شاعر الإسلام محمد إقبال

أ. د. أحمد حسن فرحات

والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون مالايفعلون، الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات......

وبعد:

فهذا شاعر من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يفعل ما يقول، ولا يهيم في كل واد.

وإنما هو شاعر ثائر، وفيلسوف حكيم، ومصلح كبير، وقد أحببت أن يكون هذا النابغة موضوعا لمقالي لأنه شاعر الحب والطموح والإيمان، وأشهد اني كلما قرأت شعره جاش خاطري، وثارت عواطفي، وشعرت بدبيب من المعاني والاحاسيس تسري في نفسي.

واخترت الحديث عن هذا العظيم، لأنه ولد في بلاد بعيدة عن مهد الإسلام، وانحدر من سلالة برهمية، قريبة العهد بالهداية الإسلامية، وكانت بلاده خاضعة لحكم الانكليز، وكانت السيادة فيها للثقافة الغربية.

فدرس شاعرنا العلوم العصرية، والآداب الغربية، إلى اقصى حدودها، وفي أعظم مراكزها. ثم اشتد ايمانه بالرسالة المحمدية، وإعجابه بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وثقته بالأمة الإسلامية ومواهبها ومستقبلها، واشتدت حماسته للإسلام، كما اشتد إنكاره لأسس الفلسفة الغربية والحضارة الأوربية، وفي ذلك يقول:

لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي، ويعشي بصري، وذلك لأني اكتحلت باثمد المدينة.

ويقول:

مكثت في أتون التعليم الغربي وخرجت كما خرج ابراهيم من نار النمرود.

ويقول: لم يزل ولا يزال فراعنة العصر يرصدونني، ويكمنون لي، ولكنني لا أخافهم، فأنا أحمل اليد البيضاء. لا تعجبوا إذا اقتنصت النجوم، وانقادت لي الصعاب، فأنا من اتباع ذلك السيد العظيم الذي تشرفت بوطأته الحصباء، فصارت أعلى قدراً من النجوم، وجرى في إثره الغبار، فصار أعبق من العبير.

ولقد استخدم اقبال عبقريته الشعرية، ومواهبه الادبية في نشر عقيدته ودعوته، وكان خير مثال للشاعر المؤمن، والعالم الداعي، والفيلسوف الحصيف، وقد أحدث إقبال هزة في الأفكار والآداب، في قطر من أعظم الاقطار الاسلامية وأوسعها، وتجاوز تأثيره إلى اقطار بعيدة، وسمع له صدى في أنحاء العالم.

والسبب الثالث الذي دفعني للحديث عنه:

وقوفه من أمتنا وقضاياها المواقف التي تتفق مع العقيدة التي آمن بها، والرسالة التي قضى حياته في سبيلها.

ففي قصيدته " هديه إلى الرسول" يتخيل:

أنه حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي:

ماذا حملت إلينا من هدية؟

فاعتذر الشاعر عن هدايا الدنيا، وقال: إنها لا تليق بمقامكم الكريم.

ولكن جئتك بهدية: إنها زجاجة يتجلى فيها شرف أمتك، إن فيها دم شهداء طرابلس.

وحينما طلبت فرنسا من إقبال أن يزور مستعمراتها في شمال إفريقية، رفض دعوتها، وأبى أيضا أن يزور جامع باريز وأساتذته، وقال:

إن هذا ثمن بخس لتدمير دمشق وإحراقها.

ولما مر ب"صقلية" في طريق عودته إلى بلاده، من رحلته التي قام بها لاوروبا، قال: ابك أيها الرجل دما، لا دمعا. فهنا مدفن الحضارة الحجازية.

ولا ينسى الشاعر أن يدحض مزاعم اليهود، ويرد دعواهم على أعقابهم، حينما يدعون ملكية فلسطين، لأنهم سكنوها في قديم الزمان، فيقول ساخرا:

أما كان للعرب أن يطالبوا بإسبانيا، تلك التي ملكوا زمامها في غابر الايام، وملأوا ربوعها علما ونورا.

وحينما زار الشاعر إسبانيا، قال لمدير أحد الفنادق الكبرى في قرطبة:

أين أحفاد العرب في هذه البلاد؟

فقال له المدير: إنني منهم.

