تقول العرب: "ساء سمعا فساء جابة"

أدب وسياسة:

وقيل هذا المثل في عصر كان الخطاب والسمع هو الوسيلة الأولى للتواصل. ومفاد الحكمة العربية : أن من ساء سمعه ساء جوابه، بمعنى جاء جوابه خاطئا بعيدا عن مقتضيات الحكمة، ومعالم الصواب والسداد والرشاد. مترادفات دلالية لا غنى بأحدها عن الآخر.

وسوء السمع لا يأتي فقط كما يتبادر إلى الذهن من قصوره الحسي: على طريقة من يسأل المريض من طبيبك؟ فيجيبه ذاك برما منه: عزرائيل!! فيرد عليه سيّء السمع : مسح عليك بيده الشافية!!

بل يتعدى سوء السمع من الدلالة الحسية إلى الدلالة الأرقى في أفق الفهم، والتفكر والتدبر، وذكر الله أقواما بأنهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ..،

قال أهل التفسير : يسمعون القول ولا يعقلونه. وقال تعالى في موضع آخر ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ) فخص الذين يسمعون فيستجيبون لدعوة الحق بالسمع، وألقى على من دونهم وصف الموت وإنا كانوا من الأحياء. " إنما الميت ميت الأحياء"

ونعود إلى أصل الحكمة العربية "ساء سمعا فساء جابة" لنؤكد أن المقصود بإساءة السمع ليس السمع الحسي فقط ، بل المقصود إساءة السمع القلبي الذي يورث الفهم والاعتبار والاستجابة ..

ويعجبني أن أسجل هنا ملحوظتي الخاصة أنه كما قرر العرب في بيانهم المتعالي أن للرؤية أفقين، فتحدثوا عن الرؤية البصرية والرؤية القلبية، وخصوا الأولى بمفعول واحد، والثانية بمفعولين، فكذلك سنجد شواهد بيانية أصيلة في الكتاب العزيز وفي غيره تثبت أن للسمع أفقين أيضا ؛ أفقه الحسي وأفقه القلبي. وعلى هذا الأساس نفهم تكرار وصف القرآن للمعرضين عن آياته بالصم البكم العمي الذين لا يعقلون..

وأحيانا تكون أبصار الناس الحسية سليمة، وأسماعهم سليمة، وعقولهم أيضا، والمقصود هنا آليات تفكيرهم الظاهرة وأدواتها سليمة، ومع ذلك يسيئون السمع والعقل فيسيئون الجواب ويسئيون اتخاذ الكوقف ..

وإنما يؤتي هؤلاء في الحقيقة من سخيمة في صدورهم، ومن مرض في قلوبهم، يلخبط حالهم ويظهرهم أمام الآخرين ينادون: سمك لبن تمر هندي..

يا عنز هذا شجر وماء ...عاعيت لو ينفعني العيعاء

كثيرون يرددون القول : اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. وينسون أمرا مهمّا له دور متقدم في إفساد الود، وفي إشاعة البغضاء، الحالقة التي تحلق الشعر ولا تحلق الدين..

ذلك أن لا يفرق من غلبت عليه سخيمة صدره ، في التمييز بين الرد على القول وبين الرد على القائل ..!! مناطان للقول البون بينهما بعيد...

في الرد على القول يكون أحدنا أمام معادلة رياضية ، يجد بعض من حوله يحلها، بطريقة يعتقد أنه خاطئة أو غير منتجة ، أو تصير به بعد لأي إلى ما يسمونه " المعادلة المستحيلة " التي لا تحل إلا يجذر العدد السالب الذي لا جذر له ... فيعيد الصاحب حلها بالطريقة التي يرى أمام صاحبها وأما جمهوره الذين يسمعون، دون أن يهوّن من شأن، ولا أن يصغّر من قيمة، ويترك لأسماع المتابعين وأبصارهم وعقولهم أن تحكم ...دون أن يقول : ضرب زيد ، ولا ضحك عمرو ..

أما في الرد على القائل الذي يقترفه كل ساعة رجال تظل تقول فيهم " ساء سمعا فساء جابة " ترى أحدهم يلقي على صاحبه قميص الذئب" الذي أكل يوسف" ويظل يحوم في دوامات الباطل، وسمادير النعاس ويظن أنه قد غلب .." ولم تسق دعد بالعلب"

وأعجب من العجب أن أرى مثلا جماهير من يحسبون على الثورة يردون على بعضهم أكثر من ردهم على شبيحة بشار الأسد ..يشتغلون على ذلك سحابة ليلهم ونهارهم ...

وكذا جماهير من يحسبون على المشروع الإسلامي يستكبر أحدهم أن يقول لصاحبه أحسنت أو أصبت أو وفقت أو أن يرفع له إبهامه يوما هذا إذا لم يرفع له أصبعا أخرى كل ذلك ...والرياح حولهم تعوي ..والسحب المدلهمة تبرق وترعد..

ما نحن فيه " واقع تربوي - اجتماعي - فكري " أكثر منه واقعا سياسيا نحمّل مسئوليته لعصر بيت الأسد ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 947