نذبح البقرة أم نعبدها!

نذبح البقرة أم نعبدها! *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

مسرحية في فصل واحد

-1-

في قصر زعيم الرابطة الإسلامية محمد علي جناح بمدينة دهلي الجديدة –يتحدث صاحب القصر إلى زائره الزعيم الهندوسي الكبير البنديت جواهر لآل نهرو.

جناح: هل تعتقد يا سيدي نهرو أنني أكرهك؟ قل الحق ولا تتحرج.

نهرو: لا، لا أعتقد ذلك بالطبع، ولكنك تكره السياسة التي نسير عليها وهي عندي أهم من شخصي. فلو أنك تكرهني وتؤيد سياستي لكان ذلك أحب إلي،فلا قيمة لشخصي بالقياس إلى مصلحة الهند.

جناح: وهل تعتقد يا سيدي نهرو أنني لا أحب مصلحة الهند؟

نهرو: لا أعتقد أنه يوجد هندي واحد يكره مصلحة بلاده.

جناح: حتى محمد علي جناح؟

نهرو: (يضحك) حتى محمد علي جناح. ولعلك أيضاً لا تشك في إخلاصي لقضية الهند؟

جناح: هذا ما جعلني ألجأ إليك المرة بعد المرة لأتفاهم معك على الوسيلة التي يمكن بها التخلص التام من النفوذ البريطاني.

نهرو: لا أحسبك يا سيدي جناح تظن أنني لا أسعى لزوال هذا النفوذ البغيض.

جناح: ولكن الخطة التي تجري عليها ستؤدي إلى بقاء هذا النفوذ.

نهرو: إني أعتقد أيضاً أن هذه الخطة التي تسير عليها هي التي ستؤدي إلى بقائه.

جناح: أليس عجيباً إذن –مادام هدفنا واحداً- أن لا نتفاهم على الخطة المثلى.

نهرو: لا أدري ما يمنعنا من ذلك.

جناح: أيمكن التفاهم بدون الصراحة التامة في علاج المشكلة؟

نهرو: لا ريب أن الصراحة التامة ضرورية في علاج المشكلات.

جناح: فصارحني برأيك في سياستي وسأصارحك برأيي في سياستك؟.

نهرو: حسناً. إن سياستك في رأيي هي العقبة الكؤود التي تقوم في طريق استقلال الهند.. مع اعترافي طبعاً بإخلاصك يا سيدي جناح.

جناح: أشكرك يا سيدي نهرو على لطفك، فهل لك أن تقول لي ماذا تعني باستقلال الهند؟

نهرو: هذه كلمة واضحة الدلالة ولا تحتاج إلى شرح.

جناح: لو كانت كذلك لما اختلفنا نحن في السبيل الذي يؤدي إليها.

نهرو: فاشرح معناها إذن، فإني لا أرى مجالاً للاختلاف في فهم معنى هذه الكلمة الواضحة.

جناح: إن استقلال الهند في رأيكم هو إعلان الهند أمة مستقلة ذات سيادة.

نهرو: أو ليس هذا هو معناه عندك؟

جناح: لا.. هذا في رأينا لا يكفي فاستقلال الهند عندنا يعني أن نقطع السبيل على النفوذ الأجنبي أن يتسلل مرة أخرى إلى بلادنا بعد.

نهرو: وماذا علينا لو أعلنا استقلالها أولاً، ثم عملنا على حفظ هذا الاستقلال من تسرب النفوذ الأجنبي إليه؟

جناح: كيف نضمن ذلك ما بقي النزاع الطائفي بين الهندوس والمسلمين؟ إن التدخل الأجنبي سيأتي من هذا الباب.

نهرو: هذا ما نعمل على إزالته إذ نؤمن بأن الهند أمة واحة، وإنما أنتم الذين تدعون إلى التفرقة بين فريقيها الكبيرين وتقرون الخلاف الطائفي بينهما، وبذلك تدعون الباب مفتوحاً للتدخل الأجنبي.