ثم جمع له وجوها من خيارهم. فقال إقبال:

إلى اليوم تلك ظباء الحمى بأعينهن المراض الحسان

وألحاظها لم تزل قادرات على صيد أسد الشرى كل آن

وتلك المحاسن طبع الحجاز وهذا النسيم عبير يما ن

فحي الجنان وسكانها وإن زال سكان تلك الجنان

ولم ينس الشاعر أن يزور مسجد قرطبة، ويقرأ الآيات القرآنية المسطورة بالمداد الذهبي على جدرانه. وكان لذلك أثر كبير في نفسه، وانه ليقول في ذلك:

لقد أحسست بالعطر والنسيم والجمال، وفهمت لماذا اختار العرب بلاد الاندلس، فهي المكان الذي لا يأسن فيه الماء، ولا يتغير مع هوائه الطعام.

وعرفت لماذا اختار العرب هذا الموطن، الذي انبعثت منه مدنيات العالم الحديث.

ولما قام فرانكو بالحرب الإسبانية الأهلية، كان جنوده الفاتحون من مراكش، فقال بعض الناس لإقبال:

هاهم العرب مرة أخرى، قاموا يفتحون الاندلس بعد خمسمائة عام.

فقال اقبال: هل قرأت قصيدتي عن قرطبة وأخذ يتلو منها:

وإقبال هو الذي ينادي العرب من خلف السهوب، ومن وراء البحار، فيقول:

لهذه الأسباب مجتمعة رغبت في الحديث عن إقبال.

ولا بد لي من الإشارة أولاً وقبل كل شيء، إلى أن ما كتب عن إقبال في العربية وما ترجم له من شعر لا يتناسب مع عظمة شخصيته، وسلاسة شعره، وكثرته، فأنا إذن لن أحدثكم عن مميزات شعره ودقيق فلسفته ، لان ما ترجم له لا يكفي لذلك، ولكني سأقتبس لكم من سيرته قبسات، لتعيشوا معه لحظات...

حياته:

ولد شاعرنا العظيم في بلدة "سيالكوت" في إقليم البنجاب من الهند عام ثلاثة وسبعين وثمانمائة وألف، وفتح عينيه على الأنهار الجارية التي تنحدر عبر التلال الجميلة حاملة في خريرها وتدافع أمواجها، قصة الأزل وسنة الأبد،

ودرج إقبال على تلك السهول والسفوح بين الخمائل وتحت الظلال، يستمتع بجمال بلاده وسحر طبيعتها.

وينتمي شاعرنا إلى سلالة وثنية برهمية، كانت تعيش في كشمير، غير أن الإسلام، غزا قلوب هؤلاء البراهمة، فكان منهم والد الشاعر.

والد إقبال:

كان والد إقبال تقيا زاهداً، يهتز فؤاده رهبة وإشفاقا، وتدمع عيناه خوفاً ووجلاً كلما ذكرت الجنة والنار، وكلما سمع أو قرأ عن هول يوم الحساب، ولنترك الحديث عن والد إقبال لإقبال نفسه:

يقول إقبال: وقع على بابنا سائل وقوع القضاء، ورفع صوته كأنه نعيب غراب، وأخذ يهز الباب، ولما آلمني تصايحه وإلحافه، خرجت إليه، فأهويت على رأسه بضربة بعثرت ما بيده، مما جمعه طوال يومه، فلما رأى والدي تلك الحادثة اصفر وجهه الأحمر، وانحدرت الدموع نهرا على خديه، وقال:

تذكر يا بني جلال المحشر، يوم تجتمع أمة خير البشر، وارجع البصر كرة إلى لحيتي البيضاء، ونحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء، كن زهرة يحييها نسيم ربيع المصطفى.

