الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) (دراسة مقارنة-6)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، يدخل فيها (الدِّين) محورًا من محاورها. ففي الفصل الثاني عشر، يجتمع جماعة- فيهم المِصْري، والهِندي، والنازح، واليوناني، والكلتي، وآخرون- على مائدة العشاء في حديثٍ عن أوطانهم ودياناتهم. وفي حديثهم ذاك خير مثالٍ على هذا المحور في القِصَّة، مصوِّرًا مقدار ما قد يؤجِّجه الدِّين بين الشعوب من عدم التعارف، بل من المفاخرات والصراعات الدمويَّة. فقد عرضَ كلُّ واحدٍ منهم مذهب قومه الدِّيني في فخر، مُسَفِّهًا مذاهب الآخَرين وأديانهم، حتى كاد يقع بينهم اللجاج في الخصومة، ولولا أنَّ العَرَبيَّ (سيتوك) و(صادق) هدَّآ الموقف لصُبِغت المائدة بالدَّم.(1)

وكان الدِّين هو أهم شاغل شغلَ (صادقًا) في بلاد العَرَب؛ حيث رأى سيِّدَه العَربيَّ يعبد جيش السَّماء، أي الشمس والقمر والنجوم، كما جرت بذلك عادة العَرَب؛ فاحتال في سبيل صرف سيِّده عن تلك العبادة بشتَّى الوسائل، حتى أعرض العَرَبيُّ آخرَ الأمر عن عبادة المخلوقات وعَبَدَ الخالقَ الخالدَ الذي فَطَرَها.

كما اهتمَّ (صادق) بالعادة البراهميَّة في تحريق النِّساء- التي يزعم (فولتير) أنها كانت تتحكَّم في نساء العَرَب!- فصرف (المُنَى) عن تحريق نفسها، واستطاع أخيرًا أن يُلغي هذه العادة التي مضت عليها القرون، بالرغم من الخطر الذي تحدَّاه في سبيل هذه المهمَّة.(2)

وفي الرحلة التي قام بها (صادق) مع الناسك تظهر معالجةٌ لبعض القضايا المتعلِّقة بالقُدرة الإلهيَّة، وعِلم المخلوق مقارنةً بعِلم الخالق العظيم. فقد رأى صادق من الناسك، الذي اتضح له أخيرًا أنَّه مَلَكٌ كريم، تصرُّفاتٍ أنكرها منه؛ لأنَّه لم يُحِط بما أحاط الناسك به عِلمًا، ولم يُدرِك أسرار ما يفعل. لكنَّه حين أخبره بأسباب ما فعل أدرك قُدرة الله وعِلمه، وجهْل الإنسان واستكانته، وتأكَّدَ له أن "كلَّ شيءٍ إمَّا امتحان، وإمَّا عقاب، وإمَّا مكافأة، وإمَّا احتياط"، فجثا ورفع إلى القُدرة الإلهيَّة عبادته وإذعانه. (3)

ولعلَّ فكرة «القَدَر»، التي تدور القِصَّة حولها، هي أبرز محورٍ دِينيٍّ يمكن أن يُلحَظ فيها. وكأنَّ المؤلِّف قد راعى تلك القُدرة الإلهيَّة التي تُسيِّر حياة الناس وتُعِدُّ لهم مصائرهم المختلفة، كما حدث لبطل القِصَّة (صادق).

هذا، وللفروسيَّة مكانةٌ ظاهرةٌ في القِصَّة أيضًا. فـ(صادق) نفسه يتَّصِف بصفات البطل الفروسي؛ يصفه الكاتب بأنَّه كان فتًى في ريعان شبابه، فُطِرَ على طبعٍ كريمٍ، زادته التربية كَرَمًا. وكان غنيًّا، لكنَّه كان عَفًّا، يكبح شهواته، على الرغم من مغامراته الغراميَّة! ويصفه كذلك بأنَّه كان ذكيًّا مثقَّفًا. "وكان جيِّد الصِّحَّة، رائق الوجه، مستقيم العقل، معتدل المزاج، له قلبٌ مخلصٌ نبيل."(5) وإلى ذلك كان شجاعًا فارسًا.

وقد جمع بين هذه الصفات النبيلة، التي يتحلَّى بها الفُرسان، وبين كونه عاشِقًا وفِيًّا مخلِصًا لمن يُحِب. وشجاعة (صادق) وفُروسيَّته تتأكَّدان في المواقف الحاسمة، التي تُمتحَن فيها فروسيَّة الأبطال. ومنها إنقاذه الفتاة المِصْريَّة (ميسوف) من قبضة مُحِبِّها الثائر. ومنها فوزه في المبارزة التي أُقيمت للترشيح لعرش (بابل)؛ فقد أثبت في تلك المبارزة بطولةً نادرةً وتفوُّقًا كبيرًا على خصمه (إيتوباد)، سواء في المرَّة الأُولَى، حين كان يرتدي لَأْمَتَه البيضاء، أو في المرَّة الأخرى، حين لم يكن عليه إلَّا ثوبٌ وقلنسوة؛ فتأهَّل بذلك ليُصبِح ملِك (بابل) وزوج ملِكة بابل.

وهو محورٌ سنناقشه في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 71- 76.

(2) يُنظَر: م.ن، 67- 70، 77- 81. وقد جاء في مقالٍ سابقٍ تفنيد هذا الزعم، من رجلٍ غربيٍّ اختلطت عليه جغرافيا الثقافات، بين بلاد (العَرَب) وبلاد البراهمة الهندوس في (الهند)!

(3) يُنظَر: م.ن، 120- 128.

(4) يُنظَر: م.ن، 14- 15.

وسوم: العدد 1013