مصرع مادلين هيثكليف

*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

فندق الملك داود بالقدس حيث تقيم مادلين هيثكليف مع خطيبها الضابط جون –يزورها معاون المندوب في غرفتها بالفندق.

المعاون: ماذا قررت يا مس مادلين في المسألة؟

مادلين: الحق أنه يعز علي أن أخون هؤلاء الشيوخ الكرام الذين أبقوا على حياتي وأطلقوا سراحي ونفحوني بهذا المال الواسع الذي أستمتع به الآن.

المعاون: ولكن الإمبراطورية في حاجة إلى خدمتك يا مس مادلين.

مادلين: كفى ما خدمتها من قبل. إنني أتهيأ للزواج بحبيبي جون، وسنقضي شهر عسلنا في سويسرا، فدعوني أعيش في سلام.

المعاون: لا بأس أن تؤجلي الزفاف قليلاً حتى تنتهي مهمتك في خدمة إمبراطوريتك.

مادلين: لو رضيت أنا ما رضي جون.

المعاون: نعم.. من ذا يدع هذه الفرصة الطيبة؟ ألا تعلمين أن ميراث شيخ العرب كله سيكون تحت أقدامك.

مادلين: ماذا يقول أتريد مني أن أترك حبيبي جون لأتزوج عبادة؟

المعاون: الشيخ عبادة من فضلك!

مادلين: أوه.. نسيت أنكم قد جعلتموه شيخاً!

المعاون: لن يتزوجك الشيخ عبادة بعد الذي كان منك. ولو رضيت أنت بذلك فاطمئني فستبقين لحبيبك جون. وقصارى الأمر أن الشيخ عبادة سيأخذ ميراث شيخ العرب باسم.

مادلين: أبعد ما انكشف أمري واعترفت أمام القضاء بكل شيء؟

المعاون: لن يلجأ الشيخ عبادة هذه المرة إلى القضاء، بل إلى القوة.

مادلين: أتظنون أن شيوخ العرب سيرضخون لهذه القوة ولا يقاومونها؟ إن قبائل العرب كلها ستؤيدهم.

المعاون: نحن أعرف منك بهذه الشؤون. فلقد أنشأنا له جيشاً لا مثيل له في هذه البلاد.

مادلين: إنني لا أعرف الشؤون العسكرية، ولكني لا أمن أن ينتقض هذا الجيش عليكم يوماً من الأيام.

المعاون (يضحك): إنك ظريف يا مس مادلين.. أين أنت من محنك باشا الذي خلق هذا الجيش خلقاً؟

مادلين: لا أستطيع أن أغامر بحياتي في سبيل كهذا وأنا على أعتاب الزواج السعيد.

المعاون: لا مغامرة حيث النجاح مضمون. ألم يزرك السفير الطوراني أمس؟

مادلين: بلى.. قد زارني.

المعاون: فماذا قال لك؟

مادلين: إنني ما فهمت كلامه إلا بصعوبة. وأظنه قد عرض علي أن تكافئني دولته بقصر كبير على ضفاف البسفور إذا أنا قبلت العرض. ولا شك عندي أنك أنت الذي أوحيت إليه بالزيارة كما أوحيت إلى المسيو صهيون أيضاً من قبل.

المعاون: المسيو صهيون.. هل جاءك المسيو صهيون؟

مادلين: أتتجاهل؟

المعاون: صدقيني إنني لا علم لي بمجيئه.. ماذا قال لك المسيو صهيون؟

مادلين: ناشدني بحق أمي اليهودية أن أقبل هذا العرض لأسدي خدمة جليلة لأخوالي على حد تعبيره، ووعدني بمكافأة كبيرة.

المعاون: لقد أحسن صنعاً إذا تقدم إليك بشفيع لا ينبغي أن يرد. وها أنذا بدوري أناشدك بحق أبيك إلا ما قبلت العرض لتسدي خدمة أجل وأعظم لإمبراطورية أعمامك!

