حرب الاغتيالات

هل التزامن بين حرب الاغتيالات في غزة والذكرى الخامسة والسبعين لحرب النكبة مجرد مصادفة؟ أم أن مصادفات التاريخ تقدم لمن يرى ويقرأ درساً بليغاً؟

فالنكبة المستمرة منذ سنة 1948 تواجه بمقاومة مستمرة لم تتوقف إلا لتنطلق، ولم تخبُ إلا لتشتعل.

حرب الاغتيالات في غزة هي جزء من مسار لم يتوقف، لكنها تواجَه اليوم بصمود كبير، يرسم حلم الحرية بالألم والدم والبطولة.

***

على صوت القنابل، ووسط رائحة الدم، نجح نتنياهو في علاج التصدّع الذي أصاب حكومته. رضي بن غفير، وانتشى سموتريتش، وزال خطر تفكك تحالف اليمين المتطرف (الليكود) مع اليمين الفاشي (الصهيونية الجديدة).

بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك، بيني غانتس بارك العملية، ويائير ليبيد دعمها، وعاد الانسجام إلى المجتمع السياسي اليهودي في إسرائيل بمختلف أطيافه.

كل القوى من يمين الوسط إلى اليمين الفاشي، وجدت في سفك الدم الفلسطيني في غزة عنصر وحدتها. الجميع التف حول الطيارين «الشجعان» الذين مارسوا هواياتهم الإجرامية فوق سماء غزة المحاصرة. كأن الحرب على الفلسطينيين هي العنصر الذي يعيد اللحمة إلى مجتمع تمزقه التناقضات، وتدفع به في مسار صراعات طويلة تضعه على حافة الحرب الأهلية.

نقطة الإجماع الإسرائيلية الوحيدة هي استمرار الاحتلال إلى الأبد، وصمغ الوحدة الوطنية الإسرائيلية هو الدم الفلسطيني. هكذا كان منذ حرب النكبة، وهكذا سيكون إلى أن يحين الحين.

لهذه الحرب اسم واحد هو الاغتيالات، أي تصفية قادة فدائيي سرايا القدس في حركة الجهاد الإسلامي، وهي بالإضافة إلى طابعها الانتقامي ورؤيتها الإجرامية ضد من يقاومها، تحمل هدفين يجب قراءتهما بدقة.

الهدف الأول هو كسر شوكة الفدائيين في غزة، تمهيداً لسحق المقاومة المتجددة في الضفة الغربية، وتصفية نقطتي الضوء الكبريين في جنين ونابلس.

وعلى الرغم من النجاح المشهدي الكبير لعمليات اغتيال ستة من كبار قادة السرايا، فإن الإسرائيليين كرروا المكرر، الذي لا أفق له. فالاغتيال الذي مارسه الإسرائيليون بشكل دائم ومنهجي منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، لم يستطع يوماً أن يطفئ جذوة المقاومة. منذ اغتيال القادة الثلاثة في فردان عام 1973 وصولاً إلى اغتيال أبو علي مصطفى والمهندس يحيى عياش والشيخ أحمد ياسين، وانتهاء باغتيال خليل الوزير وياسر عرفات، فإن الاغتيال كان سلاحاً يرتد على من يمارسه.

قائمة شهداء الاغتيالات التي نفذها الإسرائيليون طويلة جداً، وكلها أفضت إلى نتائج عكسية. اغتيال غسان كنفاني وكمال ناصر ووائل زعيتر لم يقتل الثقافة الفلسطينية، كما أن اغتيال كمال عدوان ومحمد يوسف النجار تم الرد عليه من خلال عملية كمال عدوان التي قادتها الشهيدة دلال المغربي، وإلى آخر مسلسل لا آخر له لم يوصل الإسرائيليين إلا إلى طريق مسدود.

حتى اغتيال ياسر عرفات وسط بحار دم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لم يكن له دلالة الانهيار السياسي، لولا أن انقلاباً سياسياً عربياً وفلسطينياً سبقه وترافق معه. أخرج هذا الانقلاب الحركة الوطنية الفلسطينية عن مسارها، ورمى بها في مجهول التنسيق الأمني.

السؤال هو لماذا تابعت القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية ممارسة جرائم الاغتيال رغم علمها أن مردود هذه الجرائم ضئيل ولا يتناسب مع الجهد الذي يبذل من أجل القيام بها؟

هل هي غريزة الدم؟ فإشباع هذه الغريزة هو جزء أساسي من بنية الدولة العميقة التي لم تتخلَّ يوماً عن لغة الحرب والقتل، باعتبارها شرطاً لديمومة التفوق العنصري، وغسل الجريمة الأصلية بجرائم جديدة؟

الإسرائيليون يخطئون الحساب مرة جديدة، فالمقاومة في الضفة والقدس على الرغم من كونها جزءاً من أفق واحد يجمعها بغزة، تملك شرعيتها الخاصة بها، وهي ابنة أزقة المخيمات وحارات المدن وآلام القرى. «عرين الأسود» أو «كتيبة جنين» هي وليدة المكان، وعلى الرغم من اغتيال عدد كبير من قادتها، فإن المكان الذي ولدت فيه قادر على أن يتجدد إلى ما لا نهاية.

الهدف الثاني هو «تضفيف غزة»، أي نقل التجربة الإسرائيلية مع السلطة في الضفة الغربية إلى غزة. فهذه هي المرة الثانية التي تنصبّ فيها النار الإسرائيلية على فصيل واحد في غزة، ويتم العمل على المستويات العسكرية والسياسية المختلفة على تحييد الفصيل الثاني، أو إبقائه خارج المعركة الفعلية.

هذه اللعبة بالغة التعقيد، واللاعب الأساسي فيها ليس الإسرائيليين وحدهم، فبصمات الأنظمة العربية واضحة هنا، وهي متشعبة يلعب فيها العنصران الجغرافي والمالي دوراً حاسماً. الهدف هو تأسيس سلطة موازية لسلطة رام الله، لها شبكة مصالحها واعتباراتها التي تفرض عليها ممارسات معينة ومنطقاً من الحذر، يجعل من الفدائيين كبش المحرقة.

أتمنى أن يكون هذا الافتراض مخطئاً، لأن الخبرة الفلسطينية مع شبكة مصالح السلطة قادت إلى الوهن الشامل، الذي حوّل منظمة التحرير إلى طرف غير ذي صلة.

لا أتمنى فقط، بل أدعو إلى عمل جماعي من أجل مواجهة احتمال السقوط في هذه الهاوية. والمسألة تتعلق بمنظمتين كبريين هما فتح وحماس. يقظة قاعدة فتح وكوادرها من السبات سوف يعيد الأمور إلى نصابها ويحول المقاومة من بؤر صغيرة إلى موجة عارمة. كما أن انخراط حماس في المواجهة ومنع الاستفراد الإسرائيلي بالمقاومة سوف يضع آلة القتل الإسرائيلية أمام خيار صعب.

من المبكر الحديث عن نتائج وآفاق حرب الاغتيالات في غزة، غير أن الدرس الذي نتعلمه من دماء الأطفال وتضحيات الفدائيين هو أن المقاومة هي الطريق إلى الحرية والتحرر مهما كبرت التضحيات.

وسوم: العدد 1032