جناح: يؤسفني أن أقول لك إن العكس هو الصحيح، فنحن نسعى لإقامة حاجز بين الفريقين يحول دون وقوع هذا الصدام الطائفي المستمر، ويحل محله التعاون بينهما على ما يحقق أمانيهما السياسية ومصالحهما الاقتصادية ولأن نعيش أسرتين متعاونتين خير من أن نعيش أسرة واحدة متعادية.

نهرو: ولكننا نؤمن بوحدة الهند وحتى المستعمر نفسه لا يجرؤ على إنكار هذه الحقيقة، فكيف تطلبون منا نحن أبناء الهند أن ننكرها؟

جناح: ليس من مصلحة المستعمر أن يعترف كلا الفريقين بحق الآخر في أن يعيش على الوجه الذي تقتضيه تعاليمه الدينية وتقاليده الاجتماعية فينقطع الخلاف بينهما ويقع التعاون بينهما على صون مصالحهما المشتركة.

نهرو: أليس خيراً من هذا أن نقضي على هذا العداء الطائفي ونحن في دار واحدة دون تقسيمها إلى دارين؟

جناح: هذا خير لا شك لو أمكن.

نهرو: لا أعتقد أن هذا مستحيل إذا عملنا مخلصين على تحقيقه.

جناح: إن الواقع يقضي باستحالة هذا المطلب البعيد، وليس لنا ونحن نقرر مصير الهند أن نتجاهل الواقع.

نهرو: قل لي يا سيد جناح أليس في استطاعتك أن تعيش معي بدار واحدة في تعاون وسلام وأنت على إسلامك وأنا على هندوسيتي؟

جناح: بلى يا سيد نهرو.

نهرز: فلماذا لا يكون أتباعنا مثلنا؟

جناح: لأنهم ليسوا مثلي ومثلك.. إنك لا تحقد علي إذا رأيتني أذبح بقرة وآكل لحمها، ولا أحقد عليك إذا رأيتك تعبدها وتقدسها وتمسح وجهك...

نهرو (يقاطعه بلطف): فلماذا لا نعمل على نشر هذا التسامح بين الجميع؟

جناح: إن تقسيم الهند إلى دولتين مستقلتين هو السبيل لهذا التسامح بين الجميع.

نهرو: لا أرى ما يدعو إلى التقسيم ألا ترى معي أن مصدر هذا العداء هو التعصب الصادر عن الجهل.. فإذا استنارت عقول الأمة زال العداء.

جناح: لا تنس أن نسبة المتعلمين في بلادنا لا تزيد على سبعة في المائة، وأن معظم هؤلاء المتعلمين ما استطاعوا أن يعصموا أنفسهم من سيطرة التقاليد الطائفية على مشاعرهم، وذلك لأنهم يشهدون مناظر التناحر بين الفريقين تتكرر كل يوم أمام عيونهم فينسون ثقافتهم ويتعصبون مع المتعصبين. وهذا شيء طبيعي لا لوم عليهم فيه، وإنما اللوم على المستعمر الذي يسره أن تبقى الهند مسرحاً لهذا التناحر إلى الأبد وعلى حزب المؤتمر الذي يتجاهل الحقائق ويصر على خطته السياسية التي ستؤدي إلى بقاء الهند على هذا الوضع المحزن.

نهرو: هذا اتهام لحزب المؤتمر لو أقررتك عليه لزال بيننا وبينكم الخلاف من قديم. إن دولة الهند الموحدة التي نسعى لإقامتها ستجعل مهمتها الأولى القضاء على هذا التناحر الطائفي، وسيعينها استقلالها التام على تحقيق هذه الغاية، فقد اعترفت معنا أن هذا التناحر مما يسر المستعمر بقاؤه فهو يغذيه ويبقي عليه ليحتفظ بسيادته بيننا.

جناح: ما أظنك تستطيع أن تزعم أن بريطانيا هي التي قالت للهندوس (اعبدوا البقرة) وقالت للمسلمين: (اذبحوها) فأطاعها هؤلاء وهؤلاء.

نهرو: كلا. ليس فينا من يزعم ذلك بالطبع. ولكنها تعمل على تشجيع التناحر بين الفريقين، وتستغل هذا الخلاف لمصلحتها.

جناح: أجل، وستبقى لها فرصة استغلال هذا الخلاف ما لم تقم دولة الهندستان المستقلة، وإلى جانبها دولة الباكستان المستقلة.

