حوار مع الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل-الأدب الإسلامي همومه وقضاياه

عندما شرعت في  اعداد سلسلة حوارات مع  ادباء  ومنظري الادب الاسلامي ومن يحمل  همومه وقضاياه  هالني  غياب   قامات شامخة كنت   اتابع  كتاباتهم وادبهم شعرا ورواية ودراسة    عندما سعيت في   التواصل معهم بعد  غيابي الطويل في السجون  وجدت الكثير منهم   قد رحل  في صمت…  والبعض منهم  حاولت التواصل معه  فاعتذر بعد ان   اصبح  طريح الفراش يئن من وطأته  … ةقد  أنشب في جسمد  نابه الأكول

من هؤلاء الاستاذ الدكتور عماد الدين خليل الاديب الاسلامي الفذ  والمؤرخ اللامع الذي   وضع لتاريخ الاسلامي قواعد  ونظريات  وشاد  صرحه  بشموخ وثبات ..

فقد  تابعت من زمن سحيق كتاباته الرزينة  وما  ابدع في الادب الاسلامي والتنظير له..  فهالني  انه قد يعتذر عن الحوار  نظرا لظروفه الصحية القاسية   كما وصفها في موقعه الرسمي ومع هذا الخوف  والخشيةمن فوات  شرف محاورته ونكش  ما  بين جوانحه عن الادب الاسلامي وادب السجون  …..القضايا والهموم

فقد    سعيت لذلك جهدي  وما وسعني السعي ..

ولم ألبث الا يسيرا حتى تلقيت ردا من   نجله  الاستاذمحمد  عماد خليل  الذي تواصل معي حتى تم  انجاز هذا الحوار الناذر والفريد مع هذه القامة الادبية والعلمية والاكاديمية…..

نقدمه لقراء شبكة وا اسلاماه وموقع داب السجون في جزئين لتعم الفائدة

فالى الحوار

ورقة تعريفية بالدكتور عماد الدين خليل

– ولد في الموصل – العراق عام 1941م.

– حصل على البكالوريوس ( الليسانس ) في الآداب بدرجة الشرف من قسم التاريخ بكلية التربية / جامعة بغداد عام 1962م ، والماجستير في التاريخ الإسلامي بدرجة جيد جداً من معهد الدراسات العليا بكلية الآداب / جامعة بغداد عام 1965م ، عن رسالته الموسومة بـ ( عماد الدين زنكي : 487-541 هـ/1094-1146م ) ، والدكتوراه في التاريخ الإسلامي بدرجة الشرف الأولى من كلية آداب جامعة عين شمس في القاهرة عام 1968 م ، عن أطروحته الموسومة ( الامارات الارتقية في الجزيرة الفراتية والشام : 465-813هـ/1072-1410م ).

– عمل مشرفاً على المكتبة المركزية لجامعة الموصل عام 1968م.

– عمل معيداً ، فمدّرساً ، فأستاذاً مساعداً ، في كلية آداب جامعة الموصل للأعوام 1967-1977م.

– عمل باحثاً علمياً ، ومديراً لقسم التراث ، ومديراً لمكتبة المتحف الحضاري ، في المؤسسة العامة للآثار والتراث – المديرية العامة لآثار ومتاحف المنطقة الشمالية في الموصل للأعوام 1977-1987م.

– حصل على الأستاذية عام 1989م ، وعمل أستاذاً للتاريخ الإسلامي ومناهج البحث وفلسفة التاريخ في كلية آداب جامعة صلاح الدين في أربيل للأعوام 1987-1992م ، ثم في كلية تربية جامعة الموصل 1992-2000م ، فكلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي ، بالإمارات العربية المتحدة 2000-2002م ، فجامعة الزرقاء الأهلية ، الأردن ، عام 2003م ، فكلية آداب جامعة الموصل 2003-2005م التي أعارت خدماته لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة اليرموك – الأردن ، لفصلين دراسيين عاد بعدهما للعمل في كلية آداب جامعة الموصل حتى إحالته على التقاعد عام 2009م لكي يعيّن بعدها أستاذاً متمرساً في الكلية ذاتها. هذا إلى تعيينه أستاذاً محاضراً في قسم الدراسات العليا لكلية الإمام الأعظم في الموصل حيث لا يزال.

sgshgh961.jpg

الحوار

السؤال الأول : في البداية نحب أن نسألكم عن مفهوم الأدب الإسلامي بإيجاز ، بحيث يتضح معناه وتتكون صورته في ذهن القارئ الكريم. وما الذي يعنيه الأدب الإسلامي بالنسبة إليك ؟ وما الذي يدلّ عليه في رأيك ؟ وهل لهذا الأدب الإسلامي مستقبل ؟

الجواب : يمكن تعريف ( الأدب الإسلامي ) بإيجازٍ بالغ بأنه تعبير جمالي مؤثر بالكلمة عن التصور الإسلامي للوجود … وستكون الخبرة الإسلامية المنبثقة عن التصور الإسلامي مندرجةً ضمناً في سياق هذا التعريف.

فنحن إذاً ازاء ركنين أساسيين ، يتضمن كل منهما عناصر فرعية … أولاً : التعبير الجمالي المؤثر بالكلمة ، ولابد – إذاً – أن يتحقق بالكلمة ، وليس بأداةٍ أخرى ، وأن يملك جماليته الخاصة وقدرته في الوقت ذاته على التأثير ، على توصيل الشحنة الفنية إلى الآخرين ، وإحداث الهزّة المرجوة فيهم.

ثانياً : التصوّر الإسلامي للوجود ، ولابدّ – إذاً – أن يملك الأديب المسلم فلسفة ، أو تصوراً ، أو موقفاً شمولياً ازاء الكون والحياة والإنسان ، وأن ينبثق هذا التصوّر ، الذي يطبع التجربة الذاتية طولاً وعرضاً وعمقاً ، عن الإسلام المتميز ، المتفرّد المبين.

وأي إغفال لواحد من هذين الركنين ، وأي تجاهل لإحدى العناصر الفرعية التي يتضمنانها سوف يخرج بالعمل الأدبي – ولا ريب – عن كونه أدباً إسلامياً … اننا آنذاك سوف نلتقي بشروح ( غير فنية ) لهذا الجانب أو ذاك من الإسلام تصوراً

أو سلوكاً ، وهذا ليس أدباً إسلامياً بحال من الأحوال. وقد نلتقي بعرض فني جميل مؤثر ، لكنه لا يصدر عن التصور الإسلامي ، ولا يمسه من قريب أو بعيد ، فهو ليس أدباً إسلامياً بحال من الأحوال. وقد نلتقي بعمل يتضمن قدراً من المعطيات الجمالية المؤثرة بأداةٍ أخرى غير الكلمة ، كالريشة أو الآلة الموسيقية أو الأزميل ، فهو – أيضاً – ليس أدباً إسلامياً ، ولكنه قد يكون فناً إسلامياً. وقد نلتقي بتعبير جميل عن الإسلام ، ولكنه لا يملك القدرة على التوصيل والتأثير ، لأنه لا يتجاوز الشكل إلى المضمون. ولا يعدو أن يكون زخرفاً من القول ، وليس أدباً إسلامياً.

لقد جابه أدباء الإسلامية تحدياً كبيراً والحق يقال ولكنهم قدروا على أن يجتازوه بقدر طيب من النجاح. وهاك سيلاً من الأعمال الدراسية والنقدية والتنظيرية والابداعية تخرج على الناس بكثافة تلفت النظر ، بحيث أن محاولة كتلك التي قام بها الدكتور عبد الباسط بدر ( رحمه الله ) في ( فهرسة مكتبة الأدب الإسلامي ) تضع بين أيدينا مئات المؤلفات والبحوث ، وقد وعدت بأن تضع في أجزائها القادمة مئاتٍ أخرى من الأعمال الابداعية. فماذا يمكن أن يقال عن المستقبل ؟ وهاك أيضاً … فلأول مرة في تاريخ الأكاديمية يفرض هذا الأدب حضوره في أروقة المعاهد والجامعات ، فتكتب عنه البحوث والدراسات وتقدم الرسائل والأطروحات. ويجب أن ننّبه إلى أن الدوائر الأكاديمية التي تقبل هذه الممارسة المتزايدة ، دوائر لم تكن تعترف إلى عهدٍ قريب بشيئ اسمه الأدب الإسلامي ، والأساتذة الذين يشرفون ويناقشون ويقرّون درجة ما لهذا البحث أو ذاك عن الأدب الإسلامي ، قد لا يكونون أساساً من الإسلاميين ، بل إن معظمهم من أولئك المتأثرين بتيارات النقد الغربي.