مادلين: أنت الذي أوحيت إليهما بهذا الطلب لا ريب.

المعاون: أؤكد لك أني لم أوح إلى أحد منهما.

مادلين: فكيف أجمعتم أنتم الثلاثة على هذا الطلب؟

المعاون: نحن في الواقع أربعة قد جمعهم عامل المصلحة المشتركة؟

مادلين: من رابعهم؟

المعاون: الشيخ عبادة طبعاً.

مادلين: سبحان ربي! دائماً أنسى هذا الشخص.

المعاون: لا ينبغي لك أن تنسَيْه فهو محور هذا المشروع الذي سيجعلك السيدة الأولى في هذه البلاد!

مادلين: ألديه علم بما تعرضونه علي؟

المعاون: بالطبع.

مادلين: هل رضي بذلك؟

المعاون (ينظر إليها نظرة ذات معنى، لا تنسي يا مس مادلين أنك كنت يوماً ما حبيبته!

مادلين: كلا.. لا أريد..

المعاون: لا تخافي يا عزيزتي.. سيكون جون دائماً بجانبك!

-2-

 في قصر الكركدن حيث يقيم الشيخ عبادة –يزوره أعمامه الثلاثة شعلان وفواز وعامر:

عبادة: أهلاً بكم.. لعلكم جئتم لتهنئوني بالمشيخة.

شعلان: لا تستحق التهنئة من أجلها يا بني بل التعزية.

عبادة: سامحكم الله دائماً تكرهونني كأنني عدوكم؟

عامر: وهل لنا عدو غيرك؟

عبادة: المحسود عدو الحاسد!

شعلان: علام نحسد يا بني؟

فواز: أعلى جرائرك؟

عامر: وممالأتك الأعداء على قومك؟

عبادة: عجباً لكم.. هل جئتم لتبكتوني في قصري؟

شعلان: لا يا بني.. إنما جئنا لننصحك.

عبادة: نصيحة أم إنذار؟

فواز: سمها ما شئت.

شعلان: إنك تلعب بالنار يا عبادة وستؤدي بقومك إلى الدمار.

عبادة: دائماً تقولون لي هذا القول، وإني لا أفهم أي نار تقصدون.

شعلان: النار القديمة.

عبادة: تلك نار قد أطفأناها معاً.

شعلان: ولكنك أوقدتها من جديد.

عبادة: هذا غير صحيح.

فواز: صارحه بالحقيقة يا شعلان.

شعلان: إنه يفهم ما أعني.

عامر: لا داعي للكنايات. لقد عدت إلى الفتاة الدخيلة فآويتها في قصرك.

عبادة: أي فتاة تعنون؟

فواز: مادلين هيثكليف!

عامر: تلك الإنجليزية اليهودية المجرمة!

شعلان: عفونا عنها ومنحناها المال الوفير فعادت إلى جريمتها ضدنا.

عبادة: تلك كانت زلتكم. لقد نصحتكم يومئذ بقتلها فخالفتموني وسخرتم بي بل أوعزتم إليها لتركبني بالسخرية!

شعلان: فهل عدت لها اليوم مكافأة لها على أن سخرت بك؟

فواز: أما تستنكف أن تتزوجها بعد أن شهدت فسقها مع عشيقها الإنجليزي بعينك؟

عام: أتتزوج بغياً ملعونة؟

عبادة: من قال لكم أنني سأتزوجها؟ إن لي شرفاً يعصمني من ذلك؟ فلا تظنوا أنكم استأثرتم بالشرف من دوني.

شعلان: ففيم مقامها في قصرك؟

عبادة: لقد جاءت هي وخطيبها ضيفاً علي. أفأطردهما وأخل بتقاليد قومنا؟

فواز: ها.. قياماً بواجب الضيافة؟

عبادة: نعم.

شعلان: ومتى رعيت يا ابن أخي تقاليد قومك؟

عبادة: إنني دائماً أرعاها.. وهذا مثل منها.

