المرأة في التراث العَرَبي بين خِطابين-11 (المدرسة الذُّكوريَّة!)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

ونعود- بعد أن طوَّفنا ما طوَّفنا في المقالات الماضية في الخطاب الذُّكوري العَرَبي، الذي طالما تعامَى عنه المتعامون قديمًا وحديثًا- إلى أستاذ (أبي العلاء المعرِّي)، ونعني: (أبا الطيِّب المتنبِّي). فالمتنبِّي هو القائل في هجاء (كافور الإخشيدي):

لَقَد كُنتُ أَحسِبُ قَبْلَ الخَصِيِّ

أَنَّ الـرُّؤوسَ مَــــــقَـــرُّ الـنُّـــــــــهَــى

فَــلَــــمَّــــا نَــــظَـــــرتُ إِلـــــــى عَقْــــــــلِـــــهِ

رَأَيتُ الـنُّــهَــى كُـلَّها في الخُصَى!(1)

وهذا إرثٌ ثقافيٌّ يَرَى العقل ذُكوريًّا. وممَّا يومئ إلى ذلك المعتقَد قول (أبي تمَّام)(2) من قبل:

تَصْدا بِها الأَفهامُ بَعدَ صِقالِها

وتَرُدُّ ذُكرانَ العُقولِ إِناثا

أمَّا بيت (أبي الطَّيِّب)، في مرثيته لأخت (سَيف الدَّولة)- التي سمَّاها: (فَعْلة= خَولة)- وقد تطرَّقنا إلى تفكيك تلك المرثيَّة في الحلقة السابعة من هذه السلسلة(3)، وهو:

قَد كانَ كُلُّ حِجابٍ دونَ رُؤيَتِها

فَما قَنِعتِ لَها يا أَرضُ بِالحُجُبِ

فإيماءٌ إلى حِجاب الوَأْد، الذي صَرَّح به تلميذه (المعرِّي) أبلغ تصريح، إذ قال:

ودَفْـنٌ والحوادثُ مُفْجِعـَاتٌ

لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُمـاتِ!

غير أنَّ مرثيَّة (أبي الطَّيِّب)- التي كان يكنِّي عنها بـ"فَعْلَة"- هي "كريمة سَيف الدَّولة"، كما يُكنَّى عن اسم المرأة في عصرنا، وليست كأيِّ كريمة. وعندئذٍ تَصِحُّ استعارة بيت (أبي الحسن الأنباري) في حقِّها:

فدَفْنٌ في الحياةِ وفي المَماتِ

لَحَقٌّ تِلْكَ إِحدَى المُعْجِزاتِ!

وهكذا جاء خطاب (أبي الطيِّب) متأرجحًا في موقفه من المرأة بين السَّلب والإيجاب، وهو إلى الأوَّل أقرب.  

ومن خلال ما تَقدَّم من مقالات في هذا الموضوع، نستنتج الآتي:

1- إنَّ خطابنا الأدبيَّ يكشف فيما يكشف عنه أنَّ جُلَّ ما يُطرَح عادةً على أنَّه قِيَمٌ عَرَبيَّة، أو حتى أخلاقٌ إسلاميَّة، إنَّما يمثِّل قِيَمًا انحيازيَّة إلى مجتمع الرجال، بصفةٍ خاصَّة، بحيث يَصدُق القول إنها: قِيَمٌ ذُكوريَّةٌ في منطلقاتها، أعرابيَّةٌ في أهوائها. هذا على الرغم ممَّا تؤكِّده الدراسات من أنَّ المرأة كانت- حتى في لحظات التاريخ التحوُّليَّة وانهيار المجتمعات- هي مخزن القِيَم، ومرجعيَّتُها الإيجابيَّة، المعاندة لخراب الحياة(4)، في وقتٍ قد يسعَى الرجال فيه بأرجلهم وأيديهم إلى خراب الحياة والديار.

2- إذا كان قد وقع الصِّراع حول ما سُمِّي بـ"عمود الشِّعر العَرَبيِّ" في العصر العبَّاسي، ويعني اتباع تقاليد القصيدة الجاهليَّة(5)، وكان (البحتريُّ) هو النموذج المثاليُّ في اتِّباع سنن ذلك العمود، فقد كان ثَمَّةَ عمودٌ آخَر للقِيَم، يميد بين خطابَين، خطابٍ يحذو حذو الثقافة الجاهليَّة، كما وصلت إلى العصر العبَّاسي، تمثَّل في خطاب البحتريِّ أيضًا، الذي رأينا بعض ملامحه في المقالات السابقة، وخطابٍ مقابل، يَخرج نِسبيًّا عن عمود القِيَم العَرَبيَّة القديمة، تمثَّل في خِطاب (المتنبِّي)، من خلال بعض نماذج شِعره. وحين تطرَّقنا إلى عمود القِيَم العَرَبيَّة الشِّعريَّة، الذي لا أثر فيه يُذكَر لاحترام المرأة في حياتها، ولا حتى لرثائها بعد مماتها، فنحن نعني هذا لدَى من بألسنتهم زمام الصوت الشِّعري العَرَبيِّ الرئيس. وإنْ كنتَ لا تعدم في سِواهم، من العلماء والفضلاء، خلاف ذلك.(6) لكن هؤلاء ظلُّوا طيفًا هامشيًّا، ومن القِلَّة الحضوريَّة بمكان.

3- إنَّ ما سُمِّي بـ"عمود الشِّعر العَرَبيِّ" لم يكن تقاليد فنيَّة في بناء القصيدة فحسب، لكنَّه كان- إلى ذلك- تقاليدَ اجتماعيَّةً موروثة. ولذلك فإنَّ شاعرًا كـ(أبي تمَّام) لم يستطع تجاوز العمود الثاني، أي العمود الاجتماعي، وإنَّما انحصرت محاولاته التجديديَّة في تجاوز العمود الأوَّل، أي العمود الفَنِّي الشَّكلاني، لا أكثر، المتعلِّق بلغة القصيدة، وصِيَغها البلاغيَّة. على حين بقي محتوى القصيدة غارقًا في تقاليد الثقافة الموروثة عن العصر الجاهلي، وهو في هذا لا يختلف عن البحتري.

* * *

زَعَمُوْهُـمْ ، فـي أُمـَّـتِـيْ ، شُعَـراءَ

فـإِذا هُـمْ (شِـيْنٌ) يَـضُـمُّ «عَـراءَ»

لَـمْ يُهـَـذِّبْـهُــمُ انْـتِــماءٌ   لِـ(طَـهَ)

لَـمْ يَـزِدْهُـمْ لِلـحَــقِّ إِلَّا ازْدِراءَ

وإِذا كـانَـتِ العُـقُـوْلُ   صِـغَــارًا

كَـبُـرَ البـاطِـلُ القَـدِيْـمُ انْـتِـماءَ!(7)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (د.ت)، شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 1: 166.

(2) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عزام (القاهرة: دار المعارف)، 1: 322/ 36.

(3) انظر المقال على الرابط: https://bit.ly/2ZxMIDu

وقد ناقشنا هناك التناقض، بين استبدال "فَعْلَة" باسم (خَوْلَة)، وفي الوقت عينه وصف الشاعر إيَّاها بما يكفي لمعرفتها عند العَرَب، بل تصريحه بأن وصفها يغني عن تسميتها. وهو ما يدلُّ على أن اسم المرأة، في ذاته، كان محور القلق. وتظل الكلمة عند العَرَب أخطر من الفعل والمعنى!

(4) انظر: كلَّاب، إلهام، (1994)، "نسق القِيَم في لبنانمجلَّة المستقبل العَرَبي، (مركز دراسات الوحدة العَرَبيَّة)، ع 183، ص101.

(5) درجَ عامَّة المثقَّفين المعاصرين على اختزال مفهوم العموديَّة الشِّعريَّة في(الوزن والقافية)، حين ينعتون قصيدة بـ"العموديَّة"! بل كثيرًا ما نجد هذا لدَى متعاطي النقد أيضًا. وهو خطأ اصطلاحي، فالمصطلح يشمل في النقد العَرَبي احتذاء تقاليد القصيدة الجاهليَّة عمومًا، ممَّا حدَّده (المرزوقي، أبو علي أحمد بن محمَّد بن الحسن (-421هـ= 1030م)، (1967)، شرح ديوان الحماسة، تحقيق: أحمد أمين، وعبدالسلام هارون، (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر)، 8- 11)، في سبعة أبواب: شَرف المعنى وصحَّته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام النَّظْم على وزن ملائم، والتناسب في الاستعارة، ومشاكلة اللفظ للمعنى واقتضاؤهما للقافية. ولم يكن من معايير القصيدة العموديَّة الالتزام بالوزن والقافية؛ من حيث كان ذلك مسلَّمًا، لا محلَّ خلافٍ أصلًا بين المقلِّدين والمجدِّدين.

(6) من ذلك مراثي الوزير (ابن الزيَّات، - 233هـ) في امرأته. (انظر مثلًا: ضيف، شوقي، (1966)، العصر العباسي الأوَّل، (القاهرة: دار المعارف)، 173- 174). واللافت أن المؤلِّف قد أدرج ذلك ضمن "التجديد في الموضوعات القديمة".

(7) من قصيدتي بعنوان "المَوءودة"، انظر: صحيفة "الجزيرة"، السبت 21 ديسمبر 2019: https://bit.ly/3q3lwYo

(*) هذا المقال جزء أخير من ورقة بحثٍ قُدِّمت فكرتها في محاضرةٍ حِواريَّةٍ في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع "اليوتيوب": https://bit.ly/3m06d0e

وسوم: العدد 954