نهرو: هذا الذي ترونه أنتم حلاً للمشكلة نراه نحن تعقيداً لها وتوسيعاً لشقة الخلاف بيننا، وسيعطي بريطانيا فرصة أوسع للتدخل بيننا وإبقاء نفوذها علينا. ولن يكون الخلاف حينئذ بين أفراد طائفتين في أمة واحدة ودولة واحدة كما هو الحال اليوم، بل سيكون حرباً بين دولتين كبيرتين.

جناح: لا أساس لهذه المخاوف البتة ما دمنا متفقين على أن مصدر التناحر الطائفي هو التعصب الأعمى المنتشر في العامة والجهال من كلا الفريقين، وما أظن الدولتين ستضعان شؤونهما الإدارية والتشريعية في أيدي العامة والجهال.

نهرو: ومن قال لك إن دولة الهند الموحدة ستوكل شؤونها الإدارية والتشريعية إلى الجهال والعامة.

جناح: لم يخطر هذا ببالي قط، ولكن الحكومة التي ستدير تلك الدولة لن تستطيع أن تقضي على هذا التناحر ما دامت أسبابه موجودة، وما دام الاحتكاك بين الفريقين مستمراً.

نهرو: ستقضي حكومتنا على تلك الأسباب فيزول التناحر بزوالها.

جناح: قد يسوغ لك أن تقول هذا القول لسويسري أو لعربي لا يعرف المشكلة الهندية على حقيقتها، أما أن تقوله لهندي مثلي فهذا لا يجوز لو كان الخلاف بين المسلمين والهندوس قاصراً على العقيدة الدينية والتقاليد الاجتماعية الخاصة لهان الأمر، ولكننا مختلفون في كل شأن من شؤون حياتنا المدنية العامة مما يستحيل معه تفادي الصدام ما دمنا نعيش في دولة واحدة، ولماذا الإصرار على دولة واحدة وتجاهل المشكلات والمتاعب التي ستنجم عنها؟ إننا لا نشكو من قلة في العدد ولا من ضيق في مساحة الأرض، فالهند أعظم مساحة من قارة أوربا، وأهلها يزيد عددهم على أربعمائة مليون، فهل من الحكمة أن نضحي بدماء الهند العزيزة من كلا الفريقين ونضع العواثير في سبيل استقلالها التام والقيام بمشروعاتها الإنشائية من أجل تمسكنا بدولة الهند الموحدة؟

نهرو: أستطيع أن أقول من جانبي أيضاً: لماذا الإصرار على تقسيم الهند إلى دولتين فتفرق جهودهما الإنشائية وتقل بذلك قوة الهند العامة ونحن في عصر نرى الدول الصغيرة تتكتل فيه وتتوحد في مجموعات كبيرة؟

جناح: لقد قلت مراراً أن دولتينا ستتعاونان بحكم الجوار والقرابة والمصالح المشتركة، وبذلك تتوحد قوانا وتتضاعف دون أن تبددها عواصف النزاع الطائفي.

نهرو: وماذا يضمن لنا أنهما تتعاونان ولا تتعاديان؟

جناح: إن الظروف ستدفعهما حتماً إلى التعاون بعد أن تنقطع بينهما أسباب التناحر والتشاجر ويأمن كل فريق على ما يحب الحياة من أجله.

نهرو: ولكن أغلبية سكان الهند لا يرضون بتقسيم الهند ويريدونها دولة موحدة، فهل من العدل أن تنزل الأغلبية على رأي الأقلية؟

جناح: ليس هذا رأي الأغلبية وإنما هو رأي حزب المؤتمر.

نهرو: إن حزب المؤتمر هو حزب الأغلبية.

جناح: هو حزب الأكثرية لا الأغلبية.

نهرو: ما الفرق بينهما؟

جناح: الفرق بينهما أن حزب المؤتمر يمثل وجهة النظر الطائفية للأكثرية في الهند وهم الهندوس فهو حزب الأكثرية، وليس حزب الأغلبية لأنه لا يمثل الأغلبية في وجهة النظر القومية التي تعتبر المصلحة العامة لجميع الطوائف فوق المصلحة الخاصة للطائفة الأكثر عدداً.

