أنفقوا مما تحبون

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

(1)

( صفية و هي تقوم بتزيين رميثة وتهيئتها)

صفية : وبعد يا رميثة ؟ أتريدين أن تقطعي قلبي ؟

رميثة: معاذ الله يا سيدتي . ماذا تريدين مني أن أفعل؟

صفية: لا تفعلي شيئًا. لا تتحركي يمنة و يسرة ابق ساكنة.

رميثة: لقد بقيت ساكنة حتى وجعت عنقي.

صفية: وأنا كلت يداي في تزيينك وتمشيطك.

رميثة: لا أدري والله ماذا يحملك على ذالك.

صفية: ستعرفين كل شيء فيما بعد.

رميثة: تذكري يا سيدتي انك كنت تنهينني عن التزين و التعطر!!

صفية: نعم.

رميثة: حتى لا يلتفت مولاي الشيخ إلى محاسني فيتسراني

صفية: هذا حق.

رميثة: وكنت تحسنين لي أن أطمع في زوج يكون من طبقتي و سني؟

صفية: نعم..كنت أطمع في نافع أن يتزوجك.

رميثة: فما الذي غيَّرك اليوم يا سيدتي علي؟

صفية: كلا يا رميثة أنا لم أتغير عليك. أنا باقية كما كنت لك.

رميثة: إنك تعملين على لفت عين الشيخ إلي .

صفية: نعم، ولكن العاقبة ستكون غير ما تتوقعين.

رميثة: كيف؟

صفية: سيعتقك عبدالله بن عمر.

رميثة: يعتقني ثم يتزوجني؟

صفية: كلا ما كنت لأسعى إلى ذلك يا غبية.

رميثة: ماذا يحمله على عتقي إذن؟

صفية: إذا أحبك ومال قلبه إليك فسيجد في عتقك حينئذ أفضل مايتقرب به إلى الله لنفاستك عنده وتعلقه بك.

رميثة: أواثقة أنت يا سيدتي من ذلك؟

صفية: كثقتي من نفسي.

رميثة: ما أكرم نفسك ياسيدتي و أطيب قلبك.

صفية: كلا لا تبالغي في الثناء فإني لا أفعله من أجلك وحدك.

رميثة: من أجل من أيضا ؟

صفية: من أجل نفسي إذ أبعدك عن زوجي.

رميثة: والله إني لأعجب من هؤلاء الرجال. كيف تكون لأحدهم زوجة جميلة مكملة مثلك فيمد عينه إلى إمراة أخرى.

صفية: هكذا هم منذ كانوا يارميثة.

رميثة: فلا كانوا يا مولاتي ولا كان ما يصنعون

صفية: صه لا تسبيهم فإنا لا نصلح بغيرهم.

رميثة: وهم أيضا يامولاتي لايصلحون بغيرنا .

صفية: إنهم بعد ليسوا سواء يا رميثة وأشهد أن مولاك عبدالله بن عمر لمن أبر الأزواج وأكرم البعول..

رميثة: وأنا أشهد أن مولاتي صفية بنت أبي عبيد لمن أجمل نساء المدينة وأكملهن  و أكرمهن و أعقلهن.

صفية: حسبك حسبك يا مداجية.

رميثة: لا والله ولو كنت تهتمين بالزينة والتطرية كغيرك لكنت أحلى الجميع وأجمل الجميع.

( 2)

ابن عمر: خبريني يا بنت أبي عبيد ما هذا الذي صنعت بجاريتك. ما كل هذه          الزينة والتطرية؟

صفية: خبرني أنت أولاً يا أبا عبدالرحمن. أحامد أنت فعلي أم عاتب علي ؟

ابن عمر: بل عاتب.

صفية : العتب الجميل ؟

ابن عمر : بل العتب الشديد .

صفية : فيم يا ابن عمر ؟ جارية تحبنا ونحبها ماذا علي إذا أصلحتها وهيأتها ؟

ابن عمر : ولا كل هذا يا بنت أبي عبيد ، فقد تركتها كأنها عروس مجلوة .

صفية : إنها ملك يمينك يا أبا عبدالرحمن فأردت بها أن تعجبك .

ابن عمر : ويحك ماذا تقولين ؟ إني لأعلم فيك الغيرة يا صفية.

