السلوك الإسرائيلي تجاه سوريا بين عهدين

مع كل حدث جسيم تمر به الأمة، تشرئب أعناق فريق أسميه فريق التخوين، يغترف لنا من بئر سحيق ما يصدم عقولنا، وينسف معطيات الواقع ويضرب بها عرض الحائط، كانت آخر ممارساته القول إن الحكومة السورية الجديدة التي أفرزتها الثورة، جاءت بالتفاهم والتنسيق مع الكيان الإسرائيلي.

لكن من المؤكد أن فريق التخوين، انزوى بعيدا في ظل الحالة الراهنة، التي تعكس التباين الواضح في سلوك الاحتلال تجاه سوريا بين عهدين، عهد بشار الأسد، وعهد الحكومة السورية الجديدة التي تعد إنجازا ثوريا. كل شيء كان هادئا في سوريا في ما يتعلق بالكيان الإسرائيلي، نتنياهو نفسه صرح من قبل بأنه لا مشكلة مع بشار الأسد، الذي لم يطلق رصاصة واحدة على الإسرائيليين، على الرغم من احتلال الجولان منذ عام 1967، وحتى في الأوقات التي كان يشن الاحتلال غاراته على الأراضي السورية ضد مواقع انتشار عناصر الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في الجغرافيا السورية، كان بشار يخرج في كل مرة يردد العبارة نفسها: «نحتفظ بحق الرد»، ولم يأت الرد حتى تاريخ سقوط نظامه، الذي لم يكن من ضمن أولوياته التصدي لعربدة الاحتلال.

ولكن ما إن سقط نظام بشار، حتى سارع الاحتلال باجتياح المنطقة العازلة على الحدود السورية، التي أُنشئت وفقا لاتفاقية فك الاشتباك بين سوريا والاحتلال في مايو 1974، وتوغلت قواته في مناطق في جبل الشيخ، بدعوى تأمين حدوده، كما شنت غارات عنيفة على قواعد عسكرية وطائرات وأنظمة صواريخ ومخازن أسلحة لتدمير القدرات العسكرية السورية خشية وقوعها بقبضة الحكومة الجديدة. وحتى بعد تولي أحمد الشرع رئاسة الجمهورية السورية، وتصريحاته التي تحمل رسائل طمأنة للجميع بمن فيهم الاحتلال الإسرائيلي بأن سوريا تتجه للبناء الداخلي، ولا تفكر في الدخول في حرب مع الإسرائيليين ولا غيرهم، لم يكف جيش الاحتلال عن استهداف الأراضي السورية، كان آخرها مساء الثلاثاء من الأسبوع المنصرم، حيث نفذ غارات على محيط منطقة الكسوة جنوبي دمشق، مع التوغل البري على عدة محاور في القنيطرة ودرعا.

ليست الغارات هي المظهر الوحيد للسلوك العدائي لإسرائيل تجاه سوريا في حقبة الإدارة السورية الجديدة، لكنها تعمل في عدة مسارات متزامنة لإضعاف وتفكيك سوريا. فمن جهة، يسعى نتنياهو لتغذية النزعات الانفصالية وتوجيه الخطاب إلى المجموعات الطائفية داخل سوريا، وقبل ساعات من كتابة هذه السطور، وجّه نتنياهو ووزير الحرب كاتس، جيش الاحتلال إلى حماية مدينة جرمانا بريف دمشق بدعوى حماية الدروز، مهددا الحكومة السورية بالرد حال تعرض الدروز في سوريا للأذى، وفي الوقت نفسه ذكرت قناة «كان» الإسرائيلية أن وزارة الحرب نظمت إجراءات لتنظيم دخول عمال دروز من سوريا للعمل في بلدات إسرائيلية بمرتفعات الجولان المحتل. ومن جهة ثانية، يسعى نتنياهو لجعل الجنوب السوري منطقة معزولة السلاح، وقد صرح وزير الحرب الإسرائيلي بذلك في معرض التعليق على الضربات الموجهة للأراضي السورية، موضحا أنه جزء من السياسة الجديدة التي تم تحديدها بشأن نزع السلاح في المنطقة، وجاءت هذه الضربات بالأساس بعد توجيه نتنياهو تهديدات بشأن الجنوب السوري، وأنه لن يسمح بانتشار الجيش السوري الجديد في محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة.