نهرو: وحزب الرابطة الإسلامية أهو حزب قومي أم حزب طائفي؟

جناح: هو حزب قومي وطائفي معاً.

نهرو: فحزب المؤتمر أيضاً قومي وطائفي معاً، أتستطيع أن تنكر هذا؟

جناح: هذا حق ولا حق لي أن أنكره ولكنني أقرر –ولا تستطيع أن تنكر ما أقرر- أن حزب المؤتمر إنما يمثل الأكثرية بوجهه الطائفي، ولا يمثل الأغلبية بوجهه القومي.

نهرو: هب هذا صحيحاً، أفليس في كونه حزب الأكثرية ما يكفي لترجيح سياسته على سياسة حزب الرابطة الإسلامية؟

جناح: لا يا سيد نهرو، فحزب الرابطة الإسلامية يماثل حزب المؤتمر من هذا الوجه الطائفي لأنه يمثل رأي المسلمين جميعاً ما عدا فئة قليلة لا تذكر.

نهرو: فلنترك الوجه الطائفي جانباً ونبحث الوجه القومي وحده، أليس المصلحة القومية تقضي بحفظ وحدة الأمة ووحدة الدولة؟

جناح: قد قلت لك أن هذه الوحدة غير ممكنة، وإنما تؤدي إلى تفاقم النزاع الطائفي، وبالتالي إلى التدخل الأجنبي، أما المصلحة القومية الحقيقية فتقضي بإقامة دولتين مستقلتين متعاونتين؟

نهرو: كأنك تعدني طائفياً حين أدعو إلى وحدة الهند؟

جناح: نعم، أعدك كذلك.

نهرو: أتتهمني بالتعصب للهندوس وإيثار مصلحتهم على المصلحة العامة لجميع الهند؟

جناح: لا أتهمك شخصياً بالتعصب يا سيد نهرو ولكني لا أستطيع أن أبرئ القوة التي تسير حزب المؤتمر من ذلك التعصب الذميم.

نهرو: كان مولانا أبو الكلام آزاد يتولى رئاسة الحزب، أفتتهمه بالتعصب للهندوس وهو مسلم؟

جناح: هذا رجل لا أستطيع أن أتهمه بشيء، لأنه في الواقع لا يمثل شيئاً، وأنت تعرف ذلك بنفسك.

نهرو: والسيد أشاريا كايبا لأني الرئيس الحالي لا يخالف لي رأياً، ففي وسعك أن تعتبرني رئيس الحزب وقد برأتني من التعصب فأنى يسيطر التعصب على حزب المؤتمر؟

جناح: إنك إنما تمثل الجانب المدني لزعامة حزب المؤتمر، ولكن القوة الدافعة التي تسير الحزب هي النعرة الطائفية الحادة، وهي تعمل عملها الثابت من ورائك ووراء أي شخص غيرك يتولى رئاسة الحزب.

نهرو: كأنك تعني المهاتما غاندي؟

جناح: وهل أعني غيره؟ إنه الرئيس الحقيقي لحزب المؤتمر.

نهرو: وماذا تنكر من المهاتما غاندي؟

جناح: عقيلته الرجعية، وحرصه على أن يبقى قومه راسفين إلى الأبد في قيود التقاليد العتيقة التي لا تساير موكب الحياة الحاضرة.

نهرو: ليس من حقك أن تنقم منه مذهبه في الحياة الذي استمده من الفلسفة الهندوسية.

جناح: لو احتفظ بمذهبه هذا لنفسه لما لامه أحد، ولكنه يستغل سلطته الروحية على قومه في تثبيت جذور التعصب الطائفي في قلوبهم فيكتوي بناره جميع سكان الهند، ولعلك ترى فيه عين ما أرى، بيد أنك لا تستطيع أن تجهر به.

نهرو: وماذا تطلب من المهاتما أن يصنع؟

جناح: في وسعه أن يصنع الشيء الكثير لما له من السلطة الروحية على الهندوس، وفي وسعه مثلاً أن يحررهم من أسر هذه التقاليد الرجعية التي تعطل قسماً كبيراً من ثروة البلاد في تلك السوائم من البقر المقدس التي تعطل المرور في الطرقات وتسبب كثيراً من حوادث النزاع الطائفي، وفي وسعه أن يعتق هذه الخمسة والخمسين مليون منبوذ من منبوذي الهند المحرومين من حقوق الإنسان.