إن الجرعات الدينية النقية، لهي الدواء الناجع للبشرية الحائرة، وإن في الكؤوس الروحية الخالصة، لنشوة سامية تنفي عن الإنسان ظلمات الشك، وتحجب عن عينيه أصنام اليأس والاستسلام، ولطالما ارتشف إقبال من تلك الكؤوس، فشفت من نفسه جراحاً، وأبانت له عن أشياء، ما كان ليكشف عنها وينعم بجمالها، لولا تلك الجرعات الدينية النافعة، وما أجمل قوله:

ذهب إقبال منذ نعومة أظافره، إلى مكتب تحفيظ القرآن في "سيالكوت" وما يكاد يتحرك النهار، وينحسر ظل الليل رويداً رويداً، وتثب الشمس من الأفق الشرقي، حتى يكون إقبال جالساً يستقبل الفجر، وأ نداء الصباح تتمسح بوجهه البريء الصغير، فيهب في نشاطه المعهود، ويصلي من خلف أبيه الشيخ الزاهد، ثم يتلو القرآن وقد حرص أبوه المربي الفاضل، على أن لا تكون قراءة إقبال كلمات تلقى، وآيات تتلى، وإنما قاله له:

يا بني: أقرأ القرآن كأنه أنزل عليك.

وفي ذلك يقول إقبال:

ومنذ ذلك اليوم، بدأت أتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست، ومن بحره ما نظمت...

ثم انتقل إقبال إلى مدرسة "سيالكوت" وما أن أتم دراسته الثانوية، حتى التحق بكليتها، حيث تلقى أصول اللغة الفارسية والعربية، على أستاذه السيد "مير حسين"... ولقد امتاز طوال هذه الفترة، بذكائه الحاد، وبديهته السريعة، وحوزه لقصب السبق بين أقرانه ولداته، ونتج عن ذلك أن نال الجوائز السنية، ونال فرصة الدراسة بالمجان.

وفتحت بعد ذلك كلية الحكومة في " لاهور" ذراعيها، لاستقبال الشاب الذكي، فتفوق على أقرانه، ونال ميداليتين ذهبيتين ، ومساعدة الحكومة الشهرية له، جزاء اجتهاده.

وفي كلية الحكومة ب " لاهور" التقى إقبال بأستاذه الفيلسوف المستشرق " توماس ارنولد" الذي رحب بميل تلميذه الي الفلسفة، فكان له خير مرشد ومعين، وسرعان ما توثقت بينهما أواصر الصداقة، واستحكمت روابط الالفة.

ثم نال إقبال بعد ذلك شهادة في الفلسفة، وعين أستاذا للفلسفة والسياسة المدنية، بالكلية الشرقية في" لاهور"، ثم أستاذا للفلسفة واللغة الإنكليزية، في كلية الحكومة هناك، وكان ذلك هو الدليل المادي، على تقديرهم لغزارة علمه، ورجاحة عقله، وعظيم عبقر يته.

وفي عام خمسة وتسعمائة وألف، ولى اقبال وجهه شطر بلاد الغرب، حيث وصل إلى " لندن" والتحق بجامعة " كامبردج"، وأخذ شهادة عالية في الفلسفة وعلم الاقتصاد، ومكث في عاصمة الدولة البريطانية ثلاث سنين، يلقي محاضرات في موضوعات إسلامية، أكسبته الشهرة والثقة، وتولى في خلال تلك المدة، تدريس آداب اللغة العربية في في جامعة لندن، مدة غياب أستاذه "أرنولد "

ثم سافر إلى ألمانيا، وأخذ من جامعة " ميونخ " الدكتوراه في الفلسفة.

ثم رجع إلى لندن وأخذ شهادة في المحاماة.

ورجع إلى الهند عام ثمانية وتسعمائة وألف سالما غانما.

ومن دواعي العجب أن كل هذا النجاح حصل لهذا النابغة، وهو لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره.

ولقد توسع إقبال في قراءته عن " نتشة" و" هيجل" و" شوبنهار" وغيرهم وقارن بينهم وبين فلاسفة الشرق أمثال ابن سينا، وابن رشد. وإليكم رأيه في نتشه:

يقول إفبال عن" نتشه ":

خفق قلبه لضعف عناصر الإنسان، وخلق فكره الحكيم صورة أحكم وأمتن، فأثار بين الفرنج هياجا بعد هياج، مجنون ولج مصانع الزجاج، إذا بغيت نغمة ففر منه، فليس في نايه إلا قصف الرعد، قد دفع مبضعه في قلب الغرب، واحمرت يده من دم الصليب. هذا الذي بني معبدا للصنم، علي قواعد الحرم ، قد آمن قلبه وكفر دماغه.