وإلى جانب هذه الدوائر فان أقسام اللغة والأدب العربي في العديد من الجامعات العربية والإسلامية قد أقرّت هذا الأدب في سياقاتها المنهجية وأعطته المساحة الواسعة التي يستحقها ، ولسوف يزيد هذا التوجه عرضاً وعمقاً الجهود القيمة التي تبذلها

( رابطة الأدب الإسلامي العالمية ) في لمّ الطاقات وبرمجتها وجعلها تصب في البؤرة التي ستمزق حجب الجهل والتجاهل ، وتضع في دائرة الضوء ، وتنمّي واحدة من أشد معطيات الإنسان الأدبية ارتباطاً بقضية الإنسان وهمومه ، وأكثرها نقاءً وطهراً ، قبالة عالم يكاد يختنق بالدنس ، وفسادٍ يلف البر والبحر والسماء بما كسبت أيدي الناس.

قبالة الهزائم والانكسارات التي عانت منها ولا تزال المذاهب والكشوف الغربية على مستوى الحياة الإنسانية … قبالة ضياع إنسانية الإنسان ودمار الإنسان نفسه في عالمٍ يحاصره السباق المحموم للتكاثر بالأشياء ، ويستنزفه الإغراق في الشهوات الهابطة ، ويلفّه سعار الالتصاق الأعمى بكل ما هو مادي … قبالة الآداب الغربية التي ارتكست هي الأخرى في حمأة الرذيلة والتفكك ففقدت وظيفتها الكبرى التي أريد لها ابتداء أن تكون بحجم الإنسان نفسه … قبالة هذا وذاك يصبح الأدب الإسلامي ضرورة من الضرورات التاريخية والإنسانية على السواء … على الأقل لتحقيق التوازن الضائع واستعادة الوضع البشري الصحيح.

السؤال الثاني : حسب اعتقادك هل يجسد الأدب الإسلامي جسراً ممتداً بين الأدب والإسلام ؟ ثم ما جوهر العلاقة القائمة بينهما ؟ وما الذي تراه في شأن رسالة الأديب المسلم ؟

الجواب : إن سلّم القيم الإسلامية التي ينشدها الأديب المسلم ، سلّم واسع المدى كثير الدرجات ، يمنح الأديب والفنان مقداراً واسعاً من الحرية والعفوية في الاختيار والتركيز دونما أي قدرٍ من التوتر والوعظية والمباشرة … إن بمقدوره أن يتحرك عبر هذا المدى الواسع لكي يقف عند هذه القيمة أو الخبرة أو تك ، حيثما وجد في وقفته تساوقاً عفوياً منغماً مع هيكل عمله الأدبي ومعطياته وجزئياته ، وحيثما رأى تناسباً وانسجاماً في اللون والايقاع والتكوين بين ما يسعى إلى تحقيقه وبين طبيعة نسيج ابداعه : لحمته وسداه.

هنالك السعي من أجل تحقيق النقاء الروحي ، وتأكيد التوازن الفعال بين العقل والروح والجسد ، بين العلم والايمان. وهناك العمل من أجل تنمية قيم البطولة وتعميق مواقف الرفض والتوازن ، يقابلها العمل من أجل التحقق بالصفاء والانسجام والاحساس الغامر بالتعاون مع سنن الكون والعالم ونواميسهما وموجوداتهما … وغير هذا وذاك الكثير من القيم التي يتحتم غرسها وتنميتها في كيان الفرد المسلم والجماعة المسلمة من أجل تعزيز شخصيتها وتأكيد ذاتها الحضارية ، وتمكينها من الوقوف على قدميها لمجابهة صراع العقائد والأفكار والدول والحضارات ، في عالم يضيع فيه ويفنى من لا يملك شخصيةً ولا ذاتاً …

هنالك – على سبيل المثال لا الحصر – ضرورات الالتزام الخلقي بمفهومه الواسع … الاستعلاء على الدنس والمغريات … تكوين النظرة الشمولية التي ترفض التجزئة والتقطيع … التوحد بين المعتقد والممارسة ، أو النظرية والسلوك … تنمية الحس الجمالي الخالي من الشوائب … تغطية الفراغ الواسع الذي تمنحه الحضارة المعاصرة بترفيه منضبط … تجاوز الرومانسية المريضة والذاتية المنغلقة من جهة ، ورفض القطيعية البكماء والجماعية الصّماء من جهةٍ أخرى … إدانة الهروب والانزواء أو الذوبان والاندماج … هناك التنمية العاطفية والوجدانية وفق طرائق سليمة … امتصاص وتصعيد الطاقة الجنسية المكبوتة … حل وتفكيك الخوف والاحساس بالنقص وفقدان الثقة … وسائر العقد والأزمات النفسية التي تجنح بالشخصية عن الحد الأدنى من السوية المطلوبة … مجابهة القلق البشري المدمر ومنح اليقين … مجابهة الاحساس العبثي الغاشم وطرح البديل الايماني في الغائية والجدوى … وهناك – فوق هذا وذاك – تحقيق الاقتران الشرطي السليم بين الفن والقيم ، وتقديم

بدائل إسلامية مقنعة لمعطيات الأدب والفنون الوضعية في ميدان القيم التربوية : البراغماتية ، الوجودية ، المثالية ، المادية … ولن ننسى بطبيعة الحال ضرورات المجابهة الابداعية لعمليات الهدم والتشويه والتدمير الصهيونية ، التي نستطيع أن نتلمس أبعادها في معطياتهم النظرية والتطبيقية على السواء.

إنه سلم قيمي واسع الامتداد ، كثير الدرجات ، ما دام أن الإسلام جاء لكي يغطي تجربة الحياة البشرية بأسرها ، في امتداديها الأفقي والعمودي على السواء ، وما دام انه كان وسيظل ، بمثابة موقف متكامل ورؤية شاملة لدور الإنسان في العالم بكل ما تتضمنه هذه العبارة من معنى … ومن ثم فان لنا أن نتصور المدى الواسع الذي يمكن أن يتحرك فيه الأديب الذي تشرب عقله وقلبه ووجدانه قيم هذا الدين.

السؤال الثالث : بنظرة شمولية نجد أن هناك تبايناً في النتاج الإسلامي للأجناس الأدبية : فالشعر يتصدر المشهد دائماً ، ثم تأتي القصة والرواية ، ثم المسرح. فهل لذلك أسباب ترونها ؟ وهل تتحقق هنا اهمية ” الكم ” ؟

الجواب : ثمة أشياء كثيرة يمكن أن تقال بالنسبة للشعر ، فهو بحق الهاجس الأكثر إلحاحاً في دائرة الأدب الإسلامي ، إذا حاولنا بحساب الكم أن نقيس الشعر على الأجناس الأخرى كالقصة والرواية والمسرحية ، ولسوف نجد يقيناً قبالة كل مجموعة قصصية أو رواية أو مسرحية ، تصدر على مكثٍ بين الحين والحين ، عشرة دواوين شعرية أو عشرين !

قد يكمن السبب في أننا أمة شاعرة ، وفي أن لغتنا – كما يقول العقاد – لغة شاعرة ، وقد يكمن في قصر الأجناس الأدبية المذكورة في تاريخ أدبنا العربي الحديث ، وما يقال – صدقاً أو كذباً – من أنها استعارة في الأغلب عن الغير ، في وقتٍ يبدو فيه الابداع الشعري ممارسة أصيلة موغلة في الزمن ، ضاربةً بجذورها في أعماق الأرض العربية ، مستمدةً تقاليدها الفنية الخصبة الغنية من معطيات مئات السنين.

ولكن هذا بحدّ ذاته قد يمثل تحدياً وآن على الإسلاميين أن يقبلوه من أجل التحقق بالتوازن في المعادلة الصعبة ، فما دام العصر الحديث في دوائره العربية والإسلامية والعالمية عموماً يتعامل مع القصة والرواية والمسرحية باهتمام بالغ ، ويضع لها مكاناً كبيراً من اهتماماته الأدبية على مستويات الدراسة والنقد والابداع ، وعلى مستوى الاستهلاك أي قاعدة القراء التي تشكل ثقلاً أساسياً في الموضوع ، فان على الإسلاميين أن يمنحوها ما تستحقه من اهتمام ، وأن يسعوا إلى توصيل قناعاتهم

وفق تقنياتها المؤثرة ذات الشعبية الواسعة والجذب النقدي الملحوظ. وهذا لا يعني

– بطبيعة الحال – دعوة للكف عن قول الشعر ، أو تحجيمه في أقل تقدير … أبداً … فليقل الشعراء الإسلاميون ما اتيح لهم القول ، وليبدعوا ما سنحت لهم منازع الابداع ، فان الساحة ما تزال بحاجة إلى مئات أخرى من الدواوين التي تحمل القضية بالقصيدة الملحمية المقاتلة ، أو الكلمة المغناة التي تعرف كيف تجتاز دروب الحس والوجدان.