ومن جهة أخرى، يسعى نتنياهو للإبقاء على الوجود الروسي في سوريا، ولهذا الغرض أرسل سكرتيره العسكري إلى موسكو، وفقا لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، وفي سياق متصل كشفت وكالة رويترز عن مصادر مطلعة أن إسرائيل تضغط على أمريكا من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، والسماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد، حسب رويترز. هذا السلوك الإسرائيلي العدائي تجاه سوريا الجديدة، الذي يختلف تماما عن مواقفها السابقة تجاه سوريا الأسد، يعكس حالة القلق التي تعيشها إسرائيل من نجاح الإدارة السورية في تحقيق هدفها وهو بناء دولة قوية موحدة ذات مؤسسات وجيش وطني قوي. إسرائيل كانت تخطط لتقسيم سوريا إلى دويلات مع الإبقاء على بشار الأسد على رأس دولة منها، وأدركت أنه لن تقف قوة في وجه فصائل الثوار المتطورة للوصول إلى السلطة. لكنها تعلم جيدا أن الهدف الذي تعمل عليه الإدارة الجديدة في سوريا، هو سوريا جديدة قوية موحدة لا مكان فيها للفيدرالية، ولا قوة فيها غير جيشها الوطني، ومن ثم لن يحل الشرع محل بشار في مخطط التقسيم، ولذا يعمل نتنياهو حاليا على إضعاف النظام الحالي، وتجريده من الإسناد الخارجي، وتغذية النزعات الانفصالية، ومنع انتشار الجيش في أرجاء الدولة، إضافة إلى السيطرة على الجنوب الذي يضم كثافة درزية، وإقامة دولة كردية في الشمال، وهذا الكلام تؤيده تقارير غربية، من بينها مقال نشره موقع ميدل إيست آي، لرئيس تحريره دافيد هيرست يتناول هذا الشأن.

هذا التصعيد الإسرائيلي يزيد الضغط على حكومة الشرع، الذي يركز على بناء الدولة في هذه المرحلة، وإزاء تحقيق هذا الهدف يتحمل العربدة الإسرائيلية، التي تريد جرّه إلى الصراع لإنهاء الدولة الجديدة قبل ولادتها، فالإدارة الجديدة وإن أخرجت سوريا من العباءة الإيرانية، فإنها لن تتجه قطعا للدخول في العباءة الإسرائيلية، بما يعني أن سوريا قد تكون دولة مركزية في محور مناهض لإسرائيل التي تحتل جزءا من أرضها لن يُنسى.

التزام الشرع بالمسار الدبلوماسي والسياسي ومحاولة تحريك المجتمع الدولي لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، هو الخيار المنطقي الوحيد بعيدا عن خيار الحرب التي يراد سحبه إليها في هذا التوقيت الحرج. لكن ما ينبغي على الشرع بالتوازي مع ذلك المسار، العمل على بناء تحالفات دولية قوية مع دول كبيرة بحجم روسيا والصين، ومع دول إقليمية لها ثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري، خاصة مع السعودية، التي يمكن أن تكون عنصرا فاعلا في التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن السلوك الإسرائيلي تجاه سوريا، وكذلك العمل على مزيد من تعزيز وتمتين العلاقة مع تركيا التي يقتضي أمنها القومي منع قيام دولة كردية على حدودها، فينبغي تسريع التفاهم مع تركيا بشأن الوصول إلى اتفاقية دفاع مشترك، والاستفادة القصوى منها في تسليح وإعداد الجيش الوطني السوري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 1118