ولقد تعمق اقبال في دراسته للفكر الهندي والإيراني، ونال قسطا وافرا من منابع التراث الروماني واليوناني، ونهل قدرا وافيا من الثقافة الانكليزية والالمانية، والفرنسية، والأمريكية، هذا فضلا عن الميراث الفكري الاسلامي والعربي، الذي صرف فيه إقبال معظم مجهوداته.

اما اللغات التي أجادها إقبال فهي الأوردية، والفارسية ، والإنكليزية ، وكان عظيم الاتقان للألمانية والفرنسية ، ولكنه كان يعرف العربية، والسنسكريتيه.

كتبه ودواوينه:

لقد ترك الشاعر باللغة الفارسية الدواوين الآتية:

أسرار خودي: يعني أسرار معرفة الذات.

و رموز بيخودي: أي أسرار فناء الذات .

وبيام مشرق: أي رسالة الشرق. في جواب كتاب "جوته": "تحية الغرب".

كما ترك: زبور عجم.

وجاويد نامه.

وماذا ينبغي أن تعمل الشعوب الشرقية.

ومسافر.

وأر مغان حجاز، أي: هدية الحجاز.

وترك باللغة الاودية:

بال جبريل، أي: جناح جبريل.

وضرب كليم، يعني: ضرب موسى.

وغير هذه الكتب: محاضرات ألقاها في مدينة "مدراس" طبعت باسم

"تجديد التفكير الديني في الإسلام".

و محاضرات ألقاها- في جامعة كامبردج- و قد اعتنى بهذه المحاضرات المستشرقون، و علماء الفلسفة و الدين اعتناء عظيما، و علقوا عليها أهمية كبيرة.

و من وراء جبال " الهيملايا" و من خلف التلال و الهضاب، سارع أحد علماء روسيا، متكلفا المشاق و الأهوال، راكبا الأخطار و الأوعار، حتى التقى بإقبال،

ونقل عنه مبادئه وأصول فلسفته، التي أودعها ديوانه "أسرار خودي".

أما في ألمانيا: فقد قام الأستاذ "دايشور وسو" و الدكتور "فيشر" الأستاذ بجامعة "ليبزيغ"، و صاحب مجلة "اسلاميكا"، و الشاعر الألماني الفيلسوف "هانسي"، قام هؤلاء جميعا، و ترجموا لاقبال و كتبوا عن شعره، و فلسفته، و قارنوا بينه و بين "جوته" الشاعر الألماني العظيم، و نيتشة. بل قامت هناك في ألمانيا جماعة اسمها: جماعة إقبال، تشرف على ترجمة آثاره، و نشر مبادئه، في ربوع البلاد، و في أروقة الجامعات.

و هكذا فعل "اسكاريا" في إيطاليا، و "ميكنري" في أمريكا، و "نيكلسون" و المستشرق "براون" في إنكلترا، و الدكتور: عبد الوهاب عزام في مصر. إذ كان له الفضل الأكبر، في التعريف ب "إقبال" في أرجاء العالم العربي.

ومرض إقبال في آخر حياته، وظل أياماً طويلة رهين الفراش، ولم يزل لسانه يفيض بالشعر، وقد قال قبل وفاته بعشر دقائق:

ليت شعري! هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء. وهل تعود النفحة الحجازية. قد أظلني موتي, و حضرتني الوفاة، فليت شعري، هل حكيم يخلفني؟

وقال وهو يجود بنفسه:

أنا لا أخشى الموت، أنا مسلم، ومن شأن المسلم أن يستقبل الموت مبتسماً.

ولفظ نفسه الأخير في حجر خادمه القديم- على حين غفلة- من العواد،

والأصدقاء. و غربت هذه الشمس التي ملأت القلوب حرارة و نورا, قبل أن تطلع شمس الواحد و العشرين من نيسان، عام ثمانية و ثلاثين، و تسعمائة و ألف.

وسوم: العدد 875