الحياة الاقتصادية في مكة في العصر الجاهلي

الحياة الاقتصادية في مكة

في العصر الجاهلي

محمد أفقير(صهيب)

باحث في تاريخ الإسلام

[email protected]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

وبعد؛ لم يعرف المكيون الفلاحة والزراعة خلال حقبة الجاهلية (ما قبل ق.7م)، بسبب العوامل المناخية والطابع التضاريسي الجبلي الصحراوي للمنطقة، وقد كانت الفلاحة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي في باقي بلدان العالم، لارتباطها بالحياة المعيشية للمواطنين، ولتواضع وتأخر القطاعات الاقتصادية الأخرى كالخدمات والصناعة. فما النشاط الاقتصادي السائد بمكة وبباقي بلدان جزيرة العرب؟.

          ذكر القرآن الكريم على لسان النبي إبراهيم عليه السلام أن مكة كانت وادياً غير ذي زرع فسأل ربه قائلاً: [ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون]([1]). فكانت بداية الحياة بمكة في مرحلة الجاهلية المتأخرة مع حفر بئر زمزم أيام عبد المطلب(ت45ق.هـ)([2]).

          عانى أهل مكة من شح مياهها وقلة أمطارها، مما دعا بعض الإخباريين إلى تفسير اسم مكة بأنها مشتقة من (مك) لقلة مائها، "قيل: سميت بذلك لقلة مائها، وذلك أَنهم كانوا يَمْتَكُّون الماء فيها أي يستخرجونه([3]). فندرة المياه دفعت السكان إلى حفر الآبار لاستعمالها في الشرب والاغتسال، وفي الاستعمالات المنزلية المختلفة، وفي الري منذ عهد قصي بن كلاب. يذكر في المصادر أن قصيا عندما تولى رئاسة قريش حفر بمكة بئراً يقال لها العجول، كان العرب يردونها عندما يقدمون إلى مكة وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة([4]).

          وللإشارة، فإن سكان مكة قبل قصي كانوا يشربون من "حياض ومصانع عَلَى رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها لؤي بْن غالب خارج الحرم تدعى "اليسيرة"، ومن بئر حفرها مرة بْن كعب تدعى "الروى"، وهي مما يلي عرفة ثُمَّ حفر كلاب بْن مرة "خم" و"رم"، و"الجفر" بظاهر مكة"([5])، وذكر ابن الضياء(ت854هـ/ 1450م) في "تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام" آبار أخرى كانت موردا لقريش بمكة([6]). وازدادت حاجة سكان مكة إلى المياه الجوفية بفعل التكاثر الطبيعي بعد قصي، إذ لم يعد بئر "العجول" يكفي لسد حاجياتهم، فعمد أبناؤه وأحفاده إلى حفر الآبار في تلك الأراضي الجافة. غير أن أهمية بئر زمزم التي أحياها عبد المطلب(ت45ق.هـ) كانت أهمها لعذوبة وكثرة وبركة مائها. لكن غياب السدود والأنهار وقلة التساقطات حرم مكة من ممارسة النشاط الفلاحي.

          لقد منعت تلك الظروف المناخية الجافة المكيين من مزاولة النشاط الزراعي، ودفعتهم إلى التركيز على النشاط التجاري، حتى أصبحت التجارة والضرائب التي كانت تجبى على القوافل المارة بمكة أهم مورد للمكيين ومعاشهم. يذكر أنه كانت تفرض في أسواق العرب ضرائب على السلع التي تدخل السوق، منها ضريبة المكس. قال ابن دريد(ت321ه/ 933م): "المَكْس دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلَع في الجاهلية، والفاعل ماكس"([7]). قال الشاعر: أفي كل أسواق العراق إتاوةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي كل ما باع امرؤ مَكْسُ دِرْهَمِ"([8]).

ولما كانت قريش تسكن مكة، في مجال جغرافي غير فلاحي  يتوسط اليمن والشام، فقد اتخذ القريشيون التجارة مهنة لهم ومصدرا اقتصاديا رئيسيا، وغدا تجار قريش يخرجون في قوافل عظيمة تضم الآلاف من التجار والإبل([9])، يتقدمهم الأدلاء العارفون بالمسالك والحراس([10]). كانت القوافل التجارية تتجه نحو بلاد الروم وبلاد الفرس والحبشة واليمن. في ناحية الشام؛ كانت القوافل تنزل في أسواق محددة عينتها الحكومة الرومانية لجباية الضرائب، ومراقبة الأجانب الوافدين. وكانت هذه القوافل التي تقصد البلاد الرومانية تنزل أولا في أيلة (العقبة) ومنها تذهب إلى غزة، ثم من غزة إلى نواحي الشام([11]), ومن دون شك، أن يكون العرب قد استفادوا في رحلاتهم التجارية، في بلاد الروم والفرس والحبشة، من ثقافاتهم وآدابهم وأنظمة حكمهم وتنظيمهم للأسواق والضرائب، وكذلك من اللغة والعادات، يؤيد هذا الاحتمال ما يوجد في اللغة العربية من ألفاظ فارسية، ورومانية، ومصرية، وحبشية، منها ما خلده الله جلت حكمته في القرآن الكريم من ألفاظ أعجمية كالسندس والإستبرق في قوله تعالى: Cوَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًاB([12]). وللإشارة فإن السندس والإستبرق هو الديباج الصفيق الغليظ الحسن([13]).

          ولقد وجد بالقرب من مكة مرفأ على ساحل البحر الأحمر، استعمل في التجارة هو الشُّعَيْبَةِ قِبل جدة([14])، ترسو فيه المراكب. كان سكان الحبشة القادمين إلى مكة للبيع والشراء، أو لأداء مناسك الحج أو للسياحة ينزلون فيه([15]). وتذكر الكتب الإخبارية أن المهاجرين/ اللاجئين إلى الحبشة انطلقوا من هذا المرفأ في رجب من السنة 5 من النبوة، قال ابن سيد الناس(ت734هـ): "خرجوا متسللين سرا حتى انتهوا إلى الشُّعَيْبَةِ، منهم الراكب ومنهم الماشي، فوفق الله لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار، فخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر من حيث ركبوا فلم يجدوا أحدا منهم([16]). ومن المؤكد أن هذا المرفأ قد مكن مكة من الانفتاح على العالم الخارجي سياحيا وتجاريا.

          وموقع مكة الإستراتيجي الواقع في نقطة المنتصف بين أهم المناطق التجارية في العالم آنذاك؛ فارس والشام واليمن والحبشة وإفريقية والهند، مكنها من الإمساك بزمام النشاط التجاري، مستفيدة من النزاع الدائم بين الإمبراطوريتين؛ الفارسية والرومية حول السيادة والنفوذ، وبين الدول/ الإمارات المؤيدة لهما. وقد أوجد التجار طريقين تجاريتين؛ طريق في اتجاه العراق، التي كانت تابعة للدولة الفارسية، وطريق أخرى متجهة نحو بلاد الشام التابعة للدولة الرومانية. يستعملونها حسب الظروف المناخية والأوضاع الأمنية. فمثلا سلك أبو سفيان(57هـ/ 652م) طريق العراق بدل الطريق المؤدية إلى الشام، لما خاف على تجارته من جنود الرسول ، بعد تصاعد الأزمة بين جماعة الدعوة وفريق المعارضة القرشية في السنة 2ه. قال ابن إسحاق(ت151هـ/ 768م): "إن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق"([17]).