فواز: لماذا لا تذكر المثل الآخر فهو أروع؟

عبادة: ماذا تقصد؟

فواز: أبو لؤلؤة الذي أجرته عندك فسلمته لأعداء قومك ليقتلوه ويمثلوا به!

عبادة: دعوني من شيء قد وارته الأيام.

عامر: لن تواريه الأيام أبداً!

عبادة: فلهذا جئتموني؟

شعلان: بل جئناك من أجل هذه الفتاة الدخيلة.

عبادة: قلت لكم إن خطيبها معها، وأنهما ينزلان ضيفين عندي، ولست ممن يرد الضيف.

شعلان: وصهيون الذي يتردد عليها في قصرك؟

عبادة: هذا يزعم أنه خالها ولا شأن لي به.

شعلان: والسفير الطوارني؟

عبادة: إن قندغلى هذا صديق لي قديم، ولا حق لأحد أن يمنعني من استقبال أصدقائي في قصري.

شعلان: إنك تعلم أنه عدو لنا.

عبادة: لقد تودد إليكم فأعرضتم عنه.

شعلان: لا مودة بيننا وبينه حتى يرد إلينا ما اغتصب من أملاكنا، ويكف عن تأييد أعدائنا ضد بني عمنا.

عبادة: هذا شأنكم أنتم معه. ولا شأن لي بذلك.

شعلان: أتصادق أعداءنا وأنت منا ثم تزعم أن لا شأن لك بذلك؟

عبادة: صادقوا أعدائي إن شئتم فلن يغضبني ذلك منكم.. كل واحد منا حر في اختيار أعدائه وأصدقائه.

شعلان: ونحن أحرار في إحباط المؤامرة التي تحاك ضدنا في جوانب قصرك.

عبادة: لا يحاك في قصري أية مؤامرة على أحد.

شعلان: لا يجتمع هؤلاء الأعداء في قصرك عبثاً.

عبادة: ليس في وسعي أن أمنع ضيوفي من الاجتماع وما أرى في ذلك أي ضرر على أحد.

شعلان: ذلك لأنك أناني لا ترعى إلا مصلحتك الشخصية.

عبادة: هاأنتم أقررتم الآن أنني أرعى مصلحتي، فكيف يستقيم هذا مع قولكم أنني العب بالنار؟ كأنكم تريدون مني أن أرعى مصلحتكم قبل مصلحتي.. أفليس هذا منتهى الأنانية منكم؟

شعلان: يا ابن أخي.. إن مصلحتنا هي مصلحتك.

عبادة: ففيم إذن تعارضون مصلحتي؟

شعلان: هذه ليست مصلحتك بل مصلحة الأعداء المتآمرين. وستؤكل يا بني يوم يؤكل الثور الأبيض!

عبادة: إنما تقولون هذا خوفاً على ميراث شيخ العرب الذي احتجزتموه دوني. وأنا الشيخ اليوم فيجب أن يصير الميراث إلي.

فواز: من الذي شيَّخَكَ إلا أعداؤنا.

عامر: أتتبجح بهذا اللقب المصنوع ألا تستحي من حمله؟

عبادة: لا أستحي من شيء هو مثار حسدكم علي.

شعلان: دعونا من هذا الآن.. استمع لي يا بني وافهم ما أقول.

عبادة: نعم..

شعلان: أنت تعلم أننا ما احتجنا نصيبك من الميراث، فلقد أخذته فما أحسنت القيام عليه حتى رهنته للأعداء فجعلت لهم بذلك سلطاناً عليك وعليه.

عبادة: تسمون هؤلاء أعداء لأنهم ساعدوني في انتزاع ذلك النصيب من أيديكم.

شعلان: ليصير إلى يديهم هم في النهاية.. وها هم أولاً وأخيراً كونك من جديد ليضعوا يدك على باقي تراث أسرتك فيضعوا أيديهم عليه!

فواز: ويقتسموه بينهم: فجزء لصهيون، وجزء لقندغلى..

