الدنيا كبلل أصبع سرعان ما يتبخر

د. محمد رشيد العويد

هل تشعرين بالحزن ، أختي المسلمة ، إذا طارت من بين يديك ورقة بيضاء صغيرة لا قيمة لها عندك ؟

هل تتحسرين على مغادرة جارة لك البلد نهائياً ، بسبب هجرتها إلى بلد آخر ، إذا اكتشفت أنها كانت تكرهك وتكيد لك ؟

هل تتمسكين ببيت قديم كثرت الأعطال في مرافقه الصحية ، وتشققت جدرانه حتى آلت للسقوط ، وانتشرت فيه الصراصير والحشرات المؤذية الضارة ؟

إذا كانت إجابتك عن الأسئلة الثلاث السابقة هي : لا ، فينبغي أن تكون إجابتك (( لا )) أيضاً عن سؤال : هل تستحق الدنيا أن تحزني من أجلها ، وتتحسري عليها ، وتتمسكي بها ؟

لقد أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيمة الحقيقية للدنيا ؛ القيمة التي تجعلها غير مستحقة لتحزني عليها ، وتتحسري من أجلها ، وتتمسكي بها .

يقول صلى الله عليه وسلم (( ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غُمِس في البحر من مائه )) حديث صحيح أخرجه الطبراني عن المستورد ومسلم في صحيحه ( الألباني 5522 ) .

وفي رواية أخرى (( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم ، فأدخل إصبعه فيه ، فما خرج منه فهو الدنيا )) ( الألباني 5547 ) .

هل تأملت ، أختي المسلمة ، كم هي ضئيلة نسبة الدنيا إلى الآخرة .

إذا قلتِ إنها تكاد أن تكون لا شيء فأنت محقة ، فكم يمكن لإبرة الخياطة أن تأخذ من ماء البحر الواسع الكبير العميق ؟ أليس (( لا شيء )) ؟

وكذلك في الحديث الثاني : ماذا يمكن للإصبع أن يأخذ من ماء البحر ؟!

لو قال صلى الله عليه وسلم : أن يدخل كفه لربما خرج أحدنا بشيء من ماء البحر ، أما الإصبع فإنه لن يستطيع أن يحصل على شيء . إنه يبلل إصبعه فقط .. إذن فإن الدنيا إلى الآخرة لا تتجاوز بللاً إلى ماء البحر كله .

وتأملي ، أختي الغالية ، في هذا البلل : إنه سرعان ما يتبخر ويجف .. مثل الدنيا سرعان ما تمضي أيامها ، وتتبخر سنواتها ، وتجف لذّاتها .

إنها بلاغة نبوية تعطي الدنيا قدرها الحقيقي ، قدرها الذي لا تستحق معه ما نعطيها من اهتمام وما نوليها إياه من حب وتعلق وسعي .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( مالي وللدنيا ! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها )) . أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم .

هذا تصوير بليغ آخر لهوان الدنيا وهوان شأنها عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه دعوة لنا لتهون الدنيا عندنا كما هانت عنده صلى الله عليه وسلم .

كم يدوم مكث الراكب المسافر حين يستظل تحت شجرة ؟ أليست دقائق قليلة قبل أن يمضي ويواصل سيره إلى غايته التي يسافر إليها ؟

هل يمكن لهذا الراكب أن يبني بناء في ظل هذه الشجرة ؟! أم تراه يحفر بئراً من أجل أن يستخرج منه ماء يشرب منه ؟! أم يحرث الأرض ويزرعها ؟ إنه لن يفعل شيئاً من هذا ، لأنه إنما أراد أن يرتاح قليلاً قبل أن يستأنف رحلته إلى بلده .

وهكذا ينبغي أن تكون الدنيا ، إنها محطة ، محطة قصيرة ، في الطريق إلى الآخرة ؛ حيث الخلود الأبدي الذي ينبغي أن يبقى هو الغاية الكبرى ؛ فلا يشغلنا عنه هذا التوقف القصير في ظل تلك الشجرة .

ولعل هوان الدنيا يتأكد حينما لا يرغب مغادِرُها في العودة إليها حتى وإن أُعطي جميع ما فوقها ؛ كما يخبرنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح التالي :

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ما على الأرض من نفس تموت ، ولها عند الله خير ، تحب أن ترجع إليكم ولها الدنيـا ؛ إلا القتيـل في سبيـل الله ؛ فإنـه يحب أن يـرجع فيـقتل مرة أخرى ، لما يرى من ثواب الله له )) أحمد والنسائي ( الألباني 5638 ) .

إذن ، لا تريد النفس المؤمنة أن تعود إلى الدنيا حتى ولو كانت لها الدنيا جميعها ، وهذا يشير إلى أن ما وجدته من خير عند الله سبحانه وتعالى خير عظيم وكبير ولذا فهي لا تتخلى عنه حتى مقابل الدنيا وما فيها .

ولم يستثن النبي صلى الله عليم وسلم إلا الشهيد ، لكنه استثناء يؤكد هوان الدنيا ، لأن الشهيد لا يريد العودة إلى الدنيا للاستقرار فيها إنما ليقتل من جديد في سبيل الله تعالى طلباً لنيل المزيد من الثواب الذي وجده بعد استشهاده عند ربه سبحانه .

وهذه رواية أخرى للحديث تؤكد المعنى نفسه : قال صلى الله عليه وسلم (( ما من الناس من نفس مسلمة يقبضها ربها ؛ تحب أن ترجع إليكم ، وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهداء ، ولأن أُقتل في سبيل الله ، أحب إليًَ من أن يكون لي أهل الوبر والمدر )) أحمد والنسائي ( الألباني 5684 ) .

إن استحضارك ، أختي المسلمة ، هذا القدر الحقيقي للدنيا ، كما عرّفنا به النبي صلى الله عليه وسلم ، يمنحك ما يلي :

عدم الأسى على فوات نعيمٍ فيها ، أو متعة من متعها ، أو حاجة من حاجاتها .

قصر الأمل في الدنيا يعينك على إحسان العمل للآخرة ، لأن طول الأمل في الدنيا هو الذي يشغل عن العمل لما بعد الموت ، ويلهي عن الاستعداد للآخرة . قال الحسن : ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل . وقال بعض الحكماء : الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين .

يسهّل عليك مسامحة الآخرين وعلى ألا تحملي عليهم في قلبك غلاً ولاحسداً ولاضغينة ؛ ذلك أنك ترجين ما عند الله تعالى ، وترين أن الدنيا بقصرها وقلة متاعها لا تستحق أن تؤاخذي الآخرين من أجل بعض ما فيها . قال الله تعالى (( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ، ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون )) الجاثية

وسوم: العدد 875