أنا وعمتي وألبير كامو .. والطاعون

وقرأت كثيرا عن وقائع الطاعون في كتب التاريخ . وقرأت عن جثث الموتى تملأ الشوارع لا تجد من يواريها . وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يمكن أن تسمع ابن كثير صاحب البداية والنهاية يقول : وفيها - أي وفي السنة التي يؤرخ لها ، وقع طاعون في بلدة كذا ، أو في ناحية كذا ثم يدخل في وصف عالم الطاعون الرهيب .

في طفولتنا أخذنا لقاحا ضد الجدري قبل أن ندخل المدرسة . كان الجدري يشكل تهديدا حقيقيا . وكان لنا أقارب ولدات في الصفوف المدرسية قد أصيبوا به . ورأينا أثر مخالبه على وجوههم الغضة !! وكان بعضنا ... وكانوا هم ..

في شبابنا قيل إن وباء الكوليرا قد انتشر في سورية . كانوا قد سموه لنا في كتب العلوم مرض " الهيضة " . هكذا عربه المعربون . الهيضة بالهاء قبل الضاد ، وليس بالحاء . وعندما قيل إن المرض قد انتشر في سورية توجهنا لأخذ اللقاح .

وغير ما قرأته في الكتب وعشته من حديث عن الجدري والهيضة ، لم نمر بمثل هذه التجربة التي نمر بها هذه الأيام ..

غير أن عمتي حدثتني أن عمتها توفيت بوباء مخيف كانت عمتي تسميه " الهوا الأصفر " ، وحسب التقديرات الزمنية بجب أن يكون هذا الوباء قد ضرب حلب أو سورية لعقد أو عقدين خلون من القرن العشرين أي قبل قرن من الزمان ...!! أي علاقة تبدو لكم إذا قلنا 1920 ، ثم 2020 . لا أؤمن بعلم النجوم ولكن لا أعتبرها صدفة أن الانقلاب على جمال عبد الناصر في سورية وقع 28 إيلول وأنه مات في 28 إيلول .. هناك شيء في إدارة العالم لا نفهمه ..!! تحدثت عمتي عن أن موتا كبيرا قد وقع بين الناس في ذلك الوباء . وإذا صح تقديري الزمني فهو قد وقع بعد الحرب الكونية الأولى ، ووقع وفرنسة تحتل سورية . بالمناسبة كلمة " وبا " دارجة على ألسنة أهل حلبي ، كدعوة سلبية أو كشتيمة . وإذا ركبوها في جملة مفيدة قالوا " وبا يقشو " أي يأخذه أو يجرفه ..

مما تبقى في ذهني من مطالعات عن الطواعين رمزية الكاتب الفرنسي ثم الجزائري ألبير كامو . " الطاعون " . الرواية التي تجري أحداثها في مدينة جزائرية أظنها وهران . وهي رواية حائزة على جائزة نوبل للآداب ..

ربما أعجبتني رواية الغريب للأديب الوجودي نفسه أكثر من رواية الطاعون . رواية الطاعون موحشة ، وكئيبة . وقرأتها وأنا شاب فسببت لي الكآبة . طبيب يحاول أن يجد العلاج ... وأنا من مختلف الطبقات وأكثرهم فقراء وعاجزون يموتون ..!!

أكثر شيء يلح على ذاكرتي من قراءة عمرها خمسون سنة من طاعون كامو ، المتخيل ، هو انتشار الجرذان في ليل المدينة كمقدمة لانتشار الطاعون . ومع أن العلاقة بين الجرذان والطاعون علمية مباشرة ؛ إلا أنني أحب أن أفهمها علاقة رمزية. وأن أعيد تقرير ما قرره كامو من قبل : أن انتشار الجرذان حول العالم ، بل سيطرة الجرذان على العالم ، هي التي مهدت لانتشار كرونا المخيف ..

ألبير كامو لم يكن وجوديا عبثيا فقط بل مات منتحرا ، يقال صدم سيارته بشجرة ، ويقال إنه كان يحب الجزائريين ومتعاطفا مع قضيتهم . ويبقى أن تسأل أي إبداع تفجر في داخله حين ربط انتشار الطاعون بانتشار الجرذان واختفاء الطاعون باختفاء الجرذان ..

فمتى تختفي كرونا من عالمنا بل متى تختفي الجرذان !!

الله لطيف بعباده ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 868