عامر: والباقي للعدو الأكبر!

فواز: وعلى ميراث الأسرة ومجدها السلام!

شعلان: فأحذر يا بني أن تكون المعول الذي يهدم به الأعداء مجد أسرتك!

عبادة: هذا رأيكم أنتم وقد أوحته إليكم مصالحكم الشخصية. أما أنا فقد عاهدت نفسي لأجمعن ما تبدد من مجد الأسرة وأقيمه بناء مشمخراً شامخاً.

فواز: ليسكنه أعداؤنا وتقف أنت بواباً على بابه!

عبادة: إنني لا أحتمل أن أسمع هذا اللغو في قصري.

عامر: وهل هذا قصرك؟

عبادة (ساخراً) لعله قصرك أنت!

عامر: ما ارتهنته أنا حتى يكون لي!

فواز: لا حق لك يا عامر أن تقول هذا فالشيء المرهون يبقى ملكاً لراهنه حتى يغلق الرهن فعندئذ يصير ملك المرتهن.

عامر: إن لم يغلق بعد فإنه آيل إلى الغلق.. وإلا فمن أين لهذا أن يفتك الرهن؟

فواز: من ميراث شيخ العرب الذي يطمع فيه!

عامر: ليسرى إليه الرهن جميعاً!

عبادة (ينفجر غاضباً): كفى سخرية! اخرجوا من قصري!

فواز: أتطردنا ويلك؟

عبادة (بانفعال): نعم!

شعلان: فكر يا بني فيما قلت لك.. لا تقل يوماً إننا ما نصحناك.

عبادة: لا حاجة بي لنصيحتكم احفظوها لأنفسكم!

شعلان (ينهض وينهض أخواه): لتندمن على عملك!

عبادة: أتهددونني؟

عامر: نعم نهددك ونتوعدك!

شعلان: إلا إذا كففت عن هذا العمل طبعاً.

عبادة: لقد مضى العهد الذي أخضع فيه لتهديدكم؟. إن عندي اليوم أربعين ألفاً من بني قومي الأقحاح بأقوى سلاح وعلى أحسن نظام.

شعلان: إني لأرجو الله أن يضرب في عروقهم غيرة الأصل وعصبية الجذم فينتقضوا عليك في ساعة العسرة إذا جد الجد!

عبادة: لقد طمعتم في غير مطمع إنهم رجالي أنا لا رجالكم. ثم لا تنسوا أن الجنرال رستم باشا يؤيدني.

شعلان: لئن أيدك فإن قومه معنا قاطبة!

عبادة: بل سيكونون معي أسوة به.

شعلان: هيهات.. هو الشقي الوحيد فيهم.

عبادة: هب هذا صحيحاً فما هو بضائري شيئاً.. إنني حليف أكبر قوة في الغرب وأقوى فئة في الشرق!

شعلان: الله أكبر وأقوى!

فواز: والحق أمنع وأعلى!

عامر: ومد العرب أبقى!

عبادة: أنا مجد العرب ومجد العرب أنا.

عامر (ساخراً): على زن قول الشاعر:

أنا أنطونيو وأنطونيو أنا.

-3-

في دار الشيخ شعلان – الشيخ شعلان يخلو بصديقه خالد الأمين أحد ضباط الجيش الكركدني.

شعلان: إنك بارع في التنكر يا خالد.. والله ما عرفتك حين رأيتك إلا حين سمعت صوتك.

خالد: (يخفض صوته): نعم إن من الصعب تغيير الصوت.

شعلان: اطمئن يا خالد فليس في المكان غيري وغيرك. أترى الرجل جاداً في حركته؟

خالد: لا شك عندي في ذلك فما تزيدني الأيام إلا يقيناً به.

شعلان: فما العمل؟

خالد: هذا ما جئتك من أجله.

شعلان: أيثق بك محنك باشا؟

خالد: كل الثقة.

شعلان: ألم يتطرق إلى أحد منهم الشك في أمرك؟

خالد: لا، فيما أعلم. إني حريص كما تعلم.