نهرو: (يبتسم) وماذا يهمك أمر هؤلاء وأنت لا تعترف بوحدة الأمة الهندية؟

جناح: يهمني أمرهم لأنني هندي وهم من الهنود.

نهرو: ها أنتذا تعترف بوحدة الأمة الهندية من حيث لا تشعر.

جناح: بل أشعر أن الهند تجمعنا ولكني لا أتجاهل الحقائق الواقعة التي تقضي علينا بإنشاء دولتين مستقلتين في الهند كضرورة سياسية لا يرجى لنا سلام ولا تعاون ومن ثم لا يصان لنا استقلال بدونها، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء.

نهرو: وماذا كان يكون موقفك لو أن غاندي قام بهذه الإصلاحات؟

جناح: لو قام بها فربما أمكن في المستقبل أن تقوم الدولة الموحدة التي تصبو إليها.

نهرو: لقد طال الجدال دون أن ننتهي إلى حل نتفق عليه، إنك ترى أن مشروع الدولتين يدعم استقلال الهند وأن مشروع الدولة الواحدة يعرضها دائماً للتدخل الأجنبي، وأنا أرى نقيض هذا الرأي تماماً فليت شعري إلى من نحتكم، أما من سبيل إلى من يفصل بيننا.

جناح: إذا لم تستطع أن ترى مصلحتنا ومصلحة بلادنا فمن ذا يستطيع أن يراها لنا؟

نهرو: ما رأيك لو احتكمنا إلى الحاكم البريطاني نفسه؟

جناح: ماذا تعني؟

نهرو: إننا على اختلافنا الشديد متفقان على نقطة واحدة هي أن مصلحة المستعمر الأجنبي تتعارض مع مصلحتنا.

جناح: هذا صحيح.

نهرو: فلنجعل الحاكم الأجنبي هو الحكم، فإذا وجدناه يميل إلى إحدى الخطتين كان علينا أن نتفق على ضدها.

جناح: وكيف السبيل إلى ذلك؟

نهرو: سنذيع بياناً عاماً بأننا اتفقنا أخيراً على خطة واحدة لإعلان استقلال الهند على أساسها ونطلب من نائب الملك أن يعين لنا موعداً، فإذا قابلناه أعلنا بتصميمنا على إعلان استقلال الهند على أساس الدولتين المستقلتين أو على أساس الدولة الواحدة لا فرق عندنا بين هذه الخطة أو تلك. ونرى ما يكون من جوابه، فما رأيك؟

جناح: هذا رأي سديد، وإني موافق عليه من الآن بدون تردد.

نهرو: وتتعهد بأنك تنزل على رأينا إذا وجدت الحاكم البريطاني يميل إلى رأيك؟

جناح: وإذا رأيته يميل إلى رأيك تنزل على رأينا؟

نهرو: نعم.

جناح: فليكن ما تريد.

- 2 -

في قصر نائب الملك بدلهي الجديدة.. (نائب الملك يستقبل الزعيمين بالترحيب والإكرام)

نائب الملك: يسرني جداً أن أراكما اتفقتما في النهاية على خطة واحدة في سبيل وطنكما المجيد، فعسى أن يكون فيما اتفقتما عليه ما يحقق للهند العزيزة رفاهيتها واستقلالها.

نهرو: نشكرك يا صاحب الفخامة على مجاملتك الرقيقة.

نائب الملك: ما أراني أستحق الشكر على هذا، فإني إنما عبرت عن الشعور الصادق لحكومة جلالة الملك التي يسرها كثيراً أن يتحد الهنود ويحلوا مشكلتهم بأنفسهم، حتى يساعدوها بذلك على تحقيق ما تصبو إليه من رؤية الهند دولة مستقلة عزيزة يحكمها أبناؤها المخلصون، ويسيرون بها قدماً إلى المجد والرفاهية، فيسهمون بذلك في إقرار السلام العالمي فعلام اتفقتما؟

نهرو: لعلك تعجب يا صاحب الفخامة لاتفاقنا هذا بعد طول الاختلاف.