ولكن الحضور الابداعي الإسلامي لن يستكمل أسبابه ، إن لم يكن هناك ، في مقابل هذا الخصب الشعري ، عطاء مؤكد متواصل ، وبالكثافة ذاتها في دائرة الأجناس الأخرى التي تقدر – ربما أكثر من غيرها – على الطرق على الآذان الصّماء والعيون التي لا ترى ، لكي تصحو فتجد نفسها قبالة أدب إسلامي سخي في الأجناس كافة ، فنقول يومها أن هناك بحق أدباً إسلامياً …

إن الأجناس الأدبية وليدة – خبرات وثقل تاريخي – إذا صح التعبير – فليس من السهولة التخلي عن نوع ما في سبيل نوع آخر ، وانما هي ماضيةً مرتبطةً بنزوع الإنسان الجمالي ، وبقدرته على التعبير ، وبالتنوع الذي هو فطرة الإنسان ، بين أديبٍ يملك القدرة على الخطاب بالصيغة الشعرية ، وآخر بالصيغة الروائية ، وثالث بلغة المسرح … وحتى في السياق الشعري هناك الصيغة الملحمية والغنائية والمسرحية … الخ وسيظل التغاير قائماً ، ولكن يحدث أحياناً لأسباب ثقافية أو بيئية ، وربما أسباب أخرى يصعب تحديدها نوع من الميل العام بين عقدٍ وآخر … بين فترة زمنية وأخرى، إلى هذا النوع الأدبي أو ذاك ويجيئ هذا – ربما – على حساب الأنواع الأخرى. وأذكر – على سبيل المثال – كيف كان عقد خمسينيات القرن الماضي عقداً شعرياً حظي فيه الشعر بالأولوية ، لكن هذا لم يغيب الأنواع الأخرى ، كالقصة والرواية والمسرح … وفي الستينيات أصبح المسرح هو الغالب ، لاسيما وأن الحركة المسرحية في مصر بلغت أوجهاً يومذاك ، وأخذت دور النشر المصرية تصدر سلاسل قيمة من الأعمال المسرحية المترجمة ، وأصبح القارئ منجذباً إلى هذه الأعمال مشدوداً إلى حضور بعضها مشخصاً على خشبة المسرح … وربما كان عقد السبعينيات عقداً للقصة القصيرة لأنها أخذت في ذلك الحين تنضج وتهندس بشكل أكثر إحكاماً من ذي قبل … أما إذا رجعنا في الزمن فقد نجد عقد الأربعينيات ساحة لأدب المقال الذي زادته انتعاشاً مجلة رائجة كالرسالة التي كانت تصدر في مصر وتوزع في كل ديار العرب … أما الرواية فأمرها يختلف ، فهي بسبب من خصبها وجماهيريتها في الوقت نفسه ، قديرةً على الحضور في كل زمن ومكان … ويزيد في ديمومتها ظهور روائيين كبار بين الحين والآخر ينفخون النار في حطبها فيزيدونها اشتعالاً … ومن منّا لا يذكر عبر العقود الأخيرة ريمارك وهيسه الألمانيين ، وماركيز واستورياس الكولومبيين ، ونجيب محفوظ والكيلاني العربيين ، وغيرهم ممن انتشرت أعمالهم في الآفاق ؟

ويظل الشعر العمودي ، بجلاله وجماله ومعماره المتناظر ، حجر الزاوية ونقطة الجذب في القصيدة العربية … انه الإرث العظيم والخصوصية المتميزة ، والفرادة ، وهوية الابداع التي يمكن أن نتقدم بها للعالم في كل زمن ومكان …

السؤال الرابع : نلاحظ كثيراً أن عدة ألقاب تسبق بعض الأسماء فهذا ” القاص والكاتب والشاعر ” ، وذلك ” الناقد والمسرحي والروائي ” … الخ. فهل : أنتم مع احتراف الأديب لفن واحد ؟ وما مدى تأثير عدم الاحترافية والتخصص على المشهد الابداعي ؟

الجواب : هذا وذاك ، فليس قدرنا أن نقول هذا أو ذاك ، فالظواهر في بعض الأحيان لا تتخاصم وينفي بعضها بعضاً وانما تلتقي وتتصالح ويعطي كل منها للحلقات الأخرى الفرصة الكاملة للتحقق.

إن الجدل ( الهيغلي ) الذي يرغم الأفكار على أن تصطرع وينفي بعضها بعضاً ، والديالكتيك المادي الذي تزيح الشرائح الاجتماعية وصيغ الانتاج خلاله بعضها البعض الآخر ، فيطرده من الحضرة ، ويستأثر بالسلطان … جدل أو اصطراع كهذا ليس قدراً محتوماً كما يخيل للكثيرين ، فهناك دائماً مع وجود الاصطراع والنفي ، الوفاق والتصالح والتوازن في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الفكر أو الحياة.

ما أريد أن أقوله هو أن الموسوعية – إذا صحّت التسمية – لا تتعارض مع التخصص سواء في دائرة المفكر الواحد ، أو في سياق النشاط الفكري والثقافي في بيئة ما أو عصر من العصور … القطبان يكمل أحدهما الآخر … هذا يتحرك في فضاء واسع أعطاه الله سبحانه وتعالى القدرة على خوض غماره … وذاك يوغل في أعماق الظواهر والخبرات ويتمركز في حيز محدد حيث يجد نفسه مؤهلاً لأداء مهمته الفكرية في دوائر التخصص … والحياة الثقافية التي يغيب فيها الموسوعيون ولا يتحرك سوى أصحاب التخصص في هذا الفرع المعرفي أو ذاك … حياة لا تستحق أن تعاش … أرخبيل من الجزر المنعزلة التي لا تجمعها لغة واحدة … تصوّر لو أن قرننا هذا لم يشهد مثقفين كالعقاد أو طه حسين او سيد قطب أو توفيق الحكيم أو مصطفى محمود … بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية … مثقفين كتبوا في الفكر والتاريخ والترجمة والسيرة الذاتية والتنظير الأدبي ، وابدعوا قصصاً وروايات ومسرحيات وشعراً ، كيف يمكن ان يكون … تصوّر لو أن رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه التي طالما مارست خطابها بلغة عقيمة سقيمة مكسّرة ، هي وحدها التي تستأثر بالساحة ، كيف يكون الحال ؟

إن التخصص هو بتأكيد من ضرورات التقدم العلمي ، في مجال الإنسانيات ، وفي المقابل فان الموسوعية هي ضرورة ثقافية … إذا كنت تملك أن تقدم شيئاً ذا قيمة في أكثر من ساحة فلماذا تتردد ؟ وإذا كان غيرك بمجرد أن يمدّ رجله خطوةً واحدةً خارج نطاق تخصصه تعرض للضياع فما ذنبك أنت ؟ ومع ذلك فان هذا لا يمنعك من أن تصير متخصصاً ناجحاً ، بل ربما أكثر قدرةً على الابداع والعطاء في مجال تخصصك ذاته من الكثير ممن اعتقلوا أنفسهم في زنزانات ما يسمى بالتخصص الدقيق ففقدوا الرؤية الشمولية واللغة القديرة على الأداء بل أصيبوا بسبب جمودهم

في البؤر الضيقة بعمى الألوان ، وغدوا – بتعبير شبنغلر – مجرد منظفي أتربة أكاديميين !

في الغرب والشرق على السواء رحل مئات الأكاديميين المتخصصين ، بل ألوفهم دون أن يسمع بهم أحد ودون أن يتركوا في الحياة الثقافية أثراً يذكر … بعضهم – إذا أردنا الحق – مضى بالخبرة العلمية صوب آفاق بعيدة ، لكن أغلبهم – والحديث مرةً أخرى عن جماعة الإنسانيات – ما فعلوا سوى أنه تمرسوا في مجال تخصصهم وأصبحوا أساتذة جامعيين ناجحين ، وليس ثمة شيئ وراء ذلك … لكن موسوعيين كهيغل وشنبغلر وتوينبي وأريك فروم وغارودي وروم لاندو ، وغيرهم كثيرون ، هم الذين أعطوا الحياة الثقافية في الغرب ، وربما في العالم كله ، طعمها وملحها … وهل ننسى جيد ومالرو وكوستلر وبرناردشو وفتكنشتاين … و … و … ؟؟

لنترك هؤلاء وهؤلاء كل يعمل في مجال قدراته التي منحه الله إياها … فكل ميّسر لما خلق له كما يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وليس ثمة مبرر على الاطلاق لأن ينفي أحدهما الآخر ويستأثر بالميدان.

