قال : ولكني أفقد جليبيبا ...

قال له ربه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ويحار المتأمل بأي وجه من وجوه العظمة يحيط ..

قال محدثي : وعشت عمري عضوا في " أخوية " تقول إنها على النهج . وكنت في فضائها كنفا وموئلا ومعينا ورديفا وحمال أعباء .. ثم مرت السنون ، ودخل عليّ ما يدخل على الناس من السن والوهن ورقة العظم والضعف وقلة الحيلة ..

فصرت أتذكر وأتأمل وأتلوم وأترصد الفرصة لأسمع ممن كنت أظنهم وأخالهم كلمة : سلام فقد صار كثير من الذين عرفتهم وألفتهم : يسألون من ذا ؟ وكأنهم ما عرفوني !!

وصرت في ذكر شجوي وحسرتي مثل الخنساء أغني

يذكرني طلوع الشمس صخرا .. وأذكره لكل غروب شمس . وشرّق وغرّب بي قطار التذكر والذكرى حتى حط بي عند قصة جليبيب والمرأة قمّامة المسجد في عهد رسول الله فوجدت فيهما رضي الله عنهما ، عزاء وسلوى

وكان جليبيب واحد من مستضعفي الصحب الكرام ، فلم يكن له شيء مما يتفاخر به الناس حتى اليوم ،.. ولكن صاحب الخلق العظيم اعتد جليبيبا على نحو لم يعتده به من حوله من الناس .

أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جليبيبا يوما لحي من الأنصار ليزوجوه كريمة لهم ، فردوا على رسول الله حطبته ، وقالوا : صلى الله على رسول الله أما اختار لنا غير جليبيب ؟!!! وسمعت الفتاة حديث أهلها من وراء خدرها ، فاستنكرت على أوليائها أن يردوا على رسول الله خطبته ، فقالت زوجوني بمن اختاره لي الرسول الكر يم فزوجوها ..

ومرت الأيام ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، بعد غزاة له ، يحصون من أصابوا وبمن أصيبوا حتى انتهوا .. ثم التفت إلى أصحابه فسألهم : هل تفقدون من أحد ؟ يعني هل تفقدون أحدا من رجالكم الذين كانوا معنا في هذه الغزوة ، وخاضوا معنا هذه الحرب ؟؟ فقالوا : لا .. لا نفقد أحدا ... قال الرسول العظيم صاحب الخلق العظيم : ولكني أفقد جليبيبا !! أفقد هذا الرجل الذي لا تأبهون له ، ولا تكادون تحسون بوجوده ..!! قوموا فالتمسوه ، وقاموا فالتمسوه فإذا هو قد أصاب سبعة من الأعداء ثم استشهد .. رضي الله عنه

ولقصة الفتاة التي تزوجت جليبيبا بقية يمكن للفتيات أن يلتمسنها فهن بها أولى .. وإنما سأستمر في درس السياسة في الحديث عن عظمة العظيم صلى الله وسلم عليه ..

قالوا : وكانت امرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تقُم المسجد . أي تكنس المسجد ، وتزيل ما يُسقط فيه الناس من القذى ، نوع من الخدمة التطوعية ، التي نذرت نفسها لها بلا تكليف ..

ثم غابت هذه المرأة عن عين رسول الله فافتقدها وسأل عنها .. هل تعلمون معنى هذا ؟! هل تشرح هذه الرسالة للمقصودين بها أمرا ..؟! رسول الله العظيم صاحب الخلق العظيم يتفقد أمر قمّامة المسجد ، وربما قمّت مسجده عامين أو ثلاثة ..وليس نصف قرن أو يزيد

وقد كان لقمّامة المسجد هذه مكانتها في عقل النبي العظيم وقلبه حتى يفقدها حين تغيب ، ثم يسأل عنها : ما فعلت فلانة ؟! رسالة إلى الذين عن إخوانهم لا يسألون : ما فعلت فلانة ؟! قالوا يا رسول الله ، ماتت ، وواريناها يعني دفناها .. قال : فهل آذنتموني ، أي أعلمتموني لكي أشهد دفنها وأقوم على قبرها فأستغفر لها !!

كانوا رضي الله عنهم يرون أمرها وهي الضعيفة المستضعفة أقل من أن يهتم به النبي العظيم . فهي من الذين واللواتي ، يقال فيهم : من هذا ؟!!! وفيهن : من هذه ؟!!!

حاولت أن أجيب صاحبي الذي كان يحكي لي مترسلا ، والذي كنت شاهده على كل ما قال .. وعايشته مع كل ما حكى

فوضع يده على فمي ، وقال أرجوك ..

وأقول : أرجوكم ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 868