آسيا جبار... وجه للتغريب

عبد العزيز كحيل

[email protected]

كتبتُ عنها منذ عشرين سنة ، وقد عرفُتها من كتاباتها ومواقفها فرنسيةً أكثر من الفرنسيّين وتغريبيةً أكثر من الغربيّين ومتحاملةً على الإسلام وحقائقه وتاريخه أكثر من المستشرقين وداعيةً إلى الفكر الغربي مثل غلاة العلمانيّين ، لم تقدّم للجزائر شيئا خلافا لادّعاءات أصحاب المشروع المناوئ للدين والعربية والأخلاق ، وماذا تقدم لها وهي غريبة عن الشعب ودينه ولغته وبعيدة حتى عن أرضه ، تعشّقت فرنسا والفرنسية فعاشت هناك وماتت هناك ، ولا أدري لماذا أصرّوا على دفنها هنا بين أقوام لا علاقة لها بهم ، وقد أحبّتها الدوائر الاستشراقية واحتفت بها ورشّحتها أكثر من مرّة لنيل جائزة نوبل في الأدب – وترشيح هذه الدوائر لها يدلّ على توجّهها الفكري والحضار ي  فلمّا أعياها ذلك ضمّتها إلى " الأكاديمية الفرنسية " ، وهي أعلى مؤسسة للغة الفرنسية وثقافتها ، لا يحظى بعضويتها إلا من أثبت ولاءه التام لفرنسا لغةً وثقافةً وانتماءً حضاريا ، وتفانى في خدمتها ، وهي صفات توفّرت في آسيا جبار إلى أبعد حدّ.

ولا يخفى على متتبّع للحرب الثقافية الدائرة رحاها على مستوى العالم وعلى الاسلام بوجه خاصّ أنّ الأوساط التي تقود هذه الهجمة الممنهجة قد كوّنت مجموعة من الأكاديميّين والكُتّاب والفنّانين من أصول عربية ومسلمة يتوزّعون في الإقامة بين أوروبا – وفرنسا تحديدا – وبلدانهم الأصلية ، يتبنّون الفكر الغربي تبنّيا يتّسِم بالانبطاحية والغلوّ ، يعملون في إطار مشروع تغريبي شامل متكامل يهدف إلى تغريب المسلمين وغزوهم ثقافيا بواسطة " تجديد " الاسلام ، وهو تجديد يتلخّص في إعادة قراءة منظومته كلّها قراءة علمانية بحتة تُفرغه من محتواه الديني ولا تُبقي له قداسة بأيّ شكل ، وكان من نصيب الأدباء في إطار هذا المشروع توظيف التاريخ الاسلامي في كتاباتهم توظيفا مغرضا مليئا بالتحريف والشبهات وقلب الحقائق، سواء على مستوى الأحداث أو الرموز ، فكتب الطاهر بن جلون في الثمانينيات من القرن الماضي روايته " الليلة المقدّسة " – إشارة إلى ليلة القدر - وهي عبارة عن استهزاء بالقرآن الكريم ومعلّميه وأخلاقه ، في جوّ من المجون والفسق ، أما أسيا جبار فقد ألّفت روايتين في الفترة ذاتها جعلت بطلتَهما السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، ولخّصت دور ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم في امرأة جريئة متحرّرة ترفض الاسلام " الرجالي " وتناضل من أجل حقوق النساء وتحريرهنّ من ربقة دين يضيّق عليهنّ ويستعبدهنّ ، وقد وضعت لكلّ واحدة من الروايتين عنوانا موحيا ، فالأولى سمّتْها :  " بعيدًا عن المدينة " والثانية : " التي قالت لا للمدينة " ، أي أن السيدة فاطمة اتخذت منهجا آخر غير ما عليه المدينة المنوّرة ، ثم رفعت صوتها لتقول لا لنموذج الدولة الاسلامية القائم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ... هكذا صارت أفضلُ نساء العالمين زعيمة لما يُسمّى " الفيمينيست " داعيات تحرير المرأة !!!  و الكاتبة المتوفّاة واحدة منهنّ ، يسارية – أو ليبرالية ؟ ما الفرق ؟ - متشبّعةٌ حتى النخاع بالقيم الغربية وتريد إعادة بناء الاسلام كله وفق هذه القيم تماشيا مع خطّة المشروع التغريبي المتكامل الأركان الذي يمكن تسميته بالاستشراق العربي ، والذي جنى على كلّ ما له صلة بالإسلام ، فزملاء آسيا جبار " التقدميّون "  شكّلوا من أبي ذرّ رضي الله عنه رجلا اشتراكيا منحازا للفقراء بينما شكّلوا من عثمان رضي الله عنه إقطاعيا ظالما للطبقات المحرومة ، أما عمرو بن العاص رضي الله عنه فسياسي مخادع لا دين له ولا خلق إلى غير ذلك من تحريفهم الذي طال حتى الرسول عليه الصلاة والسلام الذي خلعوا عليه لقب " أوّل اشتراكي " في التاريخ ، وذلك أثناء فترة حكم بومدين  ، والحقيقة أنهم بذلك يشوّشون على الاسلام ذاته ويرفضون جميع رموزه بدءا بالذين يتظاهرون بتبجيلهم ، وما يفعلون ذلك إلا مراوغة لأن مثلَهم الأعلى هو الغرب الذي تحلّل من الدين والأخلاق وقطع صلته بالسماء تمامًا .

ولهذه الأديبة – كما لغيرها – أن تختار المنهج الذي تريد ، فذلك شأنها ، لكنّ العجب يكمن في مؤسسات ثقافية وإعلامية وسياسية " وطنية " تحتفي بها وتجعل منها ومن أمثالها أبطالا ووجوها بارزة في البناء الوطني يستحقون التكريم أحياء وأمواتا ، وهذه المرأة اختارت بوضوح فرنسا كوطن ومرجعية ولغة ، فعاشت وماتت هناك ، غير مبالية بالجزائر وشعبها ولغتها وهمومها ، سائرة في ذلك على درب كاتب ياسين ومحمد ذيب ومحمد أركون الذين قطعوا صلتهم ببلدهم ماديا ومعنويا ، وانحازوا إلى فرنسا قلبا وقالبا ، ومع ذلك تريد الأوساط المتحكّمة في ساحتنا أن نتخذهم أبطالا رغم أنوفنا.

ولا عجب في ذلك ، فكلّ من يعادي الاسلام مرحّب به لصدّ لما يسمّونه المشروع الظلامي ، وقد تجرّؤوا فأحيوا تراث عائلة قبائلية تنصّرت منذ نحو قرن من الزمان – هي عائلة عمروش – فجعلوا من  المسمّاة الطاوس أديبة وفنانة تمثّل أصالة الجزائر وعمقها ، وجعلوا من أخيها – الذي غيّر اسمه من موهوب إلى جان – شاعرا فحلا يجب أن تفتخر به الأجيال ، وما فعلوا ذلك إلا نكاية في التوجّه العربي الاسلامي الذي لا يبغي الشعب حِوَلا.