"بدوي الجبل" الذي واجه الطغاة

إذا سألتني مَن شاعركَ المُفضّل؟ أقول لك: بدوي الجبل!

وإذا سألتني مَن الشّاعر الذي كنتَ تتمنّى مصاحبته؟ أقول: بدوي الجبل!

وإذا سألتني مَن الشاعر الذي ترجو مرافقته في الجنّة؟ أقول: بدوي الجبل!

وإذا سألتني ما هو الديوان الذي تحفظه عن ظهر قلب؟ أقول: ديوان بدوي الجبل!

إنه أعظم شعراء العربيّة بعد "أبي الطيّب المتنبّي"!

وقد دفع ثمن شجاعته في عصر الهزائم، وزمن الخيانات والتنازلات! وفي ظلّ شعوب لديها قابلية الاستعباد! وفي ظل مجتمعات تخشى أن تواجه نفسها بالحقيقة، لأنها استمرأتْ الظلم، وعشِقتْ الديكتاتورية!

لقد دفع –شاعرنا- ضريبةً باهظة، فقد هاجم الطغاةَ والجبابرة، وهاجم "حزبَ البعث" بضراوة بعد هزيمة حزيران المُخزية ... فأبتْ وزارات التعليم في الوطن العربي أن تنشر له بيتاً واحداً ضمن مقرراتها الدراسية، ولم تُذاع له قصيدة واحدة في الإذاعات العربية الكاذبة، والفضائيات الخاطئة!

(بدوي الجبل) يُمثّل السقف الأعلى في الشّعر الكلاسيكي من حيث التوازن بين الخيال والفكرة، فامتزج شعره الروحي والصوفي بشعره السياسي المقاوم للاستعمار الفرنسي. كما أنه يُمثّل مدرسة شعرية مستقلة، حتى قيل: إنه متنبّي القرن العشرين!

ولعلَّ شعره الجميل دليل على أنّ الشِّعر العربي مطبوع وليس مصنوعاً إلاّ لدى الشعراء المتكلِّفين. ومن أجمل قصائد "بدوي الجبل": اللهب القدسي, الكعبة الزهراء, البلبل الغريب, ابتهالات, خالقة, شقراء, حنين الغريب, من وحي الهزيمة.

ينتمي –شاعرنا- إلى أعرق بيوت العلم والفضل والكرم، وقد ظهر أثر ذلك في شعره الدّيني، فاستمع إليه وهو يترنّم في ابتهالاته ومناجاته:

أنا لا أُرجّي غير جبّار السماء ولا أهابُ

بيني وبين الله مِن ثقتي بلطف الله بابُ

أبداً ألوذ به وتعرفني الأرائك والرّحابُ

لي عنده من أدمعي كنز تضيق به العبابُ

يا ربّ: بابك لا يردّ اللائذين به حجابُ

مفتاحه بيديّ يقين لا يلمّ به ارتياب

ومَحبّة لك لا تُكدّر بالرّياء ولا تشاب

وعبادة لا الحشر أملاها عليّ ولا الحساب

وإذا سألتَ عن الذنوب فإنّ أدمُعيَ الجواب

هي في يميني حين أبسطها لرحمتك الكتاب

إنّي لأغبط عاكفين على الذنوب وما أنابوا

لوْ لمْ يكونوا واثقين بعفوكَ الهاني لتابوا !

كان "بدوي الجبل" معتزاً بعروبته اعتزازاً شديداً، وكان لا يَكفّ عن تحريضه الشعوب للأخذ بالثأر ممن اغتصبوا الأوطان، فيقول في قصيدة (إني لأشمتُ بالجبّار):

يا سامر الحيِّ هلْ تعنيكَ شكوانا؟

رقَّ الحديدُ وما رقّوا لبلوانا!

ويلَ الشعوبِ التي لم تُسقِ من دمها

ثاراتها الحمر أحقاداً وأضغانا

ثاراتُ يعربَ ظمآى في مراقدها

تجاوزتها سقاة الحيّ نسيانا

لا خالد الفتح يغزو الروم منتصراً

ولا المُثنّى على رايات شيبانا

إنّ الخيط الذي يربطني بالشاعر "بدوي الجبل" عداوة الطغيان، وكراهية الاستبداد، ومن أروع قصائده في هذا الباب، قصيدة (فرعون) التي وجّهها للرئيس عبد الناصر، مُتهكّماً من سياسته الخرقاء، ومُعرّضاً به وبزبانيته، وبالجرائم التي ارتكبها في حق أُمته، وعدّد أخطاءه وخطاياه، كحرب اليمن، وغيرها، يقول فيها:  

فرعون عاد فكيفَ .. كيفَ

وقد عصفتَ به يعودُ؟!

أرض الكنانة ما بها

إلاَّ المتوّجُ والعبيد

فرعونُ مصر، وأنتَ مَنْ

رشَقَ المصاحف، لا الوليدُ

فرعون مصرَ، وأنتَ مَنْ

قتلَ الهواشم، لا يزيد

فرعونُ ذَلَّ به اليهودُ

وأنتَ عزَّ بكَ اليهود !

الغدرُ طبعكَ والدسائسُ

والخيانة والجحود !

باد الطغاة جميعهم

أمّا الشعوبُ فلا تبيد !

كما عارضَ سياسة (أنور السادات) وهجاه هجاءً مُرًّا، بسبب تصالحه مع الصهاينة، ومن ثمّ قطيعته للشعوب العربية. كما تنبأ باقتراب رحيله وزوال جبروته، وذلك في قصيدة طويلة بعنوان (كافور) التي نشرناها كاملةً في كتابنا (شعراء في مواجهة الطغيان) فقد استلهم "الشَّاعر" التاريخ برموزه ودلالاته التاريخية والسياسية، يقول:

كافورُ قد جُنَّ الزمانُ

وإليكَ آل الصولجانُ !

كافورُ طاغية، وفي

بعض المشاهد بهلوانُ !

مَنْ أنتَ؟ لا المجدُ

الأصيلُ، ولا شمائله اللدانُ !

لا العبقريةُ فيكَ مُشرِقة

ولا الخُلُق الحِسانُ !

كافورُ عرشكَ للفناءِ

وربما آنَ الأوانُ !

الخالدان -ولا أعدُّ الشمسَ-

شِعــري والزمـــانُ!

رحمَ الله الشاعر الفذ (بدوي الجبــل) وعوّضنا شاعراً مثله ... حتى لا تضيع ذاكرةَ الأمة!

وسوم: العدد 948