من نفحات الجهاد في شعر إقبال

أ.د. أحمد حسن فرحات

إقبال شاعر الإسلام الأول، وفيلسوفه الكبير، درس الإسلام دراسة واعية، وأحاط بالفلسفة إحاطة شاملة، وخاض معترك الحياة مجاهدا بفكره وشعره، فصور واقع المسلمين، وبين أسباب انحطاطهم، ووضع أسس نهضتهم، وصاغ ذلك كله ألحانا شعرية رائعة، هزبها مشاعرهم، وحرك أوتار قلوبهم، وأعاد الأمل الى نفوسهم.

لن نتحدث في هذه الكلمة عن الشاعر وحياته، ولا عن شعره وفلسفته، وإنما سنكون مع لحن الجهاد في شعره، ذلك اللحن الذي ما تزال تسير على أصدائه قوافل الجهاد، وتردده جنبات الكون الفسيح.

فتح اقبال عينيه على الوجود، فكان أول ما اكتحلت بع عيناه، ذلك ا لتخلف الذي يعانيه المسلمون في كل مكان، وذلك الذي يرتسم على جباههم، بعد أن طأطؤا رؤوسهم للمستعمرين، وقعدوا عن فريضة الجهاد، حبا في الحياة الذليلة، وكراهية للموت الكريم.

وهنا وجد اقبال أن من واجبه أن ينقذ المسلمين، من الهاوية التي صاروا إليها، وكان لازما عليه أن يزهدهم با لحياة الدنيا الفانية، التي يجدر بالمسلم أن لا يتشبث بها أو يتعلق بأذيالها، فكل ما فيها إلى الزوال ...

 هذه الأنوار المتلألئة تنطفئ، وهذا الأصيل يبكي على نعش الشمس الذاهبة، وهذا شعاع الكواكب النحيل يتوارى في أكناف من سنا البدر المنير.

تحت نور الأفلاك عيش جميل          وأرى النور ينطفي ويحول

وعلى كاهل المساء ترى للشــم          س نعشا بكى عليه الأصيــــل

في سنا البدر للكواكب اكــفان            توارى بها الشعاع النحيــــل

والجمال أيضا قصته قصة االنور، فهذه الزهرة التي تبدو هناك وعلى ثغرها ابتسامة جميلة تزينها قطرات االندى، لا تلبث أن تأ تيها رياح الخريف فتحيلها أوراقا يطويها التراب، وتعفي عليها الأقدام:

ورياح الخريف تكمن للزهر                وفي ثغره ابتســـــام بليل

ثم تأتيه ساعة يذهب الزهــر                هشيما وقد طــواه الذبول

وإذا كانت الحياة كلها كدحا ونصبا، فكيف أتى الإنسان إليها ومتى يرحل عنها؟

لا يعلــم الإنسان كـيف أتى             إلى الدنيا المتاعب ومتى يرحل ؟

ما نحن في الأكوان غير حديقة            أزهارها عما قـــيل تذبـل

غير أن حب الخلود في الحياة ما زال يداعب أحلام البشر، فهم يفتشون عن دواء يدفعون به الموت، يفتشون عنه في نغم العود، وفي شكوى الحزين، وفي ابتسام البشر، ودمع الانين، كما يفتشون عنه، في امتشاق السيف بين الدارعين، وصدى التكبير بين الهاتفين، ولكن الموت لا مفر منه، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

لا نغم الـعود ولا شكوى الحــزين       ولا ابتسام االبشر أو دمـع الأنين

ولا امتشاق السـيف بين الدارعـين        ولا صدى التكبير بين الهـاتفين

يعيد نبض القلب في الصدر الخراب        أو يرجع ا لنفس إذا حان الذهاب

وإذا لم يكن هناك أمل في الخلود فعلى الإنسان أ ن يشمر عن ساعد الجد وأن يخوض غمار الحياة  بما فيها من أسى وأنين وبكاء، وان يبتعد عن اللهو واللعب والغناء، فالذي لا يدمي الشوك أنامله الرقيقة حين يقطف الزهرة العطرة لا يستطيع أن يدرك سر الحياة:

إن الذي لم يدرك أنات المسـاء          ولم يسامر عينيه نجم السمـاء

ولم يحطم جـام قلبه الأســـى             ولم ينر ظـلام ليله البـكـاء

والسادر اللاعب طول عمـــره            لم يستمع إلا إلى عذب الغنـاء

والعاشق المحروم في غرامه            من لوعة الذكرى وحسرة الجفاء

ومجتني الزهر الذي لم تختضب        يداه في الشوك بحمرة الدمـاء

جمـيع هـؤلاء مهما سـعدوا              من نعم الدنيا بأمن ورخـاء

فإن أسرار الحيــاة تختفي              عنهم وهم عنها دوا ماً في اختفاء

وإذا لم يكن هناك أمل في الخلود في الحياة الدنيا، فهناك أمل في الحياة الآخرة، هكذا يعتقد المسام، إن الدنيا ليست هي نهاية المطاف، وإنما هناك حياة أخرى، ينتظر المسلم فيها نعيما مقيما وعيشا رغيدا، وليس يعني- وضع المسلم في قبره تحت التراب- أن لا تمتد إليه يد البعث ثانياً، فهذه البذور توضع في الأرض فلا تموت، وإنما تدب فيها الحياة من جديد.

لقد دفنوا في التراب البذورا               فلم تفن في لحدها الهامد

ولم تنطفئ نارها في الحياة              على طول مرقدها البارد

لــقد نسجت للحيـاة القباء               وصاغت من الزهر أبهى حلاه

نما غصنها زهراً واستعادت            من الموت تجديد ذوق الحياه

وإذا كان هذا شأن الحياة، كما يصورها إقبال، فا ن واجب المسلم فيها كبير كبير، إنه واجب القيام بحق الخلافة في الأرض، واجب القيادة لركب الإنسانية الحائر وا جب حمل مشعل النور الذي يبدد ليل الحائرين، ويصل بسفين الحق إلى الشاطئ المأمون.

إن هذا العصـر ليل فأنر               أيها المسلم ليل الحائرين

وسفين الحق في لج الهوى             لا يرى غيرك ربان السفين

ليس في الوقت فراغ فاعتزم            وأملأ الدنيا بأعمال شريفه

أنت نور الأرض تهدي أهلها          لن يرى غيرك في الأرض خليفة

والمسلم بعمله هذا يقدم للإنسانية الزهر والثمار، من حيث يقدم غيره الشر والنار.

نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً            وسوانا يبعث النار ضراما

كل نمرود إذا أوقد ناراً                 عادت النيران بردا وسلاما

ونحن في سبيل ما نقدم للإنسانية من خير ورفاه، لا تقعد بنا عقبة، ولا نرهب أحدا ولا نخشى إلا الله:

نحن بالإيمـــان نبني عزنا                لا نبالي الهول أو نخشى الصعابا 

وإذا البغي رمى في غرسنا             جذوة الظلم جعلناها ترابا

والمسلم في سلمه، لا تفارق شفتيه ابتسامته الرقيقة رقة الماء، واللينة لين الحرير، ولكنه في حربه أقسى من الحديد، واصلب من الصخر:

يبتسم المسلم في سلمه              عن رقة الماء ولين الحرير

وتبصر الفولاذ في عزمه           إذا دعا الحرب ونادى النفير

هذا هو الجهاد في الإسلام وهكذا كان المسلمون الأوائل يجاهدون، لقد حملوا السيوف ليرفعوا اسم الله عاليا، غير أن أذانهم بمعابد الإفرنج كان يسبق كتائبهم بفتح البلاد والأمصار، كما أن ظلال سيوفهم، كانت كظلال الحدائق الخضراء، التي تنبت الزهر وتعطي الثمار...

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع ا سـ          ـمك فوق هامــات النجوم منارا

كنا جـــبالا في الجبال وربما                ســرنا على موج البحار بحــارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا                  قبل الكتائب يفتح الأمصـــارا

لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها               سجداتــنا والأرض تقذف نارا

وكـــأن ظل السيف ظل حديقة           خضـــراء تنبت حولها الأزهارا

كنا نـقدم للسيوف صدورنا               لم نخش يوما غاشما جــــبارا

كــنا نرى الأصنام من ذهـب            فنهدمهـا ونهدم فوقها الكفــــارا

رحم الله إقبالا، وألهم المسلمين طريق العمل... طريق الحق والقوة والسلام.

 

عروبة وإسلام

أنا أعجمي الدن لكن خمرتي                 صنع الحجاز وروضها الفينان

إن كان لي نغم الهنود ولحنهم           لكن هذا الصوت من عدنان

محمد اقبال

وسوم: العدد 875