سوريا إلى أين بعد عودتها للحضن العربي؟

للتوضيح أولاً، لم يكن النظام السوري خارج ما يسمى الجامعة العربية إلا بروتوكولياً فقط، فقد اعترف هو نفسه بأن علاقاته مع العديد من الدول العربية بعيداً عن الأضواء كانت سمناً على عسل، ولم تتأثر كثيراً بالمقاطعة، وبعض الذين دعموا المعارضة توقفوا عن دعمها بعد الغزو الروسي لسوريا عام ألفين وخمسة عشر، وهذا يعني بالمحصلة أنهم بدأوا يتقاربون مع النظام منذ سنوات بعيداً عن الإعلام، لهذا لم نره يتحمس كثيراً عندما أعلنت الجامعة عن عودته رسمياً، وهذا شيء مريب جداً.

لا شك أن العودة تشكل بالنسبة له نوعاً من الانتصار الإعلامي فقط أمام مؤيديه، لكنه ليس ذا فائدة عظيمة «ستشيل الزير من البير» كما يقول المثل الشعبي، فلو بقي الوضع على حاله مجرد عودة رسمية للحظيرة العربية وفتح سفارات دون دعم مالي واقتصادي عظيم، فالعودة لا تعني شيئاً ذا قيمة لا بالنسبة للنظام ولا بالنسبة للسوريين الذين يرزحون تحت أفظع أزمة معيشية في تاريخهم، ناهيك عن أن الجامعة ليست الاتحاد الأوروبي الذي انتشل بلداناً مفلسة كاليونان بمعونات مالية خيالية، ولو حصل النظام لاحقاً على معونات، فهي لن تأتي أصلاً عبر الجامعة التي تضم العديد من الدول المفلسة أو الفاشلة، بل عبر بضع دول خليجية، وهذا يعني أن وجوده داخل الجامعة أو خارجها ليس ذا أهمية.

ثم ما فائدة الانضمام إلى جامعة يعاني العديد من دولها أزمات قاتلة ولا تستطيع الجامعة المزعومة أن تنقذ أحداً. لبنان مثلاً لم يكن مطروداً من الجامعة العربية وليس عليه عقوبات عربية أو دولية، وكل السفارات العربية موجودة عنده وعند بقية الدول الأعضاء في الجامعة، وليس لديه بلد مدمر يحتاج إلى مئات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار، ومع كل ذلك فلبنان في وضع يرثى له. تونس ليست خارج الجامعة العربية، وأزمتها على تعاستها أهون بمئات المرات من أزمة النظام السوري، لكنها مع ذلك تواجه كارثة على كل الأصعدة. العراق الكسيح موجود في الجامعة وساهم في إعادة النظام السوري إلى الجامعة، لكن ماذا استفاد العراق نفسه من الجامعة قبل أن يفيد النظام؟ ليبيا لم تكن مطرودة من الجامعة، لكنها اليوم تواجه خطر التقسيم. وحدث ولا حرج عن السودان اليوم الذي أصبح على كف عفريت وهو داخل الجامعة، ولا نستبعد أن تطال ناره دولاً عربية أخرى بشكل مرعب. الصومال موجود في الجامعة، وما أدراك ما الصومال؟ هل هناك ما يدعو للاحتفال بوجود الصومال داخل الجامعة العربية؟ ومصر ليست عضواً في الجامعة، بل تحتضن الجامعة على أرضها؟ وماذا يعني؟ بالأمس حملت مجلة «ناشونال انترست» عنواناً خطيراً يقول: «هل أصبحت مصر على وشك الانهيار؟» موريتانيا بدورها داخل الجامعة، ما هو وضعها اليوم؟ واليمن أيضاً عضو في الجامعة، بينما عشرات الألوف من أطفاله يموتون جوعاً، وحدث ولا حرج عن الوضع الكارثي داخل البلاد على كل الأصعدة؟

لا شك أن السوريين شعروا بخيبة أمل عظمى بعد عودة النظام إلى الجامعة، لأنهم رأوا فيها تبرئة له من كل ما فعله بسوريا والسوريين على مدى عقد من الزمن من تدمير وتهجير وتعذيب واعتقال وتنكيل