صفية : ذلك أجزل لمثوبتي يا عبدالله بن عمر عسى أن يكتبني ربي فيمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

ابن عمر : ويحك إنك تعلمين أني عن ذلك لفي شغل.

صفية : ما أحسبك يا ابن عمر ترغب عن ثواب يسوقه الله إليك.

ابن عمر : أي ثواب تعنين؟

صفية : ثوابها لو تسريتها فصارت لك أم ولد. أليس عتق الرقاب من أفضل القربات إلى الله عزوجل؟

ابن عمر : بلى والله لقد صدقت.

صفية : ثواب لك يا ابن عمر وثواب لي . أي شيء أفضل من هذا؟

ابن عمر : أما والله إنك لفقيهة.

صفية : لا غرو يا عبد الله بن عمر أن أقتبس شيئاً من علمك وفقهك.

( 3 )

صفية : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تمنحني سويعة من وقتك ؟

ابن عمر : حباً و كرامة  يا صفية . ماذا عندك ؟

صفية :  أريد أن أكلمك في أمر نافع مولاك .

ابن عمر : ما باله ؟

صفية : أراك تغيرت عليه شيئاً ما هذه الأيام .

ابن عمر : ويله هل أشتكى إليك مني ؟

صفية : لا والله ما نبس لي بكلمة ولكني أحسست أن بينكما شيئاً . لست كعادتك معه وليس كعادته معك.

ابن عمر: ما أشد فطنتك يا بنت أبي عبيد. والله إني لأحب نافعاً كما أحب ولدي من صلبي و هو يعلم ذالك مني.

صفية : ثم تعامله هذه المعاملة ؟

ابن عمر: أنا والله ما أسأت اليه يا صفية.

صفية : فما الذي جرى بينكما ؟

ابن عمر: اسأليه هو

صفية : أسأله وأنت عندي يا أبا عبد الرحمن؟ أنت أولى بأن أسألك 

ابن عمر: بصرت به ذات يوم يرائيني في المسجد

صفية : يرائيك؟

ابن عمر: صار يقف قريباً مني في كل صلاة مكتوبة حتى إذا فرغ وقف أمامي يتنفل.

صفية : سبحان الله و أي بأس في ذلك؟

ابن عمر: كما يفعل المراؤون يا صفية

صفية : سبحان الله. ألا يحق له أن يصلي قريبًا منك ؟

ابن عمر: ما كان يفعل ذلك من قبل.

صفية : فهل سألته لتعرف ما عنده؟

ابن عمر: نعم.

صفية : ماذا قال؟

ابن عمر: قال لي قولة منكرة فجعتني فيه.

صفية : ماذا قال؟

ابن عمر: قال لي أنه فعل ذلك أسوة بموالي الآخرين الذين أعتقتهم.

صفية : مسكين ظل زمنًا يطمع أن تعتقه فلم تفعل فصنع ما صنع.

ابن عمر: وأنا والله لن أستجيب له بهذه الطريقة أبداً.

صفية : سبحان الله وماذا يمنعك ؟

ابن عمر: لا والله لا أجعل رياءه هذا وسيلة إلى خير أبدًا.

صفية : فكيف أعتقت مواليك الآخرين لما أظهروا لك النسك وأنت تعلم أنهم ليسوا خيرًا منه؟

ابن عمر: إنه ليس مثلهم يا صفية.

صفية : أليس خيرًا منهم و أفضل ؟

ابن عمر: بلى خيرًا منهم ألف مرة.

صفية : ألست كنت تقول: من خدعنا بالله انخدعنا له ؟

ابن عمر: بلى يا صفية.

صفية : فما عدا مما بدا.

ابن عمر: إن نافعًا ليس مثل أولئك يا صفية، إنه حقًا صالح صالح. إني لأزهى به وأحرص على صحبته.

صفية : فهلا كنت اعتقته من قبل ؟ إذن لما اضطر إلى ارتكاب هذا الفعل الذي أغضبك.

ابن عمر: ويحك يا صفية إنك لتعلمين أني لا أستطيع أن أعتقه

صفية : خشية ان يرحل عنك و يتركك ؟

ابن عمر: أجل وأنا لا أطيق فراقه ولا الصبر عنه.

صفية : ألا ترى يا عبدالله بن عمر أنك بفعلك هذا تؤثر حظ نفسك فيه على ثواب الله و فضله ؟ وليس هذا بدينك.

