اشتباك بين الحاضر والماضي حكاية للعيد، اتسع الخرق على الراقع

كتبت أول أمس، بعد أن وصفت مجزرة حي التضامن ودمغتها بالطائفية، وطالبت بالعدل والقصاص من كل من شارك وأدار ودعم وتحالف ورضي. كما طالبت بتدريس وثيقتها، في كل المراحل الدراسية السورية، وان تصبح مادة في مختبرات العلماء البشريين المختصين في علوم الجريمة، وتحدثت عن توحش وتسفل مرتكبيها؛ كتبت بأننا بوصفنا بشرا أسوياء ومتحضرين ومسلمين؛ يجب أن لا نتسفل مثل تسفل مرتكبيها، وأن لا نتوحش مثل توحشهم..!!

فرد عليّ أناس هم من عظام رقبتي، أو أنا من فقار ظهرهم، ردوداً عائمة غائمة لا تكاد تقبض منها إلا على ماء أو ريح

وكتب أحدهم معرّضاً: على صوت العقل أن يخرس. وأنا أعلم أن بعض الناس قد أخرسوا صوت العقل منذ نصف قرن، فلا عقلوا عقل أهل الاسلام، ولا جهلوا فوق جهل الجاهلين، جهل أهل الجاهلية، حتى أوردوا شعبهم ووطنهم موارد العطب.

والغريب العجيب أننا لا نسمع منهم منذ أربعين سنة غير التهويش والتهويس، بينما عدونا وعدوهم، يفعل بنا وبأهلنا وشعبنا ووطننا وإن شئتُ قلت: بهم وبأهلهم ووطنهم الأفاعيل. في حضرة ما نحن فيه، لا تتمثل: نحن وهم إلا في عقول القاصرين.

وكنت قبل خروجي من حلب أناقش بعض الأحباب من إخواني في جماعة الاخوان المسلمين، وأهل ثقتي من غيرها، فيما يجري حولنا من عمليات اغتيال، وكنت منذ البداية ضدها لم أقبلها يوما مع كل معاذيرها، ونتناقش كإخوة، ونختلف كإخوة، وكان البعض يخالفني وهذا مشروع، ثم لما اشتد الأمر وضاقت بنا الأحوال، خرجت من مدينتي مسقط رأسي حيث تنغرس جذوري، كما خرج موسى من مصر "خائفا أترقب" ولم يكد يستقر بي مقام في مكان هجرتي، حتى كنت أجد بعض الذين كانوا "يجادلونني ويكثرون جدالي" في مشروعية ما كان يجري، وما تسبب في خروجنا، قد صاروا إلى حيث صرت، بعضهم خلال أيام، وبعضهم خلال أسابيع، وبعضهم خلال أشهر، لم يتأخر واحد منهم عني سنة!!

كنت استقبلهم مبتسما وأسألهم متعجبا: حتى أنت يا بروتس!!

كنت عندما يستقر بنا مجلس لمناقشة أمر وحولي مجموعة من إخواني، ولأنني تربيت على الصدق والمباشرة وترك لغة الأحابيل، أقول لهم: عندما هربنا من سورية... ، فيغضبون ويزمجرون ويقولون : نحن لم نهرب!! فأقول: حسنا عندما هربت أنا..ثم أكمل ما أريد أن أبني عليه..

كان وما زال ادعاء البطولة على الهواء أمراً سهلا، استمع إليهم كلهم يعلنون النفير، ويطلبون "النزالا" هذه استعيرها من بيت أبي الطيب المتنبي جميل، وعلى الذين لم يحفظوه ان يسارعوا لحفظه..

أخطر شيء في الثورات الادارة عن بعد، بالريموت، على طريقة الشيخ أبي قصبة.

هؤلاء الذي يشبعونني حتى اليوم "حشفا وسوء كيلة" كانت لديهم فرص عظيمة، لكي يرسلوا رسائل مؤدية بليغة للعالم وللمجرمين القتلة من سفلة حي التضامن، ولكنهم لم يفعلوا، ولا أعطي نفسي الحق في تفسير أفعال الناس ومواقفهم، ولكنني سأظل أسأل: ولماذا عندما ملكو الفرصة لم يفعلوا؟؟ ثم ما زالوا يهوشون ويهوسون؟!!