جناح: أجل يا صاحب الفخامة لا غرو أن تعجب لهذا الاتفاق المفاجئ بيننا، فالواقع أننا نحن أنفسنا قد عجبنا لذلك. كيف اتفق لنا بهذه السهولة التي لا تكاد نتصورها.

نائب الملك: (يتنحنح) نعم، إن هذا لعجيب، وخاصة بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة بلندن ورجوعكما أشد ما تكونان اختلافاً، مما سرنا كثيراً.. (يتنحنح) لو أن هذا الاختلاف لم يكن، ولكن اتفاقكما لا يدهشني فقد كنت أتوقع دائماً أن يتفق زعماء الهند المخلصون يوماً ما على ما يحقق مصلحة بلادهم.

نهرو: تفضل صديقي السيد جناح فدعاني لزيارته في بيته، وهناك أخذنا نتناقش في وجوه مشكلتنا بروح المودة والإخلاص، فما قمنا من مجلسنا حتى اتفقنا على كل شيء.

جناح: لقد نجحنا في مجلس واحد وفي ساعة واحدة ما لم ينجح في سنين.

نائب الملك: لا يسعني إلا أن أهنئكما على هذا النجاح العظيم، فعلام اتفقتما؟ لقد شوقتماني إلى معرفة الاتفاق.

نهرو: لقد تبين لي وأنا أناقش السيد جناح أن ليس بيننا كبير اختلاف فكلانا يريد استقلال الهند، غير أن السيد جناح يقترح إنشاء الدولتين ليضع حداً للصدام الطائفي بين عامة المسلمين وعامة الهندوس على أن يكون بينهما تعاون وثيق في جميع المصالح المشتركة، حتى إذا استقرت الأمور وزال هذا العداء بين الفريقين على الأيام أمكننا أن نتجه بذلك التعاون نحو الوحدة التامة، وقد رأيت أن أوافقه على هذا الرأي رغبة في جمع الكلمة وتعجيل استقلال الهند ولهذا قررنا إعلان استقلال الهند وإنشاء الدولتين المستقلتين في يوم واحد دولة باكستان ودولة الهندستان، ثم تقوم كل واحدة منهما بتكوين جمعية تأسيسية لوضع دستورها، على أن تنشئ الدولتان بعد ذلك لجنة اتصال للنظر في تحديد العلائق الرابطة بينهما، وتنظيم المصالح المشتركة.

نائب الملك: لكن هل يوافق المهاتما غاندي على هذا المشروع؟

نهرو: إنني المسيطر على حزب المؤتمر ولا يخالف المهاتما ما يقرره الحزب.

نائب الملك: أستبعد أن يقبل غاندي تقسيم الهند وتقطيعها على هذا النحو.

نهرو: إني واثق أنه لن يعارض ولن يخرج على القرار الذي يجمع عليه الحزبان الكبيران في البلاد، وإلا بقي وحده وفقد ثقة الجميع.

نائب الملك: يبدو لي أنكما تسرعتما كثيراً ولم تدرسا المسألة من جميع وجوهها، وغاب عنكما تقدير المصاعب التي تنجم عن هذه الخطوة الجريئة.

نهرو: كلا بل قدرنا كل الاحتمالات التي تنشأ عن هذه الخطوة، ونحن واثقون بأن في اتحاد الفريقين وتضامنهما في هذه الحركة ما نتغلب به على كل المصاعب والعقبات.

نائب الملك: إني ما زلت على رأيي في المخاطر التي تكتنف هذا المشروع بالنسبة إلى مستقبل الهند.

جناح: يؤسفني أن أصارح فخامة نائب الملك بأننا جئنا لنبلغه قرارنا النهائي ليبلغه إلى حكومته، وما جئنا لنستشيره في هذا القرار.

نائب الملك: هذا المتوقع منك أن تقوله يا سيد جناح، لأن هذا الاتفاق إنما هو انتصار كبير لك على خصومك ولكن لا ينبغي لهذا الانتصار الكبير أن ينسيك التقدير الصحيح لهذا المشروع المحفوف بالمخاطر والمشكوك في نجاحه.