فلسطين لم تكن خارج الجامعة يوماً. كيف حالها الآن؟ باختصار، فإن المعيار الأول للدعم العربي سواء عبر الجامعة أو من الغني للفقير هو المعيار المالي حصراً. وهذا لم يعد متوافراً مطلقاً في هذا الزمن، ولو كان متوافراً لما كان اليمنيون واللبنانيون والسودانيون والمصريون والتونسيون على وشك الجوع. هل هناك نظام خليجي مستعد أن يقدم للنظام السوري مئات المليارات من الدولارات لينقذ سوريا ويعيد إعمارها؟ لقد أصبح تقديم المليار في هذا الزمن عملاً أسطورياً. لا تقل لي إن الخليجيين قدموا لمصر مائة مليار. نعم صحيح، لكن تعلموا الدرس، وهم اليوم يرفضون تقديم مزيد من الدعم ويضعون ألف شرط وشرط لمجرد الاستثمار في مصر التي تواجه اليوم خطر الإفلاس. وللعلم فإن وضع النظام السوري أسوأ بمائة مرة من كل البلدان المنكوبة أعلاه، فهو مفلس أصلاً وليس في حاجة للمال لإطعام الجائعين في المناطق المؤيدة فقط، بل يحتاج مئات المليارات لإعادة إعمار سوريا، إلا إذا كان مستمتعاً بالاستمرار بالحكم على حطام وطن ومعاناة شعب جائع. ماذا ستضيف له الجامعة بربكم، وماذا سيضيف هو لها غير «عضو» متهالك جديد عاد إلى حظيرة الساقطين المفلسين البائسين المنكوبين؟ الغريق لا يمكن أن ينقذ الغريق. وانتظروا مزيداً من الغارقين…الكبار. ماذا يمكن أن نقول بعد ذلك غير ترديد المثل الشعبي: «التم المتعوس على خايب الرجا» أو «عصفور يكفل زرزور».

لا شك أن السوريين شعروا بخيبة أمل عظمى بعد عودة النظام إلى الجامعة، لأنهم رأوا فيها تبرئة له من كل ما فعله بسوريا والسوريين على مدى عقد من الزمن من تدمير وتهجير وتعذيب واعتقال وتنكيل. وهذا من حقهم، فقد اعتبروا العودة إهانة لملايين اللاجئين والمعتقلين والشهداء، لكن مع ذلك، هل تستطيع الجامعة أن تحمي النظام ورموزه عندما تنتهي أدوارهم التخريبية؟ بالطبع لا، فبالرغم من أن العرب أعادوا تأهيل النظام بضوء أخضر أمريكي لا تخطئه عين، لكن السوط الأمريكي مازال مسلطاً على ظهر النظام، فبعد يوم واحد من عودة النظام للجامعة أكد البيت الأبيض أن قانون قيصر لن يسمح للعرب بدعم النظام، وأن قانون الكبتاغون في طريقه إلى التنفيذ، وأن الجرائم الكيماوية ستبقى تلاحق النظام رغم عودته للجامعة، ناهيك أن الطيران الأردني انضم إلى الطيران الإسرائيلي في انتهاك حرمة الأراضي السورية بحجة ملاحقة عصابات المخدرات. والأهم من كل ذلك، أن الوضع المعيشي للسوريين لن يتحسن على ضوء العقوبات الأمريكية والغربية عموماً، وأن قانون قيصر سيمنع أي محاولة لإعادة الإعمار. لا شك أن السوط الأمريكي قادر أن يفرض على العرب دفع المليارات للنظام لو أرادت أمريكا، خاصة وأن العرب مجرد ممولين للمشاريع والخطط الأمريكية، لكن متى يمكن أن يصدر الضوء الأخضر الأمريكي على ضوء استمرار الصراع الدولي والإقليمي والعربي على الأرض السورية وعدم التوصل إلى حل بين القوى المتصارعة، هذا إن صدر أصلاً؟

عندما أرى المليارات بدأت تتدفق على سوريا بمباركة ومشاركة ورقابة أمريكية وأوروبية وعربية، عندئذ بإمكان النظام والسوريين أن يعتبروا أن الفرج قد وصل أخيراً، أما العودة إلى ما يسمى الحضن العربي، فهي كعودة ذلك الإعرابي بخُفي حُنين. وقد سخر أحد السوريين من الذين اعتبروا العودة إلى الجامعة انتصاراً قائلاً: «الانتصارات يجب أن نراها ونلمسها برغيف الخبز وكيلو البندورة وليتر الزيت. وحتى المساعدات العربية البسيطة التي وصلتنا بعد الزلزال لم يصل منها شيء للجوعى والمنكوبين، بل باعها النظام وعصاباته وتاجروا بها».

وحتى لو تبرعت الدول الخليجية بمليارات الدولارات (وهو مستبعد جداً) فلن يستفيد منها الشعب شيئاً، فهذا النظام وأمثاله عبارة عن ثقب أسود يبتلع كل شيء. هل أنفق دولاراً واحداً من عشرات المليارات التي يجنيها من تجارة المخدرات على الشعب؟ بالطبع لا. وحتى لو حصل على تعويضات من الخليج مقابل التوقف عن تهريب المخدرات كما كشفت رويترز، فكلها ستذهب إلى حساباته الخاصة بالخارج. هل بعد كل ذلك هناك سوري بكامل عقله يمكن أن يتوسم خيراً بعودة سوريا إلى الحظيرة العربية؟

وسوم: العدد 1032