ابن عمر: كلا يا بنت أبي عبيد. إن حظ نفسي في هذا المولى الصالح لهو ذاته حظ الله فيه فهو نعم العون لي على طاعته عز وجل، وهذا يعزيني عما يفوتني من ثواب الله في عتقه.

( 4 )

( يقرع الباب)

صفية : صه هذا بابنا يقرع.

ابن جعفر: (صوته من الخارج) يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر.

ابن عمر: هذا صوت عبد الرحمن بن جعفر. انسحبي أنت.

( يفتح ابن عمر الباب )

ابن جعفر: السلام عليك يابن عمر.

ابن عمر: وعليك السلام ورحمة الله. هذا نافع معك يا ابن جعفر.

ابن جعفر: أجل.

ابن عمر: أنت الذي جئت به أم هو الذي جاء بك؟

ابن جعفر: بل أنا الذي جئت به. التقطته من المسجد فأحضرته معي

ابن عمر: مرحبًا بك يا ابن عم رسول الله، اجلس.

ابن جعفر: ما هذا وقت جلوس يا ابن عمر إنما جئت من أجل مولاك نافع عسى أن تكرمني في بيتك فتقبل بيعه لي

ابن عمر: يا إبن عم رسول الله قد قلت لك غير مرة إني لو كنت بائعه لأحد لبعته لك.

ابن جعفر: لا أريد أن أساومك فيه يابن عمر فخذ فيه عشرة آلاف دينار مباركاً لك فيها.

ابن عمر: يا ابن عم رسول الله إنه بمنزلة ابني ولا أستطيع أن أبيعه أبداً لأحد.

ابن جعفر: إن كنت تحبه وتعزه يا ابن عمر فاعلم أني لا أبتغي من ورائه ربحاً ولا منفعة، وإنما ألتمس رضوان الله في إكرامه و الإحسان إليه.

ابن عمر: يا بن عم رسول الله هل لك أن تخبرني كيف تكرمه وتحسن إليه إذا ما اشتريته ؟

ابن جعفر: لأعتقه لوجه الله يا ابن عمر.

ابن عمر: إذن فأنت أولى مني بمالك يا ابن جعفر وأنا أولى منك بأن أعتقه. أشهد بأني قد أعتقت نافعاً فهو حر لوجه الله.

ابن جعفر: هذا والله ما كنت أبغي، فالحمد الله رب العالمين. ائذن لي الآن يا أخي.

ابن عمر: مصاحبا يابن عم رسول الله. شكر الله سعيك.

(يخرج ابن جعفر)

نافع: شكرًا لك يا أبا عبد الرحمن. ما أبرك و أكرمك.

ابن عمر: لله وحده الشكر يا نافع.

نافع: الشكر لله عز و جل. والفضل لك يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: (في صوت يخالط البكاء ) بل الفضل لابن عم رسول الله يا نافع.

نافع: ويحك يا سيدي إنك تبكي.

ابن عمر: إنما هي عبرة غلبتني يا نافع.

نافع: لعلك تخشى يا سيدي أن أرحل عنك وأتركك؟

ابن عمر: إي والله يا نافع.

نافع: فاطمئن يا سيدي فو الله لا أعيش بعيداً عنك أبداً.

ابن عمر: أنت باق عندنا يا نافع؟

نافع: إلى أن يفرق بيننا الموت.

صفية: ( صوتها من الداخل ) هل لنا أن ندخل الآن يا أبا عبد الرحمن ؟

ابن عمر: ادخلي يا صفية.

صفية: الحمد لله الذي وفقك للخير يا ابن عمر.

ابن عمر: أين رميثة؟ ادعيها.

صفية: رميثة رميثة !

رميثه: )صوتها) لبيك يا مولاتي (تدخل)

ابن عمر: اسمعي يا رميثة قد أعتقتك فأنت حرة لوجه الله.

صفية: الحمد لله الذي وفقك للخير بعد الخير يا أبا عبد الرحمن. ألا تتم نعمتك على نافع و رميثة؟

ابن عمر: تعنين الزواج؟

صفية: نعم تعينهما على ذلك.

ابن عمر: صدقت يا صفية و بررت. تزوجها يا نافع و علي أنا المهر.

صفية: وعلي أنا الشوار*.

نافع: بوركتما من موليين كريمين.

(ستار)

*الشُّوار: متاع البيت.