المدرسة السلافية

(نشأتها، أسسها و روادها)

معصومه نعمتي _ سيده اكرم رخشنده نيا

[email protected]

الفلسفة الماركسية:

المارکسية في الأساس نظرية في الإقتصاد السياسي وضعها کارل مارکس بمشارکة هامة من فريدريک إنجلز في منتصف القرن التاسع عشر.وتقوم هذه النظرية التي اشتهرت بالشيوعية علي القناعة الأساسية التالية، وهي أن الأفراد في المجتمع الإنساني يدخلون في علاقات إنتاجية وأن مجموع العلاقات الإنتاجية هذه يشکل البنية الإقتصادية للمجتمع—الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه بنية قانونية وسياسية عليا تتوافق معها أشکال  محددة من الوعي الإجتماعي.ويتحکم نمط الإنتاج في الحياة المادية بحرکة الحياة الإجتماعية والساسية والعقلية عموما.ومن المفاهيم الأساسية في هذا السياق أيضا مفهوم الصراع الطبقي الذي يسير حرکة التاريخ الدياليکتيکية الجدلية حتي أن تنتصر في نهايتها وبشکل حتمي طبقة البروليتاريا أو الطبقة الکادحة في المجتمع التي غالبا ماتکون طبقة العمال ، فيتحقق بإنتصارها المجتمع الشيوعي.(1)

ويرى رواد هذه المدرسة التي تعتقد بحتمية الصراع الاجتماعي ، ان المنافسة عامل حاسم من عوامل بناء تركيبة المجتمع الاقتصادية والسياسية ، وان الصراع الطبقي نتيجة حتمية لانعدام العدالة الاجتماعية ؛ لان سبب انعدام العدالة ـ حسب رأي رائد هذه المدