في ذكرى الانقلاب الفاشل: كلمة حق في المعارضة التركية

«من تدعمه المآذن، لن تغلبه المدافع» عبارة قرأتها منذ أربع سنوات، نسيتُ كاتبها، لكنها لا تزال تأتلق في ذاكرتي حتى اليوم، كانت تعليقا على فشل الانقلاب العسكري، الذي زلزل المجتمع التركي ليلة 15 يوليو 2016، وترجمة حقيقية لحالة التعاطف لدى الشعوب الإسلامية تجاه الحكومة الشرعية، ومن ثم رُفعت أكُف الضراعة وانطلقت الدعوات في كل مكان، لأن تتجاوز تركيا هذه الأزمة.

ومع هذه الزلزلة تدفقت الهواجس حول مصير المعارضين الفارين من بطش الأنظمة الديكتاتورية، والذين آوتهم تركيا، ومصير ملايين اللاجئين السوريين، الذين فتحت لهم حكومة «العدالة والتنمية» أبواب البلاد لتصبح ملاذهم الآمن، بعد أن نزحوا فرارا من مذابح طاغية سوريا، وماذا عن شعوب الأمة التي تأمل في نجاح النموذج التركي؟ وماذا عن الأنظمة الاستبدادية التي ستقوى شوكتها ويُشرعن باطلها إذا نجح الانقلاب في تركيا؟ لكن الله سلّم، ومرت هذه العاصفة بسلام، وبدأ عهد جديد في تركيا، وبدا أن هذا البلد قد وَدّع بالفعل عصور الانقلابات.

وفي المناسبة السنوية لهذا الانقلاب الفاشل، يولد من جديد الحديث عن بطولة الشعب التركي، الذي لبى نداء قائده عبر مكالمة سكايب في النزول إلى الشوارع، للحفاظ على الوطن، غير أن هناك فئة كان لها موقف مُشرف في هذه الأزمة، جديرة بأن نوفي لها حقها مهما اختلفنا أو اتفقنا معها، إنها فئة المعارضين، الذين رفضوا أن تُدهس الديمقراطية، حتى لو كان المقابل؛ أن تؤيد عدوها الأول رجب طيب أردوغان. إنني هنا لا أتحدث عن شرف الخصومة ولا عن أخلاق الخلاف، لكنني أتحدث عن نضج هذه المعارضة ورُشْدها، فعلى الرغم من شراسة المعارضة التركية واختلافاتها الأيديولوجية والسياسية مع أردوغان، إلا أنها رفضت الانقلاب، ولم تشأ أن تركب الموجة، طمعا في أن تصل إلى الحكم على دبابات العسكر، رفضت ذلك صيانة للديمقراطية التي تنادي بها، وحذرا من أن يأتي يوم وتقول أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

فيكفي أن نعلم أن كمال كليجدار أوغلو زعيم أكبر حزب معارض وهو «الشعب الجمهوري» الذي يُعدُّ أشد خصوم أردوغان بأسًا، أعلن حينذاك رفضه للانقلاب قائلا: «تركيا عانت من الانقلابات، وسندافع عن الديمقراطية» وقام بتنحية الخلافات بينه وبين أردوغان جانبا، وزاره في القصر الرئاسي، لبحث الرؤى حول المحاولة الانقلابية الفاشلة، ووافقه في مطالبة الولايات المتحدة بتسليم زعيم الكيان الموازي الداعية فتح الله جولن.

المعارضة في تركيا ليست أحزابا مُنكفِئة أو ضعيفة، بل تنافس بشراسة على إدارة البلاد، وتعمل في أريحية، وتهاجم النظام

كانت حسابات المعارضة: أين مصلحة الوطن العليا؟ والمقطوع به لدى الشعب والحكومة والمعارضة جميعًا، أن الانقلابات العسكرية التي ضربت البلاد طيلة عقود، كانت وراء تأخر الدولة وتعثرها، وأن الرضا بالانقلاب سوف يعيد البلاد إلى هذه الحقب المظلمة مرة أخرى. ورأت الأحزاب المعارضة أن استغلال الفرصة للإطاحة بأردوغان عن طريق دعم الانقلاب، سيُعَدُّ مُسوّغًا لذبح الديمقراطية في أي فترة لاحقة، ما سيعتبر عقبة في مسيرة هذه الأحزاب، إن هي أمسكت بزمام الأمور.

علمت المعارضة أن مقارعة أردوغان عبر آليات الديمقراطية والاستحقاقات الانتخابية، أهون بكثير من إعطاء الأيادي الخارجية فرصة للتدخل في شؤون تركيا.

الحديث عن المعارضة التركية يأخذنا إلى الحديث عن نظيراتها في البلاد العربية، ففي عالمنا العربي، نرى أن المعارضة تكون غالبًا كرتونية مغلوبة على أمرها، ولا يختلف وجودها عن عدمها، أو تكون مُغلِّبة للمصالح الحزبية والتوجهات الأيديولوجية، كما في الحالة المصرية أيام الرئيس الراحل محمد مرسي، عندما كان همها وعملها مُنْصبًّا على الإطاحة بالإخوان، ولو تحقق ذلك عن طريق إعادة الحكم العسكري، فلم تضع المعارضة مصلحة البلاد والحفاظ على المسار الديمقراطي على رأس أولوياتها، رغم تأكيدها الدائم على احترام الديمقراطية، وإرادة الشعب المتمثلة في التصويت عبر صناديق الاقتراع، لكنها أكلت صنم العجوة الذي صنعته.

المعارضة في تركيا مختلفة فعليا، فهي ليست أحزابا مُنكفِئة أو ضعيفة، بل تنافس بشراسة على إدارة البلاد، وتعمل في أريحية، وتهاجم النظام، وتعقد التحالفات ضده، فليست مجبرة على التوافق مع حكومة العدالة والتنمية في أي موقف أو أزمة، إلا أن لها مبادئها التي تسير عليها على اختلاف مشاربها، ورغم عدائها الشديد لأردوغان وحكومته، إلا أنها تقدم مصالح الوطن العليا على المصالح الحزبية.

وليس الانقلاب هو الموطن الوحيد الذي أظهرت المعارضة التركية فيه نضجها ورشدها، فمؤخرا، أحدثت إعادة متحف «آيا صوفيا» إلى صفته السابقة كمسجد، ضجة كبرى في العالم بأسره، واستغله خصوم تركيا، حتى من الدول العربية، للنيل من أردوغان، والترويج، بأن هذا القرار يمثل مساسا بالمشاعر المسيحية، نظرا لأن المسجد كان في الأصل كاتدرائية، حَوّلها محمد الفاتح إلى مسجد عام 1453، بعد أن فتح القسطنطينية، وأطلقت بعض الدول العربية التي تناصب تركيا العداء، علماء الشريعة وهيئات الإفتاء لإصدار فتاوى عجيبة تجرم هذا العمل، وتحرم الصلاة في ذلك المسجد.

كان المتوقع من المعارضة في تركيا أن تستغل هذه الموجة في صراعها العنيف مع أردوغان وسعيها للإطاحة به، من خلال التنديد بهذا العمل، متوافقة بذلك مع العالم الغربي وبعض خصوم تركيا من الحكومات العربية، إلا أنها خالفت هذه التوقعات.

أحمد داود أوغلو، رفيق درب أردوغان سابقا ومعارضه حاليا، الذي يرأس حزب «المستقبل المعارض» رغم خلافه الشديد مع سياسات أردوغان، إلا أنه قال في تغريدة على تويتر: «إن إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة، هو تحول الحلم المنتظر منذ عشرات السنوات إلى حقيقة.. الموقف المسؤول الذي أبدته الحكومة والمعارضة يستحق التقدير، نبارك لكم جامع آيا صوفيا رمز الفتح وأمانة الفاتح، التراث الحضاري لمدينة إسطنبول». علي باباجان، رئيس حزب «الديمقراطية والتقدم» وأحد أبرز المُعارضين للحزب الحاكم، ولكثير من سياسات أردوغان، قال على تويتر بعد أن هنأ بإعادة آيا صوفيا للصلاة: «سنبذل قصارى جهدنا لحماية هذا الصرح الفريد، الذي يمثل التراث التاريخي المشترك للبشرية، ونقله إلى المستقبل». ميرال أكشنار رئيسة حزب «الجيد» المعارض، قال خلال لقاء تلفزيوني: «كنت مخطئة عندما قلت إن أردوغان لن يستطيع فتح آيا صوفيا، وأهنئكم بمسجد آيا صوفيا، وأبارك للرئيس أردوغان». تمل كارامولا أوغلو، رئيس حزب «السعادة» أشاد بقرار مجلس الدولة وغرّد قائلا: «هذا القرار اتخذ بما يتناسب مع رغبة أمتنا منذ زمن». محرم إنجيه، المرشح الرئاسي السابق أمام أردوغان، يرفض التدخل الأجنبي في القرار، ويقول: «قرار إعادة فتح آيا صوفيا، قرار تركي سيادي، وهي تقع في داخل حدودنا…لا يحق لروسيا أو الولايات المتحدة، أو اليونان أو أي بلد آخر أو منظمة، فرض قرارها في ذلك». عبد الله غل، الرئيس التركي السابق، الذي يختلف مع أردوغان في العديد من سياساته، كتب قائلا: «أبارك بإعادة فتح آيا صوفيا للعبادة، هذا القرار التاريخي أسعد شعبنا العزيز، وأهنئ كل من ساهم في تحقيق هذا القرار». وحتى رئيس أكبر حزب علماني كمال كليجدار أوغلو، رغم أنه لم يُبد تأييدا للقرار، إلا أنه أكد قبلها أن حزبه لن يعترض على إعادة «آيا صوفيا» للصلاة.

إننا نتحدث عن معارضة متعددة التوجهات، علمانية وقومية وإسلامية، اجتمعت كلها على تأييد أو عدم معارضة قرار فيه صالح الوطن أو تأكيدا على سيادته، وهذا لا يمكن تفسيره إلا أنه فرعٌ عن الوعي العام للأتراك، ونأمل أن تكون المعارضة في بلادنا العربية على هذا النحو من الحس الوطني، وإعلاء مصالح الأوطان على أي مصالح حزبية ضيقة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 886