شعلان: يجب أن تحافظ على هذه الثقة جهدك، فهي أساس نجاحنا إن قدر لنا نجاح.

خالد: سننجح بإذن الله. لقد بثثت الفكرة في طائفة من أفراد الجيش.

شعلان: أخشى أن يكون بينهم من يشي بأمرك.

خالد: كلا فقد اخترتهم من صفوة الرجال المخلصين للأسرة الناقمين على الأعداء. وأستطيع أن أؤكد لك أن أحداً منهم لا يقل عني غيرة وحرصاً.

شعلان: فاكتف بهم إذن ولا توسع الدائرة.

خالد: سأكتفي بهؤلاء، ولو أنني أعتقد أن كثيراً غيرهم ساخطون جميعاً على الحال. (يسكت هنيهة) ألا أستطيع أن أري أم العرب؟

شعلان: تستطيع إذا شئت، ولكني أخشى أن يلمحك أحد هناك فيعرفك. هل تريد أن تقول لها شيئاً خاصاً بها؟

خالد: لا.. ليس بشيء خاص.

شعلان: ففي إمكاني أن أبلغه لها فما هو؟

خالد: لقد سنح لي أن لو تخرج أم العرب إلى الميدان يوم يلتقي الجمعان فإني أرجو إذا رآها رجال جيشنا أن ينضموا إلى صفها أو يكفوا عن قتالكم على الأقل.

شعلان: هذا رأي سديد، وسأبلغه لها وهي على رغم علوّ سنها قابلة إن شاء الله.

خالد: وعلى طلائع رجالكم أن تقتصر على المناوشات الخفيفة وتفسح الطريق لجيشنا حتى نتقابل. وعندئذ سأضرب الضربة البكر ثم أنحاز بمن معي إلى صفوفكم.

شعلان: أموقن أنت أن الأعداء لا يقاتلون معكم؟

خالد: ما أحسب العدو الغربي يقدم على ذلك، لأنه حريص من جهة على التزام خطة الحياد وعدم التدخل في الظاهر، ولأنه من جهة أخرى يعتقد أن في جيشنا المدرب تدريباً كاملاً البالغ عدده أربعين ألفاً ما يغني عن اشتراك رجاله اشتراكاً فعلياً.

ولكن احذروا العدو الشمالي فقد يتقدم لاقتطاع جزء آخر من أملاككم عند هبوب العاصفة.

شعلان: صدقت. سنعنى بتحصين حدودنا الشمالية.

خالد: آن لي الانصراف إلى مقري حتى لا يحس بغيابي هناك أحد.

شعلان: فاذهب على بركة الله..إلى اللقاء يا خالد

خالد: في يوم اللقاء إن شاء الله.

-4-

الجيش الكركدني بدباباته وخيالته ومشاته يتحرك في صورة رائعة وقد شرق الجو بالغبار وهو يزحف صوب (العاصمة) في سرعة فائقة ثم يقف فجأة

عبادة (وحوله رجاله): ماذا حدث يا محنك باشا؟

محنك: طلائع جيش العدو قد بدت يا سيدي.

عبادة: مثل الطلائع الكثيرة التي فرت من أمامنا اليوم فعلام الوقوف؟

محنك: كلا يا سيدي. هذه طلائع جيش كبير.

عبادة: جيش كبير! أكانوا على استعداد من قبل؟

محنك: يخيل لي أنهم كذلك ولكنهم لن يثبتوا لجيشنا الباسل ساعة واحدة هل لك أن تتحصن في الساقة يا سيدي حتى لا يصيبك سوء!

محنك: كلا لا خوف عليك، وإنما أشرت بهذا على سبيل الاحتياط.

عبادة: لا تنس أننا سنتغدى اليوم في داخل العاصمة!

محنك: سيكون ذلك يا سيدي إذا واتانا الحظ.

عبادة: أين رستم باشا؟

رستم: لبيك يا سيدي.