نهرو: إن هذا الاتفاق ليس انتصاراً للسيد جناح وحده بل هو انتصار لنا جميعاً، وإننا جميعاً متضامنون ومستعدون لتحمل المسؤولية.

نائب الملك: لكن لا تنسيا أن بريطانيا العظمى تتحمل المسؤولية أيضاً في كل قرار يراد به تغيير الحالة الراهنة في الهند، ولاسيما في قرار خطير كهذا يهدف إلى تمزيق وحدة الهند.

جناح: نحن نعلم جيداً أن هذا قرار خطير، فهو قرار استقلال الهند معجلاً غير مؤجل، وإذا كان محفوفاً بالخطر كما يزعم صاحب الفخامة فمن المؤكد أن هذا الخطر ليس على الهند بل على من لا يروق له أن تنال الهند استقلالها!

نائب الملك: لقد اعتادت بريطانيا أن لا تدفعها التهم التي تكال لها من خصومها إلى التخلي عما ترى نفسها مسؤولة عنه، وأن لا يثنيها شيء من ذلك عن القيام بواجباتها.

نهرو: قد اعترفت بريطانيا بحق الهنود في تقرير مصيرهم بأنفسهم، ولاشك أنهم يتحملون المسؤولية التي تنتج عن القرار الذي أصدروه.

نائب الملك: لو أنكرت هذا الحق لخالفت سياسة دولتي، وإنما أنكرت التسرع باتخاذ قرار خطير كهذا دون أن يكون عند حكومة جلالة الملك علم سابق به وفرصة كافية لبحثه حتى ترى رأيها فيه حرصاً على مستقبل هذه البلاد.

نهرو: قد أعطينا حكومة جلالة الملك الفرصة للعلم بهذا القرار قبل أن يحين ميعاد تنفيذه ولسنا بصدد استشارتها فيه حتى نعطيها الفرصة لبحثه.

نائب الملك: لا أستطيع أن أتحمل تبعة إبلاغه لحكومة صاحب الجلالة إلا إذا أعطيتماها الفرصة الكافية لبحثه.

نهرو: إن حكومة الهند المؤقتة التي أرأسها لن تقوى على البقاء في هذه الزعازع، وإن سقوطها الوشيك سيقترن بقيام ثورة عامة في جميع أنحاء البلاد ولا أستطيع أن أتحمل هذه التبعة، بل لا أريد أن يكتوي الهنود بنارها من أجل انتظار رأي حكومة أجنبية بصدد القرار الذي اتفقنا عليه وأجمعنا على أنه السبيل الوحيد لا لضمان استقلال الهند فحسب بل ولسلامتها من خطر الثورة العامة أيضاً.

نائب الملك: إن الخطر الذي يتهدد مستقبل الهند من جراء هذه الخطوة الجريئة أعظم كثيراً من خطر الثورة العامة التي تشير إليها، ولذلك فإني مصر على رأيي.

جناح: إن كان صاحب الفخامة يعني الخطر الذي يتهدد مستقبل بريطانيا في الهند فهذا صحيح.

نائب الملك: يحق لك يا سيد جناح أن تقول ما تشاء كما تشاء، ما دام مشروع الباكستان الذي ظللت تحلم به من عهد بعيد سيتحقق ولا بأس عليك من تقسيم الهند إلى دولتين أو إلى أكثر.

جناح: إنك مخطئ يا صاحب الفخامة إن ظننت أن اتفاقي مع البنديت نهرو يرجع إلى نزوله عن رأيه، فالحق أنني لا أرى ما يمنعني من قبول رأيه في الوحدة الهندية لإعلان قرار استقلال الهند على أساس الدولة الواحدة، في نفس الموعد الذي ضُرب لتنفيذ القرار.

نهرو: أجل إن اتفاقنا مع السيد جناح قد تم على اتخذا قرار التعجيل بإعلان استقلال الهند سواء على أساس الوحدة أو التقسيم، وقد اقتنعت أنا بأن التقسيم قد يكون خيراً من الوحدة في الوقت الراهن.