لقد فتح أبناء جيلي عيونهم على عصرٍ لم يكن المفكر فيه قد اعتقل نفسه في زنزانة التخصص ، ولقد تعلمنا كثيراً – بغض النظر عن اختلاف القناعات – من العقاد وسيد قطب وطه حسين والرافعي والحكيم وبنت الشاطئ والغزالي والسباعي والطنطاوي والندوي ومصطفى محمود وغيرهم … كانوا يكتبون في الفكر والأدب والتاريخ … كانوا ينّظرون وينقدون ويبدعون ، بل أن معظمهم قال شعراً …

ثمة مسألة أخرى … ان الساحة الإسلامية بالذات قد تغري بنوع من الملاحقة … قد تجعل الكتابة في أكثر من ميدان نوعاً من ” فرض العين ” على كل قادرٍ … وتبقى مسألة الأولويات هي التي تحدّد ما الذي ينصب عليه الاهتمام في هذه اللحظة الزمنية أو تلك. 

على أية حال ، ومن أجل تجاوز أي نوع من سوء الفهم فان تشعّب الاهتمام لا يعني بالضرورة انتقاصاً لمطالب التخصص أو المنهج ، ولا خرقاً لضرورات الأكاديمية. إن ما كتبته في حقل التاريخ – ولله الحمد والمنة – يتحقق بهذه الضوابط والضرورات ، وإلا لما حصلت أساساً على الماجستير والدكتوراه ولما رقيت إلى مرتبة ( الأستاذية ) في التاريخ الإسلامي.

إن منطق العجز وحده هو الذي يدين الآخرين وهم يغادرون بين الحين والحين مواقع تخصصهم لكي يكتبوا في مجالاتٍ أخرى بعيداً عن الزنزانات التي تحاول أن تقيم أسلاكاً شائكةً بين حقول المعرفة الإنسانية.

دعني أقول لك شيئاً … إن آخر تقاليد البحث في العلوم الصرفة ذاتها تدعو إلى مشاركة الإنسان في الظاهرة العلمية … نوع من اندماج الذات في الموضوع … اقرأ ما يقوله فتكنشتاين وسوليفان وكاريل بهذا الخصوص … معنى هذا أن اتساع الفضاء المعرفي للعالم ، وكسر حاجز التخصص الدقيق عاد لكي يفرض نفسه ، ليس فقط في الإنسانيات ، وانما في العلوم المحضة كذلك

السؤال الخامس : كناقد له باع طويل في النقد ومتابعة كافة أنماط الفن الروائي أودّ أن اسألكم عن أدب السجون ، إلى أي مدى يمكن أن نصنّفه ضمن الأدب الإنساني في فن الرواية والشعر ؟ وهل يمكن ان نصنفه بالأدب الإسلامي ؟ ولماذا الروائيون العلمانيون هم الأكثر انتاجاً في أدب السجون بينما الإسلاميون وهم أكثر مكوثاً في المحن والسجون لم يكن لهم إلا النزر اليسير في هذا الأدب ؟

الجواب : إنني معك في تحفظاتك هذه ، فبينما نجد الإسلاميين هم الأكثر مكوثاً في المحن والسجون ، نجدهم في الوقت ذاته الأقل توظيفاً لخبراتهم المؤلمة في أعمالهم الأدبية الروائية والشعرية والمسرحية لعل ذلك يعود إلى أن معظم الذين زج بهم في السجون من الإسلاميين لم يكونوا من الأدباء وكل ما فعله بعضهم أنهم دوّنوا مذكراتهم بصيغة سير ذاتية تتحدث عما لاقوه في غياهب السجون على أيدّي الزبانية والطواغيت … ورغم أن ( السيرة الذاتية ) هي جنس أدبي متميز ، إلاّ أنهم في سيرهم تلك لم يفعلوا سوى أن سردوا خبرتهم بأسلوب أقرب إلى العمل الصحفي ، أو العرض التاريخي ، دونما أية لمسة فنية تنزاح بلغتهم عن استعمالاتها اليومية المباشرة … لقد أتيح لي أن اقرأ العديد من هذه المذكرات فلم أجد فيها ما يتمناه الناقد من اللمسات المترعة بالشفافية … بالنبض الشعري … وبقوة الخيال …

لكن تعميماً كهذا يجب ألا نسلّم به على عواهنه لئلا نقع بالخطأ ، فهنالك بالطبع استثناءات ليست بالقليلة يقدّم أصحابها فيها رؤية أدبية تعكس انطباعاتهم عما لاقوه في السجون ، من تعاسة وعذاب تفوق طاقة الإنسان على التحمل ، ولكنهم صبروا بقوة ايمانهم وخرجوا من الامتحان الصعب منتصرين … ويقف في قمة هؤلاء ولا ريب الدكتور نجيب الكيلاني ( رحمه الله ) في العديد من أعماله الروائية وأيمن العتوم ، وقد يليهما محمد الحسناوي ( رحمه الله ) والقرضاوي في معطياته الشعرية ، وأمينة قطب في مجموعتيها الروائيتين ( رحلة في أحراش الليل ) و ( نداء إلى الضفة الأخرى ) اللتين أتيح لي أن أكتب عنهما بحثاً نقدياً بعنوان : ( قراءة في مجموعتي حميدة قطب الروائيتين ) نشر ضمن كتابي ( محاولات إسلامية في النقد التطبيقي )

( دار ابن كثير ، بيروت – 2019م ).

وقد ذكرت في ذلك البحث أن ثمة ميزة فنية تحسب لمجموعتي ( حميدة ) هاتين فيما يمكن اعتباره إضافة نوعية لهذا الجنس الأدبي الذي اعتمدته صيغة للتعبير عن رؤيتها الابداعية : وهي ( القصة القصيرة ) التي تتواصل حلقاتها ها هنا ، وتمتد لحظاتها الزمنية ، غير منفصل بعضها عن بعض ، رغم أن ذلك لا يمنع البتة من التعامل مع كل حلقة منها كقصة قصيرة تنطوي على كل الخصائص الفنية لهذا النمط من الابداع.

ولكن ( حميدة ) تتجاوز هذا المركب على صعوبته ، فتضيف جهداً لا يقل صعوبةً ، فيما يجعل المجموعتين معاً تعكسان رؤية ملحمية ، وربما تراجيدية ، استهدفت تصميماً هندسياً مبتكراً تلتقي فيه القصة القصيرة بالملحمة ذات النبض التراجيدي.

وكيف لا تكون ” ملحمة ” لحظات الصراع المرير داخل السجون والزنزانات ضد الطاغوت ، الذي اعتمد منطق القوة والعنف والتعذيب والارهاق والتدمير النفسي والجسدي ، لأولئك الذين رفضوا الانحناء لكلمته وطمحوا لأن تكون كلمة الله هي العليا ؟

إن البطل ها هنا لا يصارع قوى ميتافيزيقية أو أقداراً عمياء تنصب عليه من

المجهول ، وترغمه على الانكسار ، كما عكست الملاحم والتراجيديات اليونانية … ولكنه يقف قبالة الطاغوت البشري الذي يسعى لاستلاب الإنسان الحرّ … لاستعباده من دون الله ، ولإفراغه في نهاية الأمر من محتواه البشري لكي ما يلبث أن يصير آل صمّاء تنفذ ولا تعترض بشيء … والبطل ها هنا يخرج منتصراً ، لأنه بقوة العقيدة التي كان يفتقدها أبطال الملاحم والتراجيديات العتيقة ، يملك القدرة على المجابهة ، والصبر ، والاحتمال حتى آخر لحظة … ويموت واقفاً إذا كتب عليه الموت …

فضلاً عن هذا فقد عكست محنة الإسلاميين مع السجون في جملة من أعمالي الروائية والمسرحية وبخاصة مسرحية ( التحقيق ) ذات الفصول الأربعة ، ومسرحية

( صرخة في وجه الطغيان ) ذات الفصل الواحد ، والعديد من قصائدي الشعرية في اثنتين من دواويني …

ولكن يبقى – كما تقول – أن الروائيين العلمانيين هم الأكثر انتاجاً في أدب السجون ، رغم أن ما تعرضوا له من اضطهاد وعذاب لا يبلغ عشر معشار ما تعرض له الإسلاميون … وعلينا جميعاً أن ننتبه لهذه المفارقة ، وأن نشمر عن ساعد الجد للاستجابة لهذا التحدي شعراً وروايةً ومسرحيةً وسيرة ذاتية …

السؤال السادس : من هو الأديب الحق ؟ ومن هو الناقد الحق ؟

الجواب : منذ تفتح الوعي على الحياة ، والرغبة المتأججة في التعرف على الأشياء واكتشاف سرّها ، كنت اقرأ قصص الأطفال بشغف عميق ، تلك التي كان يكتبها كامل الكيلاني ( رحمه الله ) وغيره ، كنت ارتشفها ارتشافاً … وانني لأتذكر جيداً ليالي الشتاء العميق والبرد والمطر … بيوتنا العتيقة الضيقة والأحياء القديمة ، والجمر المشتعل الممتزج بالدخان ، وساعات القراءة الجذلى في القصص وكتب المطالعة المدرسية والمجلات … ولم أكن أطالع السطور ، ولكني كنت اخترقها بشوق عارم لكي أعيش الحدث من الداخل … أصير شخصاً من شخوصه ، وحينذاك كنت أضحك معهم وأبكي معهم … اهتز وأنبض وأرتجف كما يهتزون وينبضون ويرتجفون.

