ثقافة بابور الكيروسين "البريموس"

في أيام بابور الكاز البريموس، وهذا يبدو أنه كان أفضل ماركاته، المصنوعة في السويد، وكان المشهور باستيراده في حلب الجميلة، الحاج عبد اللطيف البادنجكي، بمخزنه العامر والمميز،في السويقة؛ كانت تحدث مشاكل عديدة عند الاستعمال..أراها أشد انعكاسا على حالتنا في هذا الزمان.

كان أبسط هذه المشاكل أن هذا البابور يظل بحاجة إلى من يملؤه بالكاز كلما فرغ.

وكان من هتافات الحلبية في ملاعب الكرة وغيرها، عندما يقوم الفريق المخالف بهجمة على مرمى فريق المشجعين، أنهم يهتفون جميعا بصوت مموسق: ببور فاضي بدو قاظ، ببور فاضي بدو قاظ. أرجوا انني لا ألمح إلى أحد..وأرحو أن لا نحتاج إلى إحياء هذا الهتاف!!

 كلنا ما زلنا نعلم أن الببور الفاضي لا يُغلى عليه فنجان قهوة، بله ان ينضج عليه قدر من اللحم!! بله أن تطبخ عليه طبخة لسورية حرة ديمقراطية.

الأبلغ من ذلك في أعطال الببور البريموس، والذي كان يعمل على إحراق كاز الكيروسين بعد عملية تبخير له تحت الضغط، أنه كانت كثيرا ما تنسد القنوات التي تغذي الرأس ببخار الكروسين القابل للاشتعال بنظافة، فيبدأ الببور كما يقول النساء، بالعمل غير المتوازن، تاركا قدرا كبيرا من الشحوار على الآنية المرفوعة عليه. الشحوار ويسمى بالعربية أيضا السخام، وتوسع الحلبيون كثيرا في استعمال الدعاء بتسخيم الوجه، والكناية العامة المسترذلة بفعل التسخيم، وبالإشارة إلى الانسان الكَل والضعيف والعاجز بأنه مسخم لا حول له ولا طول .

العبرة لكل من ابتلي برأس مسدود: احذروا التسخيم.

كانت الام تصيح على أبنائها، رإس البابور مسدود بالحلبي "زيقم" وبالتالي كان لا بد من الذهاب به إلى الببورجي لتنظيفه، كان تنظيف رأس الببور يكلف في ذلك الزمان، ربع ليرة سورية…

علة رأس البابور "الزيقم" ، ليست فقط في طبقة الشحوار التي يتركها على أعقاب قدور الطبخ وصحون التسخين، بل كانت أيضا في أنه يعطي نارا غير متوازنة، فيشعل بطرف ويأبى في آخر.

قضية الاشتعال في طرف دون طرف، ذكرتني بقضية الشرائح المجتمعية في التمثيليات السورية، فقارنت بين نسبة شريحة النساء المحجبات مثلا في الائتلاف الوطني، وبينها في محلس الشعب الاسدي، فلم تعجبني النتيجة..فأحببت أن أتجاهلها!!

للعلم أنا لا أدعي أن المرأة المحجبة أصدق وطنية، ولا أحرص على مستقبل سورية، من غيرها، أذكر فقط أن هذه الشريحة من السوريات واللواتي وقع عليهن أشد البلاء تستحق التمثيل المتوازي المتوازن على كل المنصات!! أقول المتوازي والمتوازن، ليس غير. ولا يحق لأحد أن يتخذ منها موقفا عاما. مسبقا على خلفية حجابها ولا من تلك على خلفية خيارها. هذا حتى هنا وفي سوق العمل في الغرب ممنوع.

ولم يكن من مشكلة الببور الكيروسين انسداد الرأس فقط..

كان من مشاكله أيضا التنفيس!!

قلت في معرض كلامي أن بابور الكيروسين يعمل على آلية تبخير الكيروسين تحت الضغط، ونتحكم بهذا الضغط بمكبس جانبي، وكان يحدث أحيانا أن بعض الجوانب في خزان البابور، تتعرض للتآكل، فيبدأ الببور بالتنفيس، والمظهر العملي لهذا الخلل، ان المرأة كانت تحتاج كل بضعة دقائق إلى إعادة "زق الببور" تعبير حلبي، وهي عملية مرهقة لصاحبة البيت، التي تتعود أن تترك طبختها على النار وتنصرف لنشاط آخر. عملية "زق الببور" الدائمة كانت تقتضي أيضا أن نذهب إلى الببورجي لإعادة الفحص، واكتشاف موضع التنفيس، وإعادة سده بلحام القصدير…

ولما صرنا نرى أن مواقف بعضنا في حالة تنفيس دائم، ولما كانت مهنة الببورجي قد انقرضت، فيبدو أننا قد ابتلينا بالحاجة؛ إلى زق الببور المنفس في كل حين. لا تنسوا أبدا زق الببور حتى لا تنطفئ النار..

مع الأسف من الدعوات القاسية التي كان يتقاذفها العامة في حلب فيما بينهم ساعات الغضب:

الله يخرب دياره.. ويطفي ناره..

دعوة لو تأملتها لم تستطعها حتى للأبعد. أنا ما زلت أحفظ لخير الدين الزركلي، الذي هجر الشعر، وانغمس في تأليف كتابه "الأعلام" قوله:

الأهل أهلي والديار دياري ... وشعار وادي النيربين شعاري

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 980