توبة وفي طاعة وعمل صالح حتى إذا جاءته منيته يكون حاملا شيئا من الزاد لسفره الطويل

أبو ابراهيم : أحسنت .. أحسنت يا أبا همام  ,  وأعيد عليك قول الحكيم :

( تب قبل موتك بيوم واحد ... وإذا كنت لاتدري متى تموت فكن طول العمر تائبا )

تسدل الستارة   انتهى المشهد الأول

المشهد الثاني :

بيت أبو ابراهيم مثل خلية النحل , فهو إنسان محبوب من كل معارفه وجيرانه , وكل قد جاء لوداعه في رحلته إلى الديار المقدسة للحج

أبو ابراهيم : شكر الله سعيكم أيها الأحبة وإن شاء الله سأدعو لكم عند الكعبة جميعا

أبو همام : ترافقك السلامة يا أبا ابراهيم ومصحوبا بالعناية الإلهية  وإن شاء الله تعود إلينا أحسن ما تكون طاعة وعبادة وأنت ترفل بأثواب الصحة والعافية

أبو خالد: يقولون يا أبا ابراهيم أنه يوجد هناك بضاعة جيدة ورخيصة وأريد أن تحضر لي معك حراما (بطانية ) من هناك , وكم ثمنها , أحاسبك به عند عودتك لنا بالسلامة إن شاء الله

أبو ابراهيم : اللهم يسر ولا تعسر, إن شاء الله

أبو فؤاد: وأنا اريد منك أن تحضر لي ساعة يد على( ذوقك ) وثمنها قبل استلامها

أبو طير ( رجل فقير وحيد في الحي ومبارك ): وأنا أذكّرك  لا تنساني من الهدية

الجميع : يضحكون

أبو زايد: وما هي الهدية التي تريد ياأبا طير ؟

ابو طير : هذا سرّ بيني وبين أبو ابراهيم  ولا حاجة للإفصاح عنه الآن

عجوز اقتحمت المجلس ونادت على أبي ابراهيم وقالت :

العجوز : إن حفيدي رأى السنة الماضية (زمارة ) مع ابن الجيران فأراد مثلها فلما سألناه من أين حصل عليها قال : أحضرها له ابوه من الحج , وهذه عشرة ليرات يا أبا ابراهيم أرجوك أن تشتري له ( زمارة ) حفظك الله في الذهاب والعودة

أبو ابراهيم : ( وقد تهلل وجهه ) أبشري يا خالة لقد زمّر ولدك بإذن الله

لقد ازدحمت الطلبات على أبي ابراهيم وهو يهزّ رأسه ويضحك , ثم بدأ الزوار بالمغادرة فرادى وجماعات حتى خلت الدار من الزوار ولم يبق إلا أبو أحمد الجار المجاور لأبي ابراهيم

أبو أحمد : عجبا لهذه العجوز  ألم تر  كيف اقتحمت مجلس الرجال وتكلمت بصوت مسموع مفهوم  وطلبت زمارة لحفيدها  ودفعت ثمنها أيضا !!

أبو ابراهيم : إنها امرأة عاقلة وحكيمة وأنا أعرفها وأظنها فعلت ذلك قاصدة عامدة 

أبو أحمد : قاصدة  عامدة  ولماذا ؟

أبو ابراهيم : لتفهم الحاضرين الذين يطلبون مني شراء حاجات لهم من بلاد الحرمين الشريفين أن يدفع كل منهم ثمن ما طلب مقدما وإلا من أين يشتري الحاج لكل هؤلاء الناس بل كيف يتمكن وهو ذاهب للحج وليس للتجارة

ها .. هااااه .. لهذا السبب قدّمت الثمن قبل الطلب   إي والله إنها حكيمة وعاقلة ومحقة أيضا  وصحيح كما قلت : لقد زمّر ابنها ... زمّر  توت.. توت .. بيب.. بيب.....

النهاية.