          ولقد ذكر القرآن الكريم الخط التجاري الرابط بين مكة واليمن الواقعة جنوب مكة، وبين مكة ومنطقة الشام الواقعة في الشمال، في قول الله جل وعلا: Cلِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِB([18]). في الآية إشارة إلى نشاط سكان مكة الرئيسي ومتاجرتهم مع الشام واليمن. جاء في تفسير ابن كثير(ت774هـ/ 1373م)، المراد بالآية: "ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام في المتاجرة وغير ذلك، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم؛ لعظمتهم عند الناس، لكونهم سكان حرم الله، فمن عَرَفهم احترمهم، بل من سار معهم أمن بهم"([19]). أثبت المؤرخون والمفسرون بأن رحلة الشتاء هي رحلة تجارية كانت وجهتها اليمن، ورحلة الصيف كانت وجهتها بلاد الشام([20]). ولا شك أن التجار المكيين كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين السنويتين، مستفيدين من الأمن المتوفر في المنطقة، بنص القرآن الكريم: Cالَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمنهم من خوفB([21]). وأما الشامي(ت942هـ/ 1536م) فقد رأى أن رحلة الشتاء كانت إلى الحبشة، وأن المقصود بالإيلاف أمان الطريق، الذي أخذه هاشم بن عبد مناف من ملك الروم في عهده([22]). وأيا ما كانت الروايات فلا تعارض بينها، فالمشهور عند كتاب السيرة والمؤرخين أن الرحلة كانت إلى اليمن، وأن من الثابت تاريخيا أن اليمن كانت قد خضعت لأبرهة الحبشي. وربما كان الشامي(ت942هـ/ 1536م) يقصد بها اليمن وما تحت النفوذ الحبشي. فقد ثبت أن التجارة كانت تتم أيضا مع مملكة الحبشة، وقصة أبرهة الحبشي مع الكعبة المشرفة مشهورة، فقد كانت الغاية من احتلالها وهدم الحرم السيطرة على التجارة بالمنطقة، بتحويل المركز الديني إلى الحبشة، وذلك بهدم الكعب المشرفة وبناء كنيسة القُلَّيْس الضخمة بصنعاء، التابعة لمملكة النجاشي لتصبح مركزا للتجارة الإقليمية والدولية([23]).

          استطاعت التجارة أن تعوض قريشا النقص الحاصل في النشاطين الفلاحي والصناعي، وإكراهات الوسط الجغرافي. والظاهر أن أهل مكة كان فيهم تجار كبار، يسهمون في تنشيط التجارة، ومن أبرزهم: أبو بكر الصديق(ت13هـ)([24])، وأبو طالب(3 ق.هـ/ 619م)([25])، وأبو سفيان(ت30هـ/ 652م)([26])، والوليد بن المغيرة(ت1هـ/ 622م)(1هـ)([27])، وصفوان بن أمية(41ه‏)، وأبو العاص بن الربيع(12هـ)([28])، والحجاج بن علاط البهزي([29])، وآخرون من أثرياء مكة.

          وكانت للتجار المكيين تجارات خاصة مع فلسطين وغزة والعراق وبلاد فارس، ومواضع من جزيرة العرب([30]). وذكر جواد علي(ت1408هـ) أن مكة كانت تربطها بباقي المناطق علاقات تجارية أخرى طوال السنة، قال: كانت هناك "تجارات لا علاقة لها برحلتي الشتاء والصيف، وكان لبعضها تجارة مع الأنبار والحيرة في العراق، وكان لبعض آخر تجارة مع بصرى وغزة وأذرعات في بلاد الشام, وكان لآخرين تجارة مع بلاد اليمن, وكان للأسر الغنية الثرية اتصال تجاري مع كل هذه المواضع, وتعاملت مع كل الأماكن المذكورة"([31])، وأضاف: "ولها وكلاء يبيعون لها ويشترون, كما كانت هي تتوكل لتجار العراق وبلاد الشام واليمن، وتجني من هذا التعامل أرباحًا طيبة"([32]).

          بالإضافة إلى الموقع الإستراتيجي، استفادت قرية مكة من موقعها المعنوي في كيان العرب، الذين تسمو نفوسهم لزيارتها، والطواف بكعبتها المباركة مصداقا لقول الباري تعالى: Cفَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَB([33]). أي هواهم إلى مكة أن يحجوا([34]). وأقاموا لذلك أسواقا تجارية للتعريف بمنطقتهم. وبطريقة ذكية وظف التجار الشعر في جلب المستهلكين والتجار على حد سواء في مهرجان عكاظ العربي. لقد أعطى المسؤولون عن تنظيم سوق عكاظ وغيره من الأسواق تجارتهم لونا أدبيا وثقافيا، حتى يرد عليه كل أصناف التجار والمستهلكين، من الداخل والخارج، فالشعر والخطابة تسكن كيان العربي، وبالتالي فإقامة المهرجانات في الأسواق، نوع من الإشهار للبضائع، وعرض لا يقاوم وفرصة تاريخية ينتظرها الجميع بفارغ الصبر، لولوعهم الكبير بالإبداع، والتغني بالأشعار والترفع بالأنساب والأحساب والقبائل.

          لقد تغيرت أحوال قرية مكة منذ أن انتقلت السيادة من خزاعة إلى قريش([35])، التي استطاعت أن تنسج علاقات جيدة مع دول الجوار، بعقد تحالفات لتأمين الطريق من اللصوص والقراصنة([36])، ربما لأن موقعها الجغرافي المنيع جعل من الصعب على الأطماع الاستعمارية أن تصل إليها، وفي المقابل مكنها هذا الموقع الإستراتيجي، الواقع بين الشام واليمن، من حرص هاته المناطق على المحافظة على علاقات جيدة مع مكة لتأمين أنشطتهم التجارية، وتأمين طرق السفر وتنقل الأفراد. 

          هاته العوامل وفرت لقرية مكة ظروفا اقتصادية مريحة إلى حد كبير، من خلال العمل في التجارة، بتصدير واستيراد المنتوجات المختلفة من وإلى اليمن والحبشة ومصر والشام والعراق، وربما إلى إفريقيا والهند باستعمال سفن الصحراء (الإبل) لاختراق الصحاري والبراري، والسفن البحرية لاختراق بحر القلزم في اتجاه مملكة الحبشة ومصر وإفريقيا. ومن المنتوجات التجارية المتبادلة نجد؛ اللطيمة([37]) واللَّطِيمةُ العيرُ تحمل الطِّيبَ([38]). والعصب([39])، والبرود([40])، والأدم([41])، وغير ذلك من طرائف اليمن([42]). والفضة وهي أعظم تجارتهم، وتِبْر الذَّهَبِ([43]) والدقيق والكعك والثياب([44])، والزانيات والراقصات والمغنيات([45]) والعبيد. وقد كانت تجارة العبيد سائدة في الشام وشبه الجزيرة. ومن المشهور أن الصحابي الجليل زيد بن حارثة(ت8هـ/ 629م) كان ضحية لهذه التجارة، فقد تعرض لعملية اختطاف وبيع في سوق عكاظ، وقيل في سوق من أسواق الشام. جاء في "الطبقات" أن "أم زيد بن حارثة سعدى بنت ثعلبة، من بني معن من طيء، زارت قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية فمروا على أبيات بني معن، رهط أم زيد، فاحتملوا زيدا إذ هو يومئذ غلام يفعة([46]) قد أوصف([47])، فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي لعمته خديجة بنت خويلد"([48]). وعلى الخلاف من هذه الرواية  يقال "إن رسول الله  كان ابتاع زيداً بالشأم لخديجة حين توجه مع ميسرة... فوهبته له. وكان حارثة بن شراحيل، أبو زيد، قال فيه حين فقده:

بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دونه الْأَجَل([49]). ومما يثبت شيوع تجارة العبيد وعدم اقتصارها على الرقيق الأسود، تعرض سلمان الفارسي(ت35هـ) وهو الشيخ الحر الأبيض البشرة للبيع، "باعه رجال من تجار العرب من كلب... لرجل يهودي بوادي القرى"([50]). ويذكر أن تجارة العبيد "اختص بها قوم عرفوا بالنخاسين. يأتون بالرقيق من مختلف الأماكن ويبيعونه. وكانت تجارة رابحة"([51]).

          ولقد كان "تجار بلاد الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمور الجيدة إلى تجار مكة, وقد اتخذوا مستودعات فيها (أي في مكة) لخزن بضاعتهم هذه ولتصريفها"([52]). وكان تجار اليمن يتاجرون في الثياب والعنبر والجوهر([53])، والحديد والنحاس والسيوف والرصاص. وقد استخدم أهل اليمن الرصاص في كثير من الأعمال، منها صبه في أسس الأعمدة, وبين مواضع اتصال الحجارة لترتبط بعضها ببعض. وقد عثر المنقبون على بقايا منه في مواضع متعددة من الأماكن الأثرية باليمن([54]). ولا يستبعد وصول بعض المواد الأخرى إلى مكة، وذلك لأنها كانت موجودة بالشام واليمن والعراق منها التوابل والذهب والأحجار الكريمة([55])، والفواكه والخضر([56])، والصوف والبسط والسجاجيد([57])، وأيضا الخشب من إفريقية والهند([58]). وأشهر المواد التي كانت قريش تروجها بين العرب حسب عبد العزيز بن صالح "الأدم، والزبيب، والصموغ، والتبر، والحرير، والبرد اليمانية والثياب العدنية، والأسلحة"([59]).

          كانت التجارة وتربية المواشي، خاصة الأنعام، المورد الأساسي للساكنة المكية، لأن البيئة الصحراوية الجافة والحارة لا توفر نشاطا اقتصاديا آخر، فندرة المياه يحول دون ممارسة النشاط الزراعي، وندرة الكلأ جعلهم يعتمدون على تربية الإبل لقدرته على التكيف مع المناخ الصحراوي، أما الصناعة فمحدودة؛ صناعة الخيام من الوبر، صناعة السيوف والأدوات الحربية من الحديد والنحاس، صناعة الألبسة من الصوف، وصناعة البناء البسيط والمحدود، وأنواع من الطيب. فجل المواد الصناعية من الخشب والنحاس والحديد والنسيج كانت تستورد من الشام أو اليمن([60]).

          ولم يستبعد جواد علي(ت1408هـ) وجود صناعة بشبه الجزيرة، خاصة صناعة السفن والمراكب. فقد كان "هناك نجارون تخصصوا بصنع القوارب والسفن؛ لاستعمالها في صيد السمك وفي التجارة البحرية والنقل. ونظرًا لعدم وجود الأنهر الكبيرة والبحيرات في جزيرة العرب، انحصرت حرفة صنع القوارب والسفن في السواحل. ويستورد أهل هذه السواحل الخشب القوي الصلد من أفريقية والهند لصنع السفن الكبيرة، التي يكون في مقدورها الابتعاد عن الساحل, والسير إلى الأماكن البعيدة"([61]). من هنا فهو "لا يستبعد قيام النجار الجاهلي بصنع العربات والمركبات؛ وذلك لاستخدامها في السلم وفي الحرب. فقد كان المصريون والعراقيون وأهل بلاد الشام يستخدمونها"([62]). ومن جانب آخر، كانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل، "والغزل هو من أعمال النساء في الغالب، فهي تمسك المغزل وتغزل به, وقد يقوم الرجال بالغزل أيضًا. وهناك أنواع من المغازل وهي متشابهة من حيث الأساس والتصميم. وقد عثر على أنواع منها في مواضع من جزيرة العرب"([63]).

          عموما، كانت التجارة أكبر وسيلة للحصول على متطلبات الحياة. والمبادلات التجارية لا تتيسر إلا إذا ساد الأمن والسلام، وكان ذلك مفقودًا في شبه جزيرة العرب إلا في الأشهر الحرم؛ رَجَب، وَذَي الْقَعْدَةِ، وَذَي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّم([64]). وهذه هي الشهور التي كانت تعقد فيها أسواق العرب الشهيرة من عُكاظ وذي المجَاز([65]) ومَجَنَّة([66]) وغيرها،‏ إلا أن مكة المكرمة قد تميزت على الدوام بضمانة Cالَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمنهم من خوفB([67]).‏

         بكلمة، لقد مكنت التجارة الداخلية والخارجية عرب شبه الجزيرة، خاصة تجار قريش، من جمع الثروات الهائلة وعوضتهم الخصاص الهائل في الصناعة والفلاحة، وتمكن زعماء القبائل من إنتاج العلاقات الاجتماعية على أساس التفوق المادي والعرقي والعنصري والقبلي، حيث النسب والعصبية والغنى هي العوامل المتحكمة في التصنيف الهرمي للسكان.

(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.

               

([1]) ـ سورة إبراهيم: الآية 37.

([2]) ـ انظر: ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش. ص. 333.

([3]) ـ ابن منظور، لسان العرب. مادة: مكك، 10: 490.

([4]) ـ السهيلي، روض الأنف. 1: 264. (بتصرف).

([5]) ـ انظر: البَلَاذُري، فتوح البلدان. ص.56.

([6]) ـ ابن الضياء، تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف. تحقيق: علاء إبراهيم وأيمن نصر، ط.2، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان 2004م، ص. 67.

([7]) ـ ابن دريد، جمهرة اللغة. 2: 855.

([8]) ـ الجاحظ، الحيوان. 7أجزاء، ط.2،  دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان 1424هـ، 1: 215.

([9]) ـ محمد إسماعيل الجوادي، اليهود في شبه الجزيرة العربية خلال القرنين 5 و6م. 2: 45.

([10]) ـ نفسه، 2: 47.

([11]) ـ انظر: نوارة البدير، الأوضاع الاقتصادية بالإمبراطورية الرومانية. ط.1، دار العروبة، العراق 1985م، ص. 85. /اليعقوبي، البلدان. ص. 168 ـ 178./ الإصطخري، المسالك والممالك. 2: 120/ أبو عبيد البكري، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع. 1: 216./ الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. 1: 345./ ياقوت الحموي، معجم البلدان. 1: 292.

([12]) ـ سورة الكهف: من الآية 31.

([13]) ـ انظر: الأزهري، تهذيب اللغة. 9: 313.

([14]) ـ انظر: الشامي، سبل الهدى والرشاد. 5: 297.

([15]) ـ عبد الكريم النجدي، جغرافية مكة والمدينة. ص. 104.

([16]) ـ ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير. جزآن، تعليق: إبراهيم محمد رمضان، ط.1، دار القلم، بيروت 1993م، 1: 136.

([17]) ـ ابن سيد الناس، عيون الأثر. 1: 263.

([18]) ـ سورة قريش: الآيتان 1 ـ 2.

([19]) ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم. 8: 491. (بتصرف).

([20]) ـ انظر: علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي. ص. 57.

([21]) ـ سورة قريش: الآية 4.

([22]) ـ الشامي، سبل الهدى والرشاد. 1: 269. (بتصرف).

([23]) ـ عبد السلام هارون، تهذيب سيرة ابن هشام. ط. 6، مكتبة السنة، القاهرة ـ مصر (بدون تاريخ)، ص. 26. (بتصرف).

([24]) ـ انظر: الشامي، سبل الهدى والرشاد. 1: 124.

([25]) ـ انظر: ابن كثير، السيرة النبوية. 1: 140.

([26]) ـ انظر: ابن سيد الناس، عيون الأثر. 1: 357.

([27]) ـ أنظر: ابن كثير، السيرة النبوية. 2: 54.

([28]) ـ انظر: ابن سيد الناس، عيون الأثر. 2: 145.

([29]) ـ انظر: ابن كثير، السيرة النبوية. 3: 406.

([30]) ـ الطبري، تاريخ الرسل والملوك. 2: 646. /انظر: الشامي، سبل الهدى والرشاد. 1: 269 وما بعدها.

([31]) ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. 7: 114.

([32]) ـ نفسه.

([33]) ـ سورة إبراهيم: من الآية 37.

([34]) ـ أبو جعفر الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. 17: 26.

([35]) ـ انظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك. 370:1.

([36]) ـ انظر: ابن إسحاق، السيرة النبوية. ص.6./ صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم. ط.1، دار الهلال، بيروت ـ لبنان (بدون تاريخ)، ص. 23. /ابن عبد الوهاب، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ط.1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية 1418هـ، ص. 25./ محمد الخضري، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين. ط.2، دار الفيحاء، دمشق ـ سوريا 1425هـ، ص. 17.

([37]) ـ البلاذري، أنساب الأشراف. 12: 205.

([38]) ـ ابن منظور، لسان العرب. مادة: لطم، 12: 542.

([39]) ـ العصب: خَرَزٌ يُنْظَمُ منها القلائدُ، ذكر بعضُ أَهل اليمن أَن العَصْب سِنّ دابةٍ بحرية تُسَمَّى فَرَسَ فِرْعَوْنَ يُتَّخَذُ منها الخَرزُ وغيرُ الخَرز مِن نِصابِ سكِّين وغيره./ ابن منظور، لسان العرب. مادة: عصب، 1: 602.

([40]) ـ برود: جمع بُرْد وهو الثوب./ نفسه، مادة: أتب. 1: 205.

([41]) ـ الأَدِيمُ: الجِلْد ما كان وقيل الأَحْمَر وقيل هو المَدْبوغُ وقيل هو بعد الأَفيق، وذلك إِذا تَمَّ واحْمَرَّ واستعاره بعضهم للحرب./ نفسه، مادة: أدم. 12: 8.

([42]) ـ البلاذري، أنساب الأشراف. 1: 101.

([43]) ـ انظر: ابن سيد الناس، عيون الأثر. 2: 176.

([44]) ـ الشامي، سبل الهدى والرشاد. 1: 268.

([45]) ـ انظر: ابن كثير، السيرة النبوية. 6: 331. (بتصرف).

([46]) ـ أيْفَعَ ويَفَعَ أي شَبَّ ولم يبلُغ./ انظر: الخليل بن أحمد، العين. 2: 261.

([47]) ـ أوصف: أوصف الغلام والجارية صارا وصيفتين وهما دون المراهقين، و"وصُف" الغلام وَصافة بلغ الخدمة فهو وصيف. انظر: ابن القَطَّاع الصقلي، الأفعال. 3 أجزاء، ط.1، عالم الكتب، 1983م، 3: 300.

([48]) ـ ابن سعد، الطبقات الكبرى. 1: 497.

([49]) ـ ابن هشام، السيرة النبوية. 1: 248.

([50]) ـ الذهبي، سير أعلام النبلاء. 25 جزءا، مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ لبنان 1985م، 1: 509.

([51]) ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. 8: 158.

([52]) ـ نفسه، 7: 115.

([53]) ـ انظر: البَلَاذُري، أنساب الأشراف. تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي، 13 جزءا، ط. 1، دار الفكر، بيروت ـ لبنان 1996م، 12: 205.

([54]) ـ انظر: جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. 14: 204.

([55]) ـ نفسه، 3: 44.

([56]) ـ نفسه، 12: 66.

([57]) ـ نفسه، 13: 117.

([58]) ـ نفسه، 14: 241.

([59]) ـ عبد العزيز بن صالح، تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة. ص. 179.

([60]) ـ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 13: 237 وما بعدها.

([61]) ـ نفسه، 14: 241.

([62]) ـ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 13: 237

([63]) ـ نفسه، 14: 283 ـ 284.

([64]) ـ ابن هشام، السيرة النبوية. 1: 44.

([65]) ـ ابن كثير، السيرة النبوية. 1: 462.

([66]) ـ الشامي، سبل الهدى والرشاد. 2: 457.

([67]) ـ سورة قريش: الآية 4.