وتعيش أمتنا المأساة

تعيش أمتنا المأساة المرعبة بكل أبعادها ،وبكل أوجاعها ،ويفجع الألم الممض قلوب أبنائها صباح مساء ، لِما ينزل بها من فواجع ، ولِما يُحاك على وجودها من مكر وكيد وابتزاز ، وحيث تداعت عليها أمم الكفر والفساد من كل جانب ،وعُقدت المؤتمرات بقصد تنفيذ المؤامرات التي تدبَّرُ ضدها علنا ، ومن وراء الكواليس ، حسب نوعية المؤامرة ، وطريقة تنفيذها ، والزمن المناسب بعد الإعداد للتنفيذ . ولكن كل ذلك يجري بتقدير الله العزيز الحكيم ،والمسلم الذي يشعر بالأسى في نفسه على ما يصيب الأمة اليوم من نكبات ومن أهوال يشيب لها الولدان ، يشعر بالاطمئنان وهو يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه ، وبالسكينة في مناجاته ، ويحدوه الأمل الوريف بالفتح ، وتهزه الأشواق دون فرج  منه عزَّ وجلَّ لهذه الأمة وإن طال الطريق . فالله هو القاهر فوق عباده ، والله هو الغالب رغم غطرسة الغزاة والطغاة والجناة ، والتاريخ مابرح يُنبئُ أولي الألباب بحقائقه التي يقر بها البَرُّ والفاجرُ على حد سواء . وذات هذا المسلم الذي يشعر بهذا الشعور النبيل ــ وهو من ثمرات الاهتمام بحال الأمة ــ يعتقد أن الله يفعل مايشاء ، ويحكم مايريد ،وأن المخرج من المهالك بيده ،ويعتقد بأنه سبحانه آخذ بنواصي البشر ، كل البشر ، وماشاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . فلا خوف أبدا من ظلم الطغاة ، ولا من غزو الأعداء ،ولا من أيِّ عُتُلٍّ جبار ، فكلهم في قبضة الديَّان ،ويبقى هذا المسلم شامخا لأنه يعيش معنى العبودية لله الواحد الأحد .

وهذه الهجمة الشرسة الحاقدة على الإسلام وأهله ، لايجد  الإنسان العاقل المنصف لها مبررا ،فالإسلام شريعة ربانية عالمية ، تصلح الفرد وتسعده ، وتجعل انتماءَه لِما أنزل الله من هُدى ونور ، فيتميز بالولاء لله الخالق ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم الهادي إلى الفلاح ، وهذه الشريعة تسمو بالأمة وتقوِّيها ، فتعيش لله وحده ، وتنبذ الطواغيت والمتجبرين والمرتدين من الفُسَّاق والفجَّار وأولي الأهواء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ،والذين آثروا دنياهم على الآخرة ، فالأمة بشريعتها الإسلامية تأبى المظاهر البرَّاقة  ، وترفض السعادة الجوفاء الكاذبة التي يلوِّنها شياطين الإنس  ، وتنأى عن الاعتزاز بالباطل وإن بدا قويا ومهيمنا ، وترد بقوة عروض المنكرات والموبقات . إنَّ الأمة المسلمة لاتقبل أن تستأنف حياة جاهلية أخرى ، ازدهى جذلها بحلاوة الآثام ، واغتبط بنوها بتدفُّق أنواع المنكرات ، وتشوَّقت حشودها إلى مرأى مشاهد أهل الإغواء والأهواء بين غناء ورقص وفجور وسفور وعُري ، وركنت أفواجها لظلم الظالمين ، ولانت مواقفها أمام جِماح الضالين والمفسدين ، وهل الجاهلية إلا هذا البعد عن دين الله القويم ، وهل هي إلا مَن ابتلعت بمساوئها وخسَّتِها ماكان للأمة المسلمة من مجد وقوة ومنعة وسؤدد ...وطوت ببهرجها البغيض حللَها السابغة ، ومزاياها العظيمة وخصائصها الأثيرة ، يوم مكَّنت لأهل الفسق واللهو والغفلة في الأرض ، الذين صدُّوا عن شريعة الإسلام ولم يستجيبوا لدعوة الله ظنا منهم بأن مايملكون من متاع وقوة واستكبار تمنع عنهم ماوعدهم اللهُ به من خزي في الدنيا والآخرة ، ورغم تهاوي الملل والنحل الشرقية والغربية وسقوط شعارات جميع الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية فما زال في الأمة أناس يعيشون الغفلة بكل معانيها ، غير مستجيبين لنداء التغيير الرباني، يقول الله تعالى : ( والذين لم يستجيبوا له لو أنَّ لهم مافي الأرض جميعا ، ومثله معه لافتدوا به . أولئك لهم سوء الحساب ، ومأواهم جهنَّم ، وبئس المهاد ) 18/ الرعد .

والإسلام يربي الفرد المسلم ذكرا كان أم أنثى على القيم النبيلة الإنسانية ، فيعيش هذا الفرد بعقيدة صافية تمنحه السيرة الحميدة ، والأخلاق الحسنة ، وتملأ عليه حياته بالمآثر ، يغض بصره عن المحرمات ، ويصون لسانه عن اللغو والكذب ، ولا يجعله بلا ضابط شرعي ...  فيخوض بالغيبة ويمشي بالنميمة ، و يردد مايردده الفُسَّاق والفجَّار ، وينأى هذا الفرد المسلم عن مواطن تكبه في النار ، لأنه عاش رديفها في حياته الدنيا ، وإنما الفرد المسلم رجلا كان أم امرأة هو مَن والى ربَّه ، وآثر هَديَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ولم يرضَ بهذه الجاهلية ، وازورَّ عنها معرضا عن جلبتها ، يستشيط غضبا مما جلبته من الشر والأذى على الفرد والمجتمع .، ولم تطرفْه بأسباب السعادة والنجاة في الدنيا ولا في الآخرة . فالإسلام يربي الفرد المسلم على التجاوب مع ماجاء من وحي السماء ، ويحيي فيه نجابته الفطرية لتجيزه الدخولَ إلى عالم الملأ الأعلى ... عالم الإيمان بالله واليقين بفضله وقدرته ، فيزدري إذ يعيش في ظلاله سفاهات المبطلين ، واجتراء المرتدين ، حيثُ أغنى نفسَه بجليل الأواصر والعهود مع ربه ودينه ، فخرج إلى ميادين الخير الذي لايبلى ،وإلى ساحات الإيثار والقوة التي صنعت ( مَجزأة بن ثور السَّدوسي ) رضي الله عنه القائد الفذَّ يوم القادسية ، قاهر الفرس وفاتح مدينة( تُستر ) الحصينة والتي حاصرها المسلمون سنة ونصف السنة ولم يقدروا عليها ، وبفضل الله ثم بفضل ( مجزأة ) تمَّ فتح المدينة ، وسيق ( الهُرمزان ) قائد جيش الفرس أسيرا ذليلا إلى المدينة المنورة ليراه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،وهو الإسلام الذي صنع قائد بيت الإيمان يوم سار مع إخوانه العشرة لأبيه وأربع مئة فارس من قبيلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن كفرَهم بالجاهلية الأولى ، وليشهدوا شهادة الحق والتوحيد ذلكم هو ( النعمان بن مقرن المزني ) بطل الفتح في نهاوند وصاحب التكبيرات التي هزَّت قلوب الأعداء ، وأشعلت وطيس معركة حامية ، انتصر فيها الإسلام ، وفرح بالفتح المسلمون ، وبعد نهاية المعركة سأل جنودُ الإسلام عن قائدهم ( النعمان  ) فقادهم أخوه إليه حيث كان مسجى ببردة ، وقد فاز بالشهادة وبالنصر . وما نال هذان رضي الله عنهما مانالا إلا بولائهما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلامي الحنيف ، ونجد كذلك في سير الصالحات قديما وحديثا مايثلج الصدر من ولاء المؤمنات لله سبحانه وتعالى ، وهنا أذكر قصة سمعتها من أخ عاش في مدينة اللاذقية من بلاد الشام ، وهو سمعها من فقيدنا الغالي الشيخ محمد المجذوب يرحمه الله ،قال كنا ندقق مادة الأدب العربي في إحدى القاعات ومعنا في القاعة أيضا عدد من المدرسات ، إذ دخل وزير التربية والتعليم زائرا ومتابعا لسير الامتحانات ، وصافح جميع مَن في القاعة حتى وصل إلى إحدى المدرسات ،ومدَّ يده ليصافحها ، فرفعت يدها إلى الأعلى رافضة أن تصافح رجلا ليس من محارمها ... فوجم الوزير ، وساد صمت في القاعة التي خرج منها الوزير بدرس ربما يذكِّرُه بقيم التربية والتعليم في شريعتنا الإسلامية . أجل رفضت أن تصافح أجنبيا عنها ، معتدة بأمر الله وهَدْي رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يغيِّر مابالنفس إلى الأسمى والأعلى والأعز  . فهل كان يخطر على بال الفرد الجاهلي أن الإسلام يجعل الفرد يفتدي بروحه وماله دين ربه ؟! وهل كان يخطر ببال امرأة الجاهلية أن تفتدي المرأة بروحها ومالها شريعة ربها ، ولكنه الإسلام دين التغيير والسمو ، والقوة والعزة والرقي . وما كان للفرد المسلم من هذا النصيب الوافي من الخيرية ، كان للأمة المسلمة ، فعندما لم تكن الأمة بمعزل عن دينها وحبِّ ربِّها ونبيِّها صلى الله عليه وسلم كانت خير أمة على وجه الأرض ، فتحت الدنيا على التوحيد وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فكانت الأمة الغالبة الرحيمة ، وكانت القوية العادلة التي يخشاها الطغاة والظالمون ، بقيمها الربانية ، وخصوبة شريعتها الإسلامية ، وقد بدأت صغائر الذنوب تدب في جنبات الأمة ، وبدأ الشباب ينهلون من مجاريها النتنة لايحسون بطعمها ، بل زاحمتهم عليها الشابات اللواتي أغراهن بالرخيص من القول دعاة السفور والتفلت والفجور  ، فها نحن نرى الحانات والملاهي والسينما وشواطئ البحار تمتلئ بالنتن الحيواني ، والسَّفه اللاإنساني من إباحية مطلقة ... فاستبيحت الأجساد والأفكار والاتجاهات ،وأمسك زمام الأمر أبناء الليالي الحمر ، والموائد التي استباحتها أيضا المحرمات من أنواع الخمور والمخدرات ، ومجالسة العاهرات ، بل أصبحت ترى الفاسق الإباحي يتصدر مواطن الرأي في الفضائيات والإذاعات .، بدأ الأمر بذنب صغير ربما لاقيمة له في حياة أمة عظيمة ، وتتابع الذنب الصغير ، فكبر واشتد في سواعد أهله ، وأدمنوا عليه ، والإدمان مصيبة ونكبة إذا حلَّت بالفرد أو المجتمع ... فتشكل من هؤلاء الغافلين الفاسقين سيلٌ عرم من الضياع والاستهتار طغى فغمر عظمة الأمة ، وهدم أركان مجدها وفخرها ، والعجيب أنهم يدَّعون الإصلاح والتقدمية ، والأعجب أن الناس يسكتون ويسمعون لأكاذيبهم وكأنها من وحي السماء !!! ولكن يُعذر الناس إذا سكتوا ، لأنهم هم الذين أوصلوهم إلى مراكز التحكُّم والتَّصرف في شؤون الأمة ، ويدَّعي هؤلاء الأثمون أنهم هم أهل الإصلاح ، وهم منقذو الأمة ، ولكنَّ الأيام وثَّقت أعمالهم الشنيعة ، وتصرفاتهم الهوجاء ، وعرَّتهم فليس لهم من خزيهم من محيص ، يقول الله تبارك وتعالى فيهم وفي أمثالهم : ( أولئك الذين طبع اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) 108 / النحل . فهذه الشرائح من مجتمعاتنا الإسلامية رضيت بالحياة الدنيا ، وأدبرت عن مناهل السعادة الأخروية ، بدافع الشهوات والأهواء ، وربما بدافع الكفر بالله عزَّ وجلَّ، فصدق فيهم قولُه سبحانه وتعالى : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأنَّ الله لايهذي القومَ الكافرين ) 107/النحل . فبهم قامت دعائم الفساد والإفساد في الأمة ، وبهم كانت النكبات والهزائم ، وهم الذين أغروا بالأمة أعداءَها الأشرار ، فلاقى أبناء المسلمين من الويلات بسببهم مايشيب لهوله الولدان ، وما زال بعض فراعنتهم  يدَّعون أنهم هم أبطال الأمة ، وأنهم هم المصلحون لشأنها ، ولكنهم خابوا وخاب غرورهم : ( ألا إنهم هم المفسدون ، ولكن لايشعرون ) 12/ البقرة .