بعدها ، ومع ازدياد قدرة العقل على المداخلة ، والإمساك بتلابيب الخبرات والأشياء ، صار الأدب يقدم لي أطباقاً من حلوى الفكر بعيداً عن مماحكات التجريد ، والجدل الذهني الخالص ، انما من خلال الوقائع والشخوص والمرئيات ، وهي تكتسي لحماً ودماً فتغدو أكثر دهشةً وأشد تأثيراً … أذكر أيضاً شيئاً ما لابدّ أن يتذكره أي شاعر من خلال خبرته الذاتية … يتذكره ، كل الشعراء والأدباء والفنانين الذين يجيئون إلى الحياة بحساسية مفرطة تجاه العالم والوجود … قبالة الكلمة وهي تئن وتتوجع … ازاء الأشياء والخبرات التي تنث روعةً وجمالاً … حساسية تكاد تصل بهم حافات السقم والمرض لأن فاصل الألم بينهم وبين العالم يكاد يغيب ، يتلاشى وتصبح جملتهم العصبية ، وجدانهم ، أجهزة استقبالهم الحسّي ، روحهم المتحفزة … مكشوفةً تماماً … مكشوفةً حتى لرفة عصفور أو صوت خفي لا يكاد يسمع ، ولكنه يصلهم ، يخفق في ضلوعهم ، ويقول لهم شيئاً كثيراً …

في حالة كهذه تصير الكلمة … التعبير … المعالجة الجمالية … المنفذ الوحيد للتخفف من العذاب ، أو ما يسميه أحمد شوقي ( الألم العبقري ) وهو يعني ما يقول … نوعاً من التطهر ( الكاثرسيس ) إذا استخدمنا عبارة أرسطو وهو يتعامل مع التراجيديات اليونانية.

أن تصير أديباً ليس خيارك ، ولكنه قدرك … مرغم أنت على أن تكون أديباً وإلا أكلك الهم وغدوت حرضاً وحطاماً …

بالكلمة يقوم أولئك الذين منحهم الله ( وصفة ) خاصة لا استطيع التعبير عنها … مزيجاً من الدهشة والحزن والفرح والعشق والبهجة والتوق لاكتشاف المجاهيل ، والرغبة القاهرة في تحويل هذا كله … إخراج هذا كله من تحت الضلوع وتشكيل لوحة أو نشيد أو قصيدة ، أو سيال من النثر مترع بالعفوية والنداوة والصدق.

تلك هي البدايات الأولى التي ينبني عليها المصير … ان شبكة معقدة من التأثيرات … منظومة من العناصر الفاعلة ترغم الإنسان على أن يكون أديباً … فلا تسل أحداً مرةً أخرى كيف كان هذا الذي كان ، فهي المملكة التي لا يُسأل الداخلون إليها لماذا دخلوا ؟!

قد تسألني – أخيراً – ما الذي يتحتم علينا فعله ، او بعبارة أدق : ما هي المواصفات التي يجب أن نتحقق بها إذا أردنا لأدبنا الإسلامي أن يحقق حضوره المؤكد في ساحة الآداب العالمية …

وسأجيبك بالإيجاز الذي يتطلبه حوار كهذا :

  • قوة الخيال.
  • قوة اللغة كأداة للتعبير.
  • التوتر الداخلي.
  • الخبرة الذاتية.
  • الخبرة المعرفية.
  • الخبرة الحرفية.
  • الالتزام الصارم في التعامل مع الزمن وتوظيفه …

ولطالما دهشت من أناس يريدون أن يصبحوا روائيين إسلاميين ولم يقرأوا روايتي غابريل ماركيز ( مائة عام من العزلة ) و ( خريف البطريق ) اللتين هزّتا العالم الأدبي بتقنياتهما المدهشة وتفردهما على مستوى اللغة والبنية الروائية … أو يطلعوا على أعمال همنغواي وديكنز وتولستوي ودستويفسكي وغيرهم من عمالقة الرواية العالمية ، أو يلتهموا أعمال نجيب محفوظ التهاماً بغض النظر عن اتفاقنا واختلافنا مع فكره ، فهو على أية حال مهندس الرواية العربية المعاصرة دون منازع.

كيف أبيح لنفسي أن اكتب القصة القصيرة ان لم أكن قد قرأت أعمال جيكوف الروسي وغاي دي موباسان الفرنسي وهيسة الألماني وادغار ألان بو الأمريكي وغيرهم من مهندسي القصة القصيرة في العالم ؟! أو أوغلت في قراءة أعمال يوسف إدريس ، مهندس القصة القصيرة في العالم العربي ، بغض النظر – مرةً أخرى – عن الاتفاق أو الاختلاف مع مضامينه ؟

وكيف أكتب سيرة ذاتية ولم اقرأ – على سبيل المثال – مذكرات بابلو نيرودا ، والطريق إلى الكريكو لكازا نتزاكي ، وهما اثنتان من أروع ما كتب من سير ذاتية ؟ وللأسف الشديد فان العديد من السير الذاتية التي كتبها الإسلاميون لم تكن بأكثر من ( عرض حال ) عمل تسجيلي لا ينطوي على أية رؤية انطباعية تتجاوز المنظور التاريخي الصرف إلى ما وراءه … وتعكس تأثير الحدث على نبض الكاتب وفكره ووجدانه … والسبب أنهم لقلة قراءاتهم في الجنس الأدبي الذي يكتبون فيه ، لم يمتلكوا زمام القدرة الحرفية على الأداء المؤثر والمدهش.

ولطالما تحدثت إلى طلبتي في العديد من الجامعات التي عملت فيها عن هذا الموضوع وقلت لهم إياكم ان يفكر أحدكم في كتابة رواية دون ان يهضم جيداً حرفيات الجنس الروائي ، أو أن يكتب مسرحية دون أن يكون قد قرأ لكبار الكتاب المسرحيين في العالم … وكثيرون – للأسف – هم أولئك الذين انجزوا اعمالاً مسرحية من الأدباء الإسلاميين وهم لا يعرفون شيئاً ، بل لم يسمعوا حتى بأسماء آرثر ميلر وتنيسي وليامز والبير كامو وجان جينيه وسالاكرو ويونسكو وأداموف وبرشت وديرنمات وتشيكوف وسويدنبرغ.

بل إن بعض أدبائنا يتأثم من قراءة الأعمال الغربية ، وعندما تعترض عليهم يكون الجواب المعلق على ألسنتهم : كيف نقرأ أعمالاً مترعةً بالفحش والتفكك والمجون ؟ ألا يقود هذا إلى الاحساس بالإثم والخطيئة ؟

ويكون جوابي هو نفسه دائماً : نحن نقرا للضرورة … لتعلّم التقنيات الفنية الأكثر حداثةً ، ونحن نتعلم ، نأخذ ما يفيدنا وندع ما لا يفيدنا ، وبعد أن نتقن حرفياتهم جيداً ندخل عليهم من بوابتهم نفسها لكي نقنعهم بقدرتنا على الأداء ، ونرغمهم على منح مساحة مناسبة لنا في خارطة الأدب العالمي … نحن محصنون – والحمد لله – بقوة ايماننا وفكرنا ، ولن يخشى علينا من الضياع …

أما بخصوص الشق الثاني من سؤالك : من هو الناقد الحق ؟ فتلك مسألة أخرى تحتاج إلى أن نفرش لها الصفحات الطوال ، وقد سبق وأن عالجتها في جملة من مؤلفاتي وبخاصة ( مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي ) : الفصل الرابع : المنظور النقدي ، وكتاب ( أشهد أن لا إله إلا أنت : سيرة ذاتية ) مبحث قناعات خاصة ، وكتاب ( حول ستراتيجية الأدب الإسلامي ) وكتاب ( ريبورتاج : حوار في الهموم الإسلامية ) وكتاب ( من يوميات الأدب الإسلامي ) وكتاب ( متابعات في دائرة الأدب الإسلامي ) وكتاب ( في النقد الإسلامي المعاصر ) وكتاب ( محاولات جديدة في النقد الإسلامي ) وكتاب ( في النقد التطبيقي ) وكتاب ( محاولات إسلامية في النقد التطبيقي ) وغيرهما … ولا أعتقد أن حوارنا هذا يتسع للمزيد من القول في هذا الموضوع المتشعب.