جناح: المهم لدينا هو أن نحقق الاستقلال المعجل للهند على أي وجه من الوجوه، وكما اقتنع البنديت نهرو بأن فكرة التقسيم لا تحول دون هدفنا فكذلك اقتنعت أنا بأن فكرة الوحدة لا تعوق هذا السبيل، بل قد تساعد على تعميده وتيسيره فلتبلغ القرار لحكومتك على أساس وحدة الهند، واسمح لي أن أذكرك أيضاً بأن هذا للإبلاغ فقط لا للاستشارة، فموعد التنفيذ سيبقى هو هو..

نائب الملك: إني لا أكاد أصدق ما أسمع الآن منك يا سيد جناح، أترضى حقاً أن تنزل نهائياً عن فكرة الباكستان؟

جناح: لم لا؟ لقد طالبت بالباكستان حين كنت أعتقد أنه السبيل الوحيد لضمان استقلال الهند، أما وقد اقتنعت أخيراً بأن فكرة الوحدة يمكن اتخاذها أيضاً كأساس لاستقلال الهند الذي هو أمل الهنود جميعاً فلا بأس عندي بالنزول عن فكرة الباكستان.

نائب الملك: أما إن كان القرار على هذا الأساس فمع علمي بالمصاعب التي تعترضه أيضاً فإني أستطيع أن أؤكد لكما أن حكومة جلالة الملك لن تعارض فيه، لأنها إنما يهمها في الدرجة الأولى أن تطمئن إلى بناء وحدة الهند التي بذلت الجهود العظيمة في تحقيقها، وإني لذلك أستطيع أن أبلغ هذا القرار إلى حكومة صاحب الجلالة.

نهرو: ولو بدون أنه تعطيها الفرصة لبحثه؟

نائب الملك: ولو بدون ذلك فكل ما يعنيها أمره أن تبقى وحدة الهند مصونة، غير أني أستحسن أن تعطوها الفرصة الكافية لدرس هذا القرار جرياً على الأصول المتبعة، وإني أؤكد لكما مرة أخرى أنها لن تعترض على هذا القرار في جوهره.

نهرو: كلا.. إننا لن نؤجل قرارنا لحظة واحدة، من أجل حكومة أجنبية، وإلا كان ذلك اعترافاً منا بسيطرتها علينا وخضوعنا لها.

نائب الملك: إنما هذا مجرد اقتراح مني ولا إلزام فيه.

نهرو: (يصيح بانفعال شديد) ولا هذا أيضاً!

نائب الملك: مالي أراك غاضباً يا سيد نهرو؟ لعل السيد جناح أن يكون أجدر منك بالغضب!

جناح: إن ظننت أنني غير غاضب لهذا الذي تسميه (جرياً على الأصول المتبعة) حيناً وتسميه (اقتراحاً) حيناً آخر فإنك مخطئ فكلانا في هذا الغضب سواء.

نائب الملك: إنني أعذرك إذا غضبت وتبرمت لعدم نجاح خطتك التي ترمي إلى تمزيق وحدة الهند، ولكني لا أرى ما يحمل البانديت نهرو على التبرم وقد نجحت خطته؟

جناح: ما أغضب البانديت نهرو إلا تشبثك برجوعنا إلى حكومتك حتى في قرار استقلال بلادنا عن حكومتك!

نائب الملك: فليطب نفساً إذن، فإني مستعد للنزول عن هذا الاقتراح.

نهرو: لا حق لم ألبتة في تقديم الاقتراح حتى تنزل عنه.. لقد بلغناك قراراً لتبلغه لحكومتك.. هذا كل ما عليك أن تقوم به.

نائب الملك: إنني ما ادَّعيت لي حقاً عليكم وإنما رأيت من واجبي أن أنبهكم إلى ما هو أدنى إلى مراعاة "الأصول المتبعة" وها أنذا أعدل عن ذلك كله نزولاً على مشيئتكم.

جناح: شكراً لك يا صاحب الفخامة على شعورك النبيل!

نائب الملك: ألا يشكرني البنديت نهرو أيضاً؟

نهرو: أنا والسيد جناح شيء واحد.

نائب الملك: يسرني كثيراً هذا الاتحاد!

         

* مجلة الإخوان المسلمون (المصرية) في 18 / 1 / 1947