عبادة: هلم اتبعني إلى الساقة.

(يتجه بفرسه إلى الخلف)

محنك: إني اعتمد عليك يا رستم باشا...

رستم: ستجدني كما تحب يا محنك باشا.. وأنت يا مدلين.. ألا تتبعيننا؟

محنك: كلا.. إنها ستبقي هنا معنا.

مادلين: نعم سأبقي هنا

صهيون: هيا بنا يا مسيو قندغلى نتبعهما.

قندغلى: لا بد من استئذان القائد العام أولاً.

صهيون: يا محنك باشا.

محنك: ماذا تريد؟ لا تشغلني عن عملي.

صهيون: هل لي أن أتقهقر خلفهما؟

قندغلى: وأنا أيضاً هل لي أن أتقهقر خلفهما؟

محنك: لا بل ابقيا مكانكما، ممنوع التحرك إلى الوراء الآن.

صهيون: كيف هذا؟ أتعرضه للهلاك؟

قندغلى: هذا لا يجوز

محنك: لست مسئولا عنكما

قندغلى: والله لأرفعن الأمر إلى دولتي!

محنك: أوه! إن عدت إلى دولتك فافعل ما بدا لك!

قندغلى: إن عدت إلى دولتي!.

صهيون: أو قد بلغ الأمر إلى هذا الحد؟ أنقذي خالك يا مس مادلين!

قندغلى: وأنقذيني أنا أيضاً!

مادلين: اطمئنا.. لا خوف عليكما

صهيون: لكن......

محنك (محتداً: إن نطقتما بكلمة واحدة أمرت بضربكما بالرصاص!.

لقد شغلتماني قبحكما الله!. يا خالد الأمين!

خالد: أفندم!

محنك: اهجم بخيالتكم فناوشهم، ولا تلتحم معهم حتى يأتيك أمري. وسنزحف نحن ببطء

خالد: سمعاً وطاعة.

(ينطلق خالد بخيالته إلى الأمام)

-5-

مشهد آخر من المعركة. تسمع طلقات المدافع والبنادق وأزيز طائرات الاستكشاف وصهيل الخيل.

خالد (يعود على جواده فيدنو من محنك باشا): إن الضغط علينا شديد يا جناب القائد، فلو انسحبنا قليلاً حتى نستدرجهم إلى مضيق الوادي..

محنك: كلا يا خالد. ستقوى روحهم المعنوية إن فعلنا سنهجم عليهم الساعة هجمة واحدة.. إنهم قد أصحروا لنا وهذه فرصة لا ينبغي أن تفلت منا.

خالد: وهذه فرصة لا ينبغي أن تفلت مني! (يفرغ رصاص مسدسه في صدر محنك باشا فيخر صريعاً.. وفي لمح البصر ينطلق خالد وخلفه رجاله صوب المعسكر الثاني).

مادلين (تصيح): لا تفلتوا الخائن. إنه قتل محنك باشا! محنك باشا قتل!

(يسود الاضطراب والتهامس في صفوف الجيش)

-6-

في المعسكر الثاني

شعلان: بورك فيك يا خالد! إني أهنئك.

خالد: ما جاء وقت التهنئة بعد.. أين أم العرب؟

شعلان: ها هي تلك في سيارتها المصفحة.

خالد: دعوها تتقدم.

شعلان: مرهم يا عامر أن يسوقوا المصفحة إلى الأمام.

عامر: سمعاً (ينطلق)

شعلان: أخشى يا خالد أن يصيبها أحد بمكره.

خال: كلا، سأنطلق ورجالي قدامها.

-7-

(يتدانى المعسكران)

مادلين (بأعلى صوتها): اهجموا يا أبطال الجيش! لا يفتن في عضدكم ذلك الضابط الخائن ورجاله!