السؤال السابع : كيف نستفيد من تراثنا العظيم في مجال الأدب الروائي ؟ والرواية التاريخية ؟ بالاستفادة من التراث في التاريخ والأدب ؟؟

الجواب : إذا كانت مهمة التاريخ أن توثق بمنهجها العلمي هذا الجانب أو ذاك ، وهذه التجربة أو تلك مما عرفه تاريخ أمتنا عبر مسيرتها الطويلة ، ثم تسعى لتحليل هذه المعطيات الموثقة تحليلاً علمياً يبحث في الأسباب والارتباطات والنتائج … فانه يتحتم على الأدب أن يمارس مهمته التوثيقية ازاء التاريخ هو الآخر ، ولكن بلغته الخاصة … لغته التي تسعى إلى ما يشبه الاستعادة أو الأحياء ، من أجل عرض الخبرة التاريخية كما لو كانت تحدث الآن ، أمام أعيننا ، وتتخلق … وتكون …

إن المؤرخ ينظر من الخارج لكي يلمّ شتات الأحداث بعد أن وقعت واكتسبت ملامحها النهائية ولكن الفنان يتمعن من الداخل ويمد رؤيته إلى الأعماق … إلى الوقائع والشخوص والأحداث وهي تتخلق ، وتتفاعل وتلتقي وتفترق وتتشابك لكي تتشكل بهذه الصيغة أو تلك … إن المؤرخ يدرس الواقعة ولكن الفنان يعيشها ، من ثم فهو أقدر على حمل الطابع التأثيري لهذه التجربة ونقله للأجيال ، قديراً على أن يحركهم بها ، أن يكويهم بجمرها ، أن يدفعهم عبر الطريق إلى أهدافهم بشحناتها وكهربائها …

إن استمداد القيم التأثيرية من حقول التجارب والخبرات التاريخية الخصبة ، الواعدة بالعطاء ، هو صيغة من العمل الأدبي مارسها الكثير من الأدباء … وما أحرى الأدباء الإسلاميين أن يمارسوها ، ولاسيما وأن تاريخهم يعد أكثر من تاريخ أية

أمة في الأرض ، بالدفع والعطاء ، ولاسيما وأن الأمة الإسلامية المعاصرة ، لهي بأمس الحاجة بما لا يقارن مع حاجات أية أمة اخرى في الأرض ، إلى استلهام تاريخها فنياً ، لمجابهة عالم يسعى لأن لا يكون لها تاريخ على الاطلاق !!

وتاريخنا الإسلامي ، على امتداده في الزمن والمكان ، يقدّم لنا خبرات مترعة بالصدق والحيوية ، ولحظاتٍ مشحونة بدراما الحياة البشرية بكل ما تنطوي عليه من آلام وأحزان ، وأفراح ومسّرات … وهزائم وانتصارات … لحظات تمتد عمقياً لكي توغل بوهجها ولهبها في أعماق الإنسان ، وتمضي أفقياً لكي تطوي تحت جناحيها أمماً وجماعات وشعوباً …

وفي كل الأحوال يجد الأدب والفن الإسلامي فرصته الذهبية للتوظيف ، ليس باستعادة الواقعة التاريخية كما رواها المؤرخون في طولها وعرضها ، وانما بكسر قشرتها الخارجية والمضي إلى روحها ونسغها لكي نستنطقها ، فإذا بها تقول للأديب والفنان ما لم تقله للمؤرخ ، بكل تأكيد … وكما أن بمقدور الأديب والفنان المسلم أن يستمد من ” الواقع ” مادته الأساسية في بناء أعماله القصصية والروائية والمسرحية ، فان بمقدوره كذلك أن يمضي إلى ” التاريخ ” لكي يقف عند لحظاته المشحونة القديرة على منحه ما يريد … اننا في عصر الفضائيات التي أخذت تلتهم الأعمال الأدبية والفنية ( إذا صح التعبير ) وتتطلع للمزيد ، وعلى الأديب والفنان المسلم أن يلاحق هذا الذي تريده الفضائيات لكي تخاطب به ملايين المشاهدين …

ولكن الذي يحدث – للأسف الشديد – أن الأديب والفنان المسلم انسحبا من الساحة في معظم الأحيان ، وتركاها لأولئك الذين دخلوا على تاريخنا برؤية مهجنة ، حيث تمت عشرات ، وربما مئات من محاولات التزييف والتحوير والتزوير على حساب نبض هذا التاريخ وملامحه المتميزة فيما لم ينزل الله به سلطاناً …

وثمة مأخذ آخر يتحتم الالتفات إليه لدى أي حديث عن التوظيف الأدبي والفني للتاريخ … ذلك هو التكرار ، والنمطية ، والتمركز عند مراحل محددة من هذا التاريخ، وترك المساحات الأوسع المترعة باللحظات المشحونة التي إذا أحسن اختيارها فانها ستقدم أعمالاً متألقة … ومن منا لا يتذكر مسلسل ( ليلة سقوط غرناطة ) الذي أحسن مؤلفه ومخرجه اختيار اللحظة التاريخية التي لم تمتد إليها من قبل يد أديب أو فنان ؟ ومن منا لا يتذكر فيلمي ( الرسالة ) و ( عمر المختار ) اللذين اخرجهما مصطفى العقاد ( رحمه الله ) واللذين يعكسان رؤية في غاية الشفافية للجاهلي المتخلف ووحشية الغربي المتفوق في هذا العالم ، وإنسانية المسلم الذي يدافع عن أرضه وعرضه وشرفه ؟

ولا زلنا نشاهد بشغف بعض المسلسلات التركية المبدعة ذات النفس الإسلامي الأصيل من مثل : ( قيامة أرطغرل ) و ( قيامة عثمان ) و ( نهضة السلاجقة العظمى ) …

إن على أدبائنا الإسلاميين أن يشمروا عن ساعد الجدّ من أجل تجاوز هاتين الخطيئتين : عدم توظيف التاريخ ، أو محاولة اجترار حلقات محددة منه فحسب … وحينذاك ستشهد الشاشة الصغيرة التي يتحلق حولها ألوف المشاهدين وربما ملايينهم … دفقاً من الأعمال التي تعرف كيف تحترم نبض هذا التاريخ وخصوصياته ، وتفجر – في الوقت ذاته – كل مكنوناته التي تتجاوز الحركة في الطول والعرض وتمضي موغلةً إلى الأعماق …

وما دام سؤالك ينصب على كيفية الاستفادة من تراثنا العظيم في مجال الأدب

الروائي ، فلابدّ من تصعيد الحوار بين الأدب الإسلامي المعاصر والأصول التراثية لأدبنا العربي للإفادة القصوى من امكانات تلك النصوص ، والتجذّر أكثر في العمق الثقافي والحضاري للأدب الإسلامي … شرط أن يتم ذلك بأكبر قدر من المرونة والحرية في التمحيص والفرز والانتقاء والتقبل والرفض ، وشرط ألا يتحول المعطى التراثي بنتيجة الالحاح المتزايد على احترامه والأخذ عنه ، إلى دائرة القدسية التي قد تجعله يمارس نوعاً من المصادرة أو التسلّط القسري على العقل الأدبي الإسلامي المعاصر ، انما هو التوازن ، ها هنا أيضاً ، من أجل التوصل إلى أكثر صيغ الحوار بين الماضي والحاضر فاعلية وعطاء. ويمكن في هذا السياق تنفيذ عدد من الخطوات لتحقيق أكبر قدر من الافادة في توظيف العمق التراثي لصالح حركة الأدب الإسلامي المعاصر ، ويمكن أن تأخذ هذه الخطوات التسلسل التالي :

  • فرز وفهرسة المعطيات الأدبية التراثية التي ترفد ( الإسلامية ) شعراً ونثراً ، ودراسةً ونقداً … الخ … لأن هذا الجهد سيضع بين أيدي الباحثين المادة التراثية الجاهزة لأغراض التحقيق والدراسة.
  • تحقيق النصوص والمقاطع المهمة ، التي لم تنل نصيبها الكافي من التحقيق والاهتمام.
  • دراسة وتحليل الأعمال النثرية التي لم تنل اهتماماً كافياً ، فإذا كان الشعر في بعض مراحله قد لقي اهتماماً كهذا ، فان أعمالاً مثل بعض مؤلفات الجاحظ أو التوحيدي ، ونصوصاً ابداعية مثل مقامات الحريري أو الهمذاني أو ألف ليلة وليلة أو بعض السير الشعبية … إلى آخره … تنتظر من يعكف على دراستها في ضوء الإسلامية لمعرفة ما يمكن أن تقدمه في هذا المجال ، لاسيما وأنها تعكس بعداً اجتماعياً لم تكد تمسه البحوث التاريخية إلا إلماماً …
  • متابعة السياق النقدي لتراثنا الأدبي ، والتأشير على مدى ارتباطه أو انفصاله عن الإسلامية.
  • فحص طبيعة العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وبين الدراسات الأدبية التراثية.
  • إقامة ندوات وفتح ملفات خاصة في عدد من المجلات المعنية لمعالجة هذه الظاهرة ، أو تلك في تراثنا الأدبي ، من مثل : ” التراث الأدبي الصوفي وصلته بالإسلامية ” و ” علاقات الأخذ والعطاء بين التراث الأدبي العربي وآداب الأمم الأخرى ” و ” امكانات توظيف التراث في أنشطة الأدب الإسلامي المعاصر ”
  • و ” مناهج المستشرقين في دراسة التراث الأدبي العربي ” و ” السيرة الذاتية في تراثنا الأدبي ” و ” مناهج تدريس التراث الأدبي في جامعاتنا “. و ” بلورة وبناء منهج إسلامي في دراسة تاريخ الأدب ” و ” المرأة في تراثنا الأدبي ” و ” الطفولة في تراثنا الأدبي ” و ” ملامح المجتمع المسلم في تراثنا الأدبي ” و ” التراث الأدبي والسلطة ” … الخ …

