خلائط الصهيونية المعاصرة: «كاخ» حيّ!

ذات يوم من أيام الكنيست الإسرائيلي الـ18، اندلع نزاع علني بين روفن رفلين الرئيس وميخائيل بن – آري العضو الجديد عن حزب «الوحدة الوطنية» اليميني الديني المتطرف، حامل راية «كاخ»، حزب مئير كاهانا السابق، المحظور منذ سنة 1994. وأما سبب الخلاف فقد كان إصرار بن – آري على إحياء ذكرى كاهانا، الحاخام المتطرّف الذي اغتيل في نيويورك سنة 1990، داخل جدران الكنيست وأسوة بالاحتفال المعتاد الذي يُقام في ذكرى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين. وليس الأمر أنّ رفلين كان يكره صاحب الذكرى إلى درجة حظر الاحتفاء به، بل السبب كان مقدار الحساسيات إزاء قيام هذا الرجل تحديداً بإحياء هذه الذكرى… تحديداً أيضاً.

صحيح أنّ انتخابات الكنيست الـ25 لم تشهد عودة بن – آري، ليس لأنّ شعبيته في انحسار أو اندثار، بل ببساطة لأنّ المحكمة العليا الإسرائيلية حظرت ترشحه على خلفية توصيفه في خانة الإرهاب؛ غير أنّ صعود الأحزاب الدينية والمتطرفة والفاشية، على غرار «الصهيونية الدينية» بزعامة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لم تشكّل إعادة غير مباشرة لشخص بن – آري وأفكار حزب «كاخ» المصنّف إرهابياً حتى في منطوق القانون الإسرائيلي، فحسب؛ بل فتحت بوّابة جديدة، واسعة وعريضة، لتطرّف أشدّ وفاشية أوضح، على يد بن – آري نفسه بالشراكة مع باروخ مارزل، وعبر حزب جديد يعتزم المؤسسان تأسيسه كي يكون على يمين حزب «عظمة يهودية»، أو بالأحرى على أقصى أقصى يمين أيّ حزب ديني متطرف أو فاشي، سابق أو راهن أو لاحق في تاريخ دولة الاحتلال.

عقيدة بن – آري لم تنبثق من عدم، بالطبع، أو في غفلة عن المؤسسات الصهيونية ذاتها التي تتخوف منها أو تسعى إلى تحجيمها بوسائل الحظر القانوني، كما أنها ليست حصيلة نشأته في كنفٍ يهودي إيراني/ أفغاني الأصول؛ بل هي استئناف يتواصل منذ عقود لكتلة التبشير الحاخامي المتطرّف الذي بدأ مع، ويظلّ جزءاً لا يتجزأ من، خلائط عقائد تحالفت، على هذا النحو أو ذاك، مع العقيدة الصهيونية الأمّ؛ ولكن من دون أن تذوب فيها تماماً أو حتى جزئياً، وبمنأى عن الانحناء أمام ركائزها، في ما يخصّ أسطورة «العلمانية الصهيونية» تحديداً. وفي العقود الأولى من القرن العشرين، مع وصول الحاخام أفراهام إسحق كوك من ليتوانيا إلى فلسطين المحتلة، أخذت التيارات اليهودية الدينية المتشددة تبدي الكثير من الاحتقار لأولئك الصهاينة «العلمانيين»، آكلي لحم الخنزير، والحالمين بتأسيس دولة يهودية قبل مجيء المخلّص، ممّن يرطنون بأفكار ليبرالية أو اشتراكية ليست سوى هرطقة صريحة ضدّ التوراة.

تلك هي العقيدة التي ستمهد الأرض لولادة جماعة «غوش إيمونيم»، ولانصهار الاستقطابات المتطرفة في تكتل واحد، انتفخ من جهة أولى بمفردات خطاب تلمودي ناريّ لا تُرهبه انسلال البذور الفاشية؛ وشجّع عليه من جهة ثانية وصول الليكود إلى الحكم سنة 1977، وارتقاء مناحيم بيغن شخصياً إلى مصافّ الملك المكلّف باستعادة الهيكل. الكاهانية، متجسدة في شخص وأفكار الحاخام مئير كاهانا، كانت الصيغة القصوى لذلك الانصهار حين نجح «النبيّ التلمودي»، الرديف والحليف لسياسات الملك بيغن، في تحقيق ذلك التوازي الفريد بين الاختراق العمودي العميق للكفاحية اليهودية القومية الصرفة، وبين النزوعات القيامية الخلاصية، وعلى يديه التقت «العلمانية» الصهيونية المتشددة بالنزعة الدينية المتشددة.

هذه بعض أبرز عقائد الكنيست الراهن، وأياً كانت مصاعب بنيامين نتنياهو في تشكيل الحكومة فإنّ الخلائط الصهيونية قد تمازجت لتوّها وامتزجت؛ بين أمثال تيودور هرتزل وأفراهام كوك ومناحيم بيغن وإسحق رابين وأرييل شارون وإيهود باراك وبنيامين نتنياهو، وصولاً إلى أمثال ميخائيل بن – آري وإيتمار بن غفير وباروخ مارزل و… باروخ غولدشتين سفاح مجزرة الخليل 1994، في أيّ موقع متقدم على لائحة شخوص الخليط.

وسوم: العدد 1007