(يهجم الجيش الكركدني في شيء من التراخي، ولكنه يقف حين يسمع صوت خالد)

خالد: (بأعلى صوته): أيها الجيش الكريم! إنكم من نسل العرب الأقحاح الميامين، فأين يذهب بعقولكم؟ لقد خلصتكم من الطاغية الدخيل الذي كان يستعبدنا ويستعبدكم ففي سبيل من تقاتلون إخوانكم بعد؟ أفي سبيل هذه الإنجليزية اليهودية؟ أتنصرونها على أمكم أم العرب؟ انظروا ها هي ذي أمكم يحوطها العرب أبناؤها وإخوانكم! ثم انظروا خلفكم فمن تجدون؟ تجدون مادلين وجون وقندغلى وصهيون! أفتقاتلون أمكم وإخوانكم من أجل هؤلاء الأعداء؟

مادلين (تصيح): لا تستمعوا لهذا الخائن المارق.. اهجموا عليهم اهجموا!

خالد: اقتلوا هذه الفاجرة!

أصوات في الجيش: تسقط مادلين الفاجرة! تحيا أم العرب؟

مادلين: هيا بنا ننج بأنفسنا يا جون!

(يدوي الرصاص فتخر مادلين وجون صريعين)

أحد الجنود: لا تنجوان إلا إلى الجحيم!

خالد (يهتف): يحيا الجيشان العربيان! تحيا أم العرب!

(يتلاقى الجيشان ويختلطان في سلام)

خالد: أين قندغلى وصهيون؟

أحد الضباط: لا ندري أين انسلا خالد (بأعلى صوته) أين قندغلى وصهيون؟

صوت (من بعيد): ها هما ذان!

خالد (يلتفت إلى صهيون): تطمعون أنتم يا لعنة البشر في ميراثنا (يسل سيفه) فخذوا ميراثنا هناك.. في الجحيم! (يضرب عنقه)

قندغلى: لا تقتلني يا أمير الجيش ما جئت لأقاتل.. جئت لأتفرج فقط.

خالد: اطمئن فلن نقتلك.. ارجع إلى قومك فقل لهم يردوا إلينا أملاكنا أفهمت؟

قندغلى: (يمس صفحة عنقه): نعم يا أمير الجيش.. شكراً يا أمير الجيش.. سأقول لهم ذلك يا أمير الجيش.

خالد: أوصلاه إلى الحدود!

قندغلى: شكراً يا أمير الجيش:

(ينسحب ومعه بعض الجنود يخفرونه).

خالد: وأين رستم باشا وصاحبه؟

أحد الضباط: لقد فرا حين علما بمصرع محنك باشا.

عامر: عجباً.. أيفر الجنرال رستم باشا من ميدان القتال؟

فواز: هذا جنرال قد أنسته قاعات السياسة ساحات القتال.

شعلان: الحمد لله.. لقد أذله الله وأخزاه! (يلتفت إلى خالد) هل لي أن أهنئك الآن يا خالد الأمين؟.

خالد: لا.. ليس الآن يا شيخ العرب، حتى تتم مهمتنا. هاأنذا ورجال جيشي تحت أمرك فمرنا بما تشاء.

شعلان: شكراً لك يا خالد...

أم العرب هي التي تأمرنا وتأمركم

خالد: تحيا أم العرب!

الجميع: تحيا أم العرب!

أم العرب (تقف على مصفحتها) بارك الله فيكم يا أبنائي الأبطال.. لقد عزبكم اليوم مجد العرب!

لا خوف على مجد أنتم حماته!

خالد: (يهتف) يحيا مجد العرب

الجميع: يحيا مجد العرب

خالد: مرينا بما شئت يا أم العرب فنحن في طاعتك.

أم العرب: السبيل يا أبنائي أمامكم واضح.. انطلقوا أيها الجنود البواسل إلى قصر الكركدن فحرروه. وإلى الأرض المقدسة التي باركها الله فطهروها من الرجسين!.. ثم ارفعوا لواء العرب على ذلك اللواء العربي المغتصب!

(ستار)

            

* مجلة الإخوان المسلمون (المصرية) في 8 / 2 / 1947