إن التجذّر في التراث ليس ترفاً أو اختياراً ، ولكنه قدر كل فاعلية ثقافية تسعى لأن يكون لها مكان في العالم ، وثقل على خرائطه ، من خلال تشبثها بالشخصية المتفردة والملامح ذات الخصوصية والاستهداء بمعطياته ، جنباً إلى جنب مع الأصول العقدية التي تشكل قاعدة العمل الأساسية ، وبوصلة الانطلاق في بحار الدنيا …

وبقدر تجربتي الشخصية في توظيف العمق التراثي في أعمالي الابداعية فقد أنجزت روايتين وثلاث مسرحيات من ذوات الفصول … فأما الروايتان فهما

” السيف والكلمة ” و ” مذكرات جندي في جيش الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ” وأما المسرحيات الثلاث فهي ” المغول ” و ” التحقيق ” و ” الهم الكبير ” … وقد سعيت فيها جميعاً إلى التعصير من أجل إحياء الموقف التاريخي ، واختراق البعد الوجداني والإنساني الذي صاغه …

قلت في تصديري لمسرحية التحقيق التي تحكي عن مأساة المسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر معاقلهم هناك وذبح المقاومة الإسلامية في جبال البشرات بأقصى صيغ القهر والوحشية : ” في الزمن السيئ الذي يرمى فيه المسلمون ، كذباً وزوراً ، بداء الغرب المزمن : الارهاب ، واغتيال الحرية ، وذبح حقوق

الآخر ، وسحق المغلوب … ليس ثمة افضل من إعادة فتح ملفات التاريخ لكي يرى الغربيون بأم أعينهم من هو الارهابي في هذا العالم ، ولكي يستعيد المسلمون المنهزمون الثقة بالقيم الإنسانية النبيلة التي جاء دينهم العظيم لكي يحميها من الاغتيال “. وقلت في تقديمي لمسرحية ( المغول ) التي تحكي عن مقاومة الموصل الفريدة للغزو المغولي وخروجها منهزمةً بالمكر والخديعة والخيانة وذبحها من الوريد إلى الوريد : ” … قد يتساءل المرء ها هنا : ماذا ؟ لقد انكسرت الموصل وهزم قائدها ( الملك الصالح ) وأعدم هو وابنه الصغير … لقد انطوى البطل وهو يجابه تحدياً أكبر منه بكثير فأين المغزى ؟ والمغزى يكمن ها هنا بالذات … ففي تاريخ البشرية ، وفي تاريخنا نحن بالذات لحظاتٍ من التوّهج ، قد تمتد اضاءاتها وقد تقصر ، وهي على كل الأحوال ستنتهي – كفعل تاريخي – إلى الانطفاء … ليس ثمة دوام في حركة التاريخ ، انها ( المداولة ) التي تحدث عنها كتاب الله … التحول الدائم من صيغة لأخرى … حكاية المسلسل الذي لا ينتهي من التوّهج والانطفاء … وما دام الأمر كذلك فيكفي أن تشتعل الارادة البشرية ، أن يرد على التحدي وأن يستجاب لأمر الله : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }( غافر : 77 ).

إن ما حدث للموصل والمصير المفجع الذي انتهى إليه ملكها ( الصالح ) يحدث اليوم ولسوف يحدث غداً ، إنها دراما كل زمن مسلم وكل مكان … قد تنتهي المقاومة بالانتصار وكثيراً ما تحقق الوعد وقد تؤول إلى الاندحار ، ولكن شرف الإنسان المسلم يظل – مع استكمال الأسباب وليس قبلها بحال – فوق احتمالات الربح والخسارة ، ان مداه أوسع بكثير وأبعد بكثير لأنه مستمد من كلمة الله الباقية … لقد انطوت صفحة الرعب المغولي وخرج الإسلام نفسه منتصراً بعد إذ طوت ارادته المغول … ولم يكن بمقدور الضمانات الجزئية والتفريط بالشرف أن تصنع الانتصار … لقد صنعه والحق يقال كل الذين ضحّوا من أجل ألاّ ينحني هذا الدين لأية وثنية في العالم.

أما رواية ( السيف والكلمة ) التي اعتبرها واحدةً من أكثر أعمالي نضجاً فنياً ، فقد صدرها الناشر بالعبارات التالية ” عن عراق الورّاقين ومدارس العلم ، عن عراق المستنصرية والطلاب الشغوفين في سبر العالم وما خلفه … عن عراق عبد القادر الجيلاني وشيوخ التصوّف الموحّدين … من خلال العراق الذي يغزوه هولاكو قائلاً مدمراً صرح الحضارة والعلم ، نرى ملامح العراق اليوم الذي يتعرض للمحنة مرةً أخرى … بهذه الروح يكتب عماد الدين خليل هذه الرواية الملحمة التي في كل أجوائها تستمد من التاريخ ما يعين على قراءة حال العراق اليوم ، الذي يتعرض مرةً أخرى للغزو ولحرب فتنةً تهدد بأبشع الخراب … وكما يقول الفيلسوف الايطالي بنيديتو كروتشه ” فالتاريخ كله تاريخ معاصر “.

لقد حاولت في هذه الرواية ما وسعني الجهد أن أنجز عملاً يضيف قيماً فنية جديدةً ، وأركز على العبارة الأخيرة لأن الأدباء الإسلاميين بحاجة إلى هذه … إلى الاضافة الفنية التي لا يوليها الكثيرون منهم – للأسف – الاهتمام الكافي.

تحاول الرواية توظيف الغزو المغولي لبغداد من خلال تنامي الحدث عبر أربعة أصوات وبضمائر متغايرة يغيب فيها الراوي تماماً ، وذلك في محاولة لتنفيذ معمار أكثر حداثةً في العمل الروائي الإسلامي … لقد تم كسر حاجز الزمن وتسلسله الرتيب ، ولكنه لم يغيّب ، كما يحدث في بعض أعمال الحداثة الروائية في الغرب. إنه حاضر في نسيج السرد وليس من الضروري أن يكون هذا الحضور كعقرب الساعة الذي يدور على نفسه ويظل يدور. إن الزمن الروائي في ( السيف والكلمة ) يماثل سيرورة الزمن الموضوعي في شكل أفقي.

الرمز وظف هو الآخر في ( السيف والكلمة ) ، ليس رمزاً تجريدياً على أية حال ولكنه مكسوٌ لحماً ودماً … إن الأبطال المحوريين الأربعة في الرواية هم في حقيقتهم رموز مجسدةً لقوى الإنسان في مجابهة المصير … شخوص تعيش الحياة ، وتنبض بالهم والوجع ، وتأكل وتتنفس وتصارع وتحلم وتتعثر وتقوم : العقل والروح والوجدان ، كلهم يؤول إلى الضياع في نهاية الأمر ، لأن الموقف الأحادي قبالة المصير محكوم عليه بالهزيمة ، ليس بصيغة مجابهة غير متكافئة على الاطلاق ، يتحكم فيها القدر بخناق الإنسان ، ويسحقه ، كما هو الحال

في التراجيديات اليونانية ولكن بصيغة اختيار قد يكون خاطئاً وعلى صاحبه

– من ثم – أن يتحمل نتائج عمله.

هذا المنظور الفني الصرف يعكس معادلاً موضوعياً إسلامياً حرية الإنسان ، والعدل الإلهي المطلق الذي يرتب الأسباب على المسببات. اننا بأمّس الحاجة إلى قيم تعكس حالتنا الإسلامية بكل مفرداتها وحلقاتها … تعكسها جمالياً ، وليس عبر مقولات العقل الخالص ، وهذه هي مهمة الأدب. ومن هنا يمكن للمرء أن يدين العديد من الأدباء الإسلاميين الذين لا يولون اهتمامهم للجانب الفني ويرمون بثقلّهم صوب المضمون. انهم في هذه الحالة لا يكادون يفعلون شيئاً إذا أردنا أن نحاكمهم إلى مطالب الجنس الأدبي وليس إلى الخطابة أو التاريخ أو الإعلام.