لقد بلَّغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، وترك الأمة على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لايزيغ عنها إلا هلك ، فماذا بعد الحق إلا الضلال المبين !!! ولسنا نخشى على الإسلام ، فهو دين الله الخالد الباقي رغم أنوف كلِّ أعدائه ، من الصليبيين والصهيونيين  والماسونيين وأتباعهم وأذنابهم ومروجي بضائعهم الفاسدة ، والمجتمعات الإسلامية تعيش الإسلام الذي يجمعها على المودة والتكافل رغم محاولات ــ تلك الشرائح الخبيثة ــ اجتثاثه ، ولسوف يفوز المسلمون بالنصر والتمكين في هذه الحياة الدنيا ، وبإحدى الحسنيين ، و بالمثوبة عند الله يوم القيامة ، يوم يبلس المجرمون والفاسقون والطغاة العابثون بقيم الأمة ، وتساق تلك الشرائح إل يسار عرش الرحمن حيث الطريق إلى  جهنم ، فيراهم الحبيبُ صلى الله عليه وسلم ، فينادي ربَّه : هؤلاء من أمتي ، يارب هؤلاء من أمتي ... فيقول له ربُّ العزة والجلال : يامُحَمَّدُ إنهم ليسوا من أمتك ، إنك لاتدري ماذا أحدثوا بعدك !

ياحسرة على تلك الشرائح التي والت أعداء الله ، وسخرت من عباد الله المؤمنين : ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) 29/المطففين .وفي يوم الفصل ، يوم تبلى السرائر ،يوم القيامة ، يتحقق وعدُ الله : ( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) 34/المطففين .

وسوم: العدد 885