سر القضية : فلسطين الدرة المغتصبة ..

فلسطيني ... فلسطيني .. فلسطيني ..

" الدرة المغتصبة " هكذا كان يعنون لها الدكتور مصطفى السباعي في مجلته السائرة " حضارة الإسلام " .

قرأت له وأنا فتى يافع مقالا جميلا ، وصدمني ، كان مقالا يذكرنا بفلسطين وكان عهدنا بنكبة فلسطين قريبا ، يقول الدكتور السباعي عن فلسطين .. لا تنسوها ...لا تنسوها ...لا تنسوها .. ، صدمني المقال وأنا ابن بضعة عشر ، وتساءلت : وهل يمكن لأحد أن ينسى فلسطين ؟! وهل يمكن لفلسطين أن تُنسى ؟ وهل يمكن لمسلمَين أو عربييَن أن يختلفا على فلسطين ..؟!!!

ولكن مقال الدكتور السباعي رحمه الله تعالى كان مؤثرا بحيث أنني أذكره من قراءة واحدة بعد ستة عقود ..

وربما يذكرني به اليوم من نسي القضية ، أو من يريد أن يتناساها ، تحت شتى العناوين والتخرصات والمعاذير !! ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ )

لقد عشنا القضية الفلسطينية ، قبل تأسيس ما يعرف بمنظمة التحرير ، وتقمصناها شعارا ودثارا ، وكانت قضيتنا الأولى حتى علمنا أن قضية الأمة واحدة ، يشتق بعضها من بعض . القاصر ، ضعيف النظر ، قليل الحيلة ؛ هو الذي يظن أنه يستطيع أن يعزل صراعه مع بشار الأسد عن صراعه مع الصهيوني ومع الصفوي .. ومع ... ومع .. ومع ..

عشنا مرحلة في فضاء القضية كنا نسمع فيها باسم " أحمد الشقيري " في المحافل العربية ، رجل البرتوكولات المتحدث باسم فلسطين على منابر الجامعة العربية وفي القمم العربية بشكل خاص ... وكان موقف جماهير الأمة من القضية منفصلا إلى حد كبير عن موقفها من المنظمات والفصائل ..

ثم بدأنا نسمع عن حركة فتح ، بعضهم كان يقدمها لنا تحت عنوان ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) وبعضهم يقول هي فتح ومقلوبها " حتف " ولكل قوم هاد... وكان وراء كل تفسير معنى ندركه ونغضي عنه فنحن إلى جوهر القضية أقرب من كل الأسماء والتسميات وسمعنا مع اسم فتح أسماء وأسماء حتى لأكاد أقول لكم إن المشهد الفصائلي الفلسطيني لم يكن أفضل كثيرا من المشهد الفصائل السوري في هذه الأيام ، مع غلبة العناوين اليسارية والقومية ، وكنا نسمع بأسماء مثل ياسر عرفات وخليل الوزير وهاني الحسن وأبو نضال وأبو العباس ونايف حواتمة وجورج حبش والكثير من الريات المتشحة بالحمرة أو بالسواد ..

وكل تلك المنظمات في عقدي الستينات والسبعينات كان حبلها السري ينتهي في موسكو " الاتحاد السوفياتي " والقائد " بريجينيف " ووزير الخارجية " غريميكو " والسفير السوفييتي في دمشق " محي الدين محي الدينوف" كان الداعم الأول وربما الوحيد للمنظمات الفلسطينية الاتحاد السوفياتي الذي كان أول دولة في العالم تعترف بالكيان المزعوم . الاتحاد السوفياتي الذي لم يتخل قط عن دعمه لوجود الكيان ، والذي كان قادته يصرحون بوقاحتهم المعهودة اليوم " نحن نعطي العرب السلاح لكي يدافعوا عن أنفسهم وليس لكي ينتصروا " وهم يقصدون بذلك مصر وسورية وليس فقط المنظمات ..وكل الخردة التي زودونا بها لم تصلح للدفاع ...

وكانت الأمة كلها متمسكة بالقضية الفلسطينية ، تعتبرها البوصلة ، والناطق الرسمي باسم كل قضاياها ، وبينما كان لكل جمهور موقفه من المنظمات ، وكانت الريبة عنوانا عاما يلف الجميع ... ظلت الجماهير العربية في درجة من الوعي تفصل فيه بين القضية في جوهرها ونقائها وعدالتها ، وبين المنظمات وبرامجها وعلاقاتها وأخلاق وسلوك القائمين عليها وحقائق التزامهم ، وحجم متاجرتهم بالقضية ..هذا الفصل هو الموضوع الذي نركز عليه في هذا المقال ..

كانت فتح التي أصبحت بجهود حافظ الأسد الصامد والمتصدي " فتحين " فتح ياسر عرفات وفتح الانتفاضة ، هي الأوسع قاعدة ، وهي الأقرب إلى قلوب العرب والمسلمين ..حتى ذهبت إلى أوسلو في مطلع التسعينات فتكاد تقول خسرت من الأحرار قلوبهم وعقولهم معا ..وأمسك الناس توقيرا للقضية وإبقاء عليها ..

الدرس الذي أريد أن أخلص إليه وأنا أعيش وجعنا جميعا من ارتماءات بعض الفصائل وانحيازاتها إلى أعداء الأمة ، وما أكثر المعاذير هو أنه لا فصيل فلسطيني مهما كان اسمه أو عنوانه أو رايته يستطيع أن يصادر القضية ، ولا أن يحرفها ولا أن يخرجها من قلوبنا ولا من عقولنا أبدا ..

تستطيع أن تغضب من كل فلسطيني يغضبك ، أو يستهين بك ، أو يتآمر عليك ، أو ينحاز ضدك ، أو يقاتل في صف عدوك ، أو يذبح طفلك ، ويغتصب عرضك ، أو يصفق لمن اغتصبه ، أو يعتبره وليا ونصيرا وشهيدا شهيدا شهيدا .

.تستطيع أن تتخذ منه الموقف الذي تريد بالطريقة التي تريد في ..ولكننا لا نستطيع ولا نقبل ونرضى أن نجعل كل ذلك جسرا لإدارة الظهر لفلسطين ، لا لتقليل هيبة القضية ، ولا للحط من مكانتها ، ولا لإعلان القطيعة مع الحق الفلسطيني ، والتوقف عن نصرته ، وإن كنا تحت الرحى نئن ..

تصرفات الفصائل على اختلاف العناوين والهويات والأخطاء والخطايا ليست عذرا للمطبعين ، ولا جسرا للمتهالكين .. وعندما قال المرحوم يوسف العظم :

فلسطيني .. فلسطيني .. فلسطيني ..

قصد أن كل واحد من أمة المليارين فلسطيني حتى يعود الحق الفلسطيني..

وأنا فلسطيني .. فلسطيني .. فلسطيني ..

فلسطيني لا يمر على طهران ..

فلسطيني لا يجالس شاتم عرض الرسول ..

( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )

اللهم هيئ لأمتنا ولقضيتنا في فلسطين من أمرها رشدا ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 894