مهما يكن من أمر ، فان الذي ينتصر في ( السيف والكلمة ) هو واحد فقط من بين أربعة شخوص طوتهم المجابهة الصعبة … لماذا ؟ لأنه استطاع أن يتجاوز أسر الأحادية وأن يتحقّق إنسانياً وفق مطالب الشخصانية الإسلامية التي نادى بها هذا الدين.

حاولت أيضاً أن أوظف الجغرافيا والتاريخ قدر ما أطيق … لقد درست بإمعان جغرافية بغداد بأحيائها ودروبها وجسورها وأسواقها ومدارسها وملاعبها وحوانيتها … الخ درست أيضاً تاريخ بغداد لحظة الغزو المغولي … عادات الناس وتقاليدهم وطبائعهم وأزياءهم وطعامهم وشرابهم … جدّهم وهزلهم … خفقانهم الاجتماعي هنا وهناك … لم أرد طبعاً أن أكتب عن تاريخ بغداد وجغرافيتها ، ولكن جعل الفضاء الروائي أكثر صدقاً فنياً … كان علي أن أعرف حتى مقالات المتصوفة ، يومها ، وتقاليد العلماء والطلبة والدارسين.

استعرت من ( الآخر ) بعض الخبرات الفنية … ولم لا ؟ ما دام الهدف هو توظيف التقنيات لانضاج عمل فني يطمح أن يكون إسلامياً ؟ ويمكن أن أشير هنا إلى واحدة من تلك الخبرات : ضمير الشخص الثاني الذي اعتمده الأديب الفرنسي المعاصر ( ميشيل بوتور ) والذي يقول عنه أنه يؤدي دوراً سحرياً ، وأنه يدعو القارئ إلى المشاركة بنشاط في حركة القصة … والحق أنني وجدت هذا الضمير ليس تنويعاً فحسب لضمائر الشخوص في ( السيف والكلمة ) ولكنه فضلاً عن ذلك ، فرصة مناسبة تماماً للمناخ الدرامي ، والمتوتر ، والسريع ، الذي كانت الشخصيات الأساسية تعيشه.

لقد تعامل ( المؤرخ ) مع الغزو المغولي من الخارج ، وهو لا يتابع الدقائق والتفاصيل ، ولا يحاول النفاذ إلى العمق الإنساني للواقعة التاريخية ، وانما يكتفي برسم الهياكل الخارجية لها في حين نحن بحاجة إلى رؤية الفنان لكي نسبر انعكاسات الحدث على النفس البشرية في أزقة بغداد ودورها وأحيائها ومساجدها وأسواقها وملاعبها ومكتباتها … لقد حاولت الرواية أن تقدم انطباعاً مأساوياً للاجتياح المغولي لبغداد ، وأن تومض من وراء الحزن والانكسار بسبل النهوض والخلاص.

ولقد حاولت أن أقيم معمار الرواية وفق صيغة رباعية الأدوار والأصوات ينمو فيها الحدث عبر نقلات أربعة لزاوية الرؤية ومن خلال فعل وتداعيات أبطال أربعة وهم يشاركون في صناعة الوقائع والأحداث ، ويغرقون في تيارات وعيهم الباطن ، ويدخلون سيلاً من المنولوجات التي تعكس رؤيتهم الانطباعية لتلك الوقائع والأحداث … وهم ينطلقون منذ اللحظات الأولى كل من اختياره الحرّ لكي ما يلبث أن يجتاز شبكة من الدروب والصدمات والخبرات يجاهد كي يجعل خياره قديراً على تجاوزها بنجاح ، ولكنه ينهزم في نهاية الأمر لأنه رمى بثقله صوب نقطة ارتكاز واحدة في الكينونة البشرية.

إنها دراما الصراع بين العقل والروح والوجدان والجسد ، ولن يقدر لأحد فيها الخلاص إلا من خلال بذل جهد استثنائي للتحقق بالوفاق وذلك ما تومئ به شخصية البطل الرئيسي.

والرواية بتداخل أصواتها قابلةً للتفكيك ، وسماع كل صوت منفرداً … وهي في

هذه الحالة تتابع تنامي الحدث ولكن بصيغة ميلودية مسطحة … والمطلوب تعامل هارموني ينصت للأصوات جميعاً لكي يكتشف من وراء التغاير – وربما التنافر – توافقاً لا نشاز فيه ، يقود الأشخاص والوقائع والأشياء إلى مصائرها.

السؤال الثامن : بعد مسيرة تجاوزت النصف قرن في خدمة الأدب والنقد هل أنت راضٍ عن مسيرتك الأدبية ؟ وهل حققتم كل ما كنتم تطمحون إليه في هذه الرحلة الأدبية متعكم الله بالصحة والعافية ؟

الجواب : على مدى ستين عاماً من الكدح المتواصل في سياق الأدب ؟ دراسةً وتنظيراً ونقداً تطبيقياً وأعمالاً ابداعية في المسرح والرواية والقصة القصيرة والشعر وأدب الرحلات وأدب الحوار والسيرة الذاتية وأدب المقالة ، أنجزت ما يقرب من الخمسين مؤلفاً أتيح لمعظمها النشر ( في دار ابن كثير ببيروت ) ، ولقيت قبولاً حسناً – بتوفيق من الله جلّ في علاه – من القّراء ومن الدوائر الأكاديمية التي منحتها العديد العديد من شهادات الماجستير والدكتوراه ، ومن الجامعات التي أقرّتها في مناهجها التدريسية … ومن مؤسسات الترجمة التي نقلتها إلى العديد من اللغات الإسلامية والأجنبية ، ومن حشود الباحثين والدارسين الذين انجزوا عشرات البحوث عنها … والحمد – أولاً وأخيراً – لله سبحانه وتعالى الذي منحني القدرة على مواصلة الطريق … وبذلك حققت الكثير مما كنت أطمح إليه وأترك الحكم عليه للقراء والنقاد والدارسين.

وإليكم قائمة موجزة بحصاد العمر في سياق الأدب بفروعه كافة :

4 مؤلفات في الدراسة الأدبية والفنية.

5 مؤلفات في التنظير.

3 مؤلفات في النقد التطبيقي.

9 أعمال مسرحية.

3 أعمال روائية.

3 مجموعات من القصة القصيرة.

ديوانان شعريان.

كتاب واحد في أدب الرحلات.

5 مؤلفات في أدب الحوار.

كتابان في السيرة الذاتية.

13 كتاب في فن المقال.

لقد تلّبس تكويني النفسي بمرور الوقت نوع من القلق الممضّ ، من التشتت والتبعثر، من الاحساس بالملل واللاجدوى ، عبر كل زمن مستقطع من وقت الكتابة … أكثر من هذا : احساس مرير الطعم بالندم ، بأنني أمارس تفريطاً بواجب ما ، بمهمة هي أكثر ضرورة وإلحاحاً من أية ممارسة أخرى … كانت الحياة خارج دائرة الكتابة قلقاً وبؤساً وتسطحاً وتشتتاً … أشياء وخبرات نفقد طعمها بالمرة … وكان الهاجس يدق في جملتي العصبية كناقوط الماء … أكتب وأكتب وأكتب فان ساعات الكتابة يجب ألا تذهب أو تعطى لأي شيء آخر على الاطلاق … ويوماً بعد يوم كان الانجاز هو الداء والدواء … وكنت أغادر المكتب بعد ساعات العمل تلك وأنا أحس بسعادة غامرة يصعب وصفها … بامتلاء نفسي عجيب … بإحساس مترع بالأمل والجدوى ، وبتذوق شهي لطعم الأشياء والخبرات … عندها فقط كانت أقل متعةً … أبسط هواية … أتفه ممارسة تسعدني وتملؤني بالغبطة.

بدون الكتابة ما كنت سعيداً على الاطلاق ، ولكن هذه السعادة … هذا الاحساس الغامر بالفرح ما كان يجيئ إلا بعد معاناة تبلغ أحياناً حد أن أرغب في الفرار بعيداً … اليوم الذي أتحرّر فيه من الأسر واستعيد فيه نفسي ، أو بعبارة أخرى أعيد ترتيب حياتي بصيغة أخرى تماماً … قد تسألني والنتيجة ؟ ويجيئ الجواب : انني وبمرور الأيام وجدت طريقي في الكلمة نفسها … التقيت بفكاكي من الأسر على المكتب نفسه …

وبدون الإمساك بالقلم ومواصلة العمل فان الحياة قد لا تستحق أن تعاش.

وسوم: العدد 961