والأسئلة الصعبة، قلما نقدر على طرحها، بله الحصول على جواب عليها.

خلال سنوات من مشاركتي ببعض القرار في جماعة الإخوان المسلمين، وفي ظل إخوة كرام عقلاء كانوا يمسكون بالمناط؛ استطاعت جماعتنا تحقيق أمور بفضل الله...

وأعاننا على ذلك مواطنون سوريون شرفاء من أهل الوعي والحكمة.. لو أردت أن أعدهم لتجاوز الأمرُ عدَّ العادين، منهم من ما يزال بيننا، ومنهم من صار إلى ربه.

ولو عددت لعددت عشرات الأسماء، عرفنا كيف نجتمع على المشترك، وننبذ التفاصيل حيث يقيم الشياطين.

يقول لي قائل: فلان وفلان وفلان تغيروا..

أقول له: دعنا نبدأ من أنفسنا. ومن لا يحترم أخاه القريب، كيف سيحترم شريكه ورفيق دربه، وأنا أعلم أين تكون تحيتي السلام عليكم، وأين تكون صباح الخيرات والمسرات..

بفضل الله، وبجهد واع ومخلص من كل أطراف الطيف الوطني المعارض، اندمجت الجماعة- جماعة الإخوان المسلمين-المقصية والمنبوذة، والمحكومة بالاعدام، في المشهد الوطني السوري. بينما كان ذكرها محرما ومجرّما على ألسنة كل السوريين، فاستطاع الجميع المتحدون المتضامنون، بحسن التأتي وبجميل التعاون ، وبالتلطف الذي هو واسطة لفظ القرآن، وبالتعاون مع إخوة وشركاء شرفاء وعقلاء من الطيف الوطني أن تستعيد مكانتها، كجزء من المنتظم السياسي المجتمعي السوري، رغم أنف الأسد. وبفضل أخ كريم من الطيف الوطني الشريف قرأ بيانا وطنيا للجماعة في محفل وطني، ودفع ثمنه دهرا من عمره في سجن الظالمين، تم كسر التابو الذي فرض في صيغة العهد المشؤوم على عقول أجيال من السوريين، هذا الاخ والزميل والرفيق والمناضل وما زلت كلما مررت باسمه أحييه. وأعتذر إليه إن شعر يوما بالندم.

واستطعنا جميعا بفضل الله تعالى

أن نحاصر بشار الاسد في الزاوية المظلمة، ولاسيما بعد اغتياله للحريري وصدور إعلان: بيروت- دمشق..

وما تلا ذلك من مواقف وخطوات سياسية، قد يختلف العقلاء في تقدير أبعادها..

ثم لم نلبث وقد دخلت سورية والسوريون في استحقاقهما العظيم، أن وجدنا أنفسنا نكر خطواتنا رجعا. حتى وجدنا انفسنا اليوم محاصرين بأصحاب الخطاب العقيم، الذين يقبضون الريح، ويحصدون الهشيم.

جهلا علينا وجبنا عن عدوهم

لبئست الخلتان الجهل والجبن

دائما أصور حالنا أو حالهم بحال لاعب المصارعة، قذفه خصمه، عن الحلبة، وتسيد عليها، فظل بعيدا عنها يتهدده ويتوعده..

اعتقدنا دائما أننا مواطنون سوريون، جزء من هذا المجتمع، ومن هؤلاء الناس، حظنا فيه مثل حظوظ الآخرين.

لا نريد علوا في الأرض ولا فسادا، ولن نتسفل ولن نتوحش، وسنطلب العدل بسلطان العدل، والقصاص حق لكل مظلوم، وندعو إلى نبذ كل مجرم وظالم ومفسد وفاسد

وكانت مصيبة قوم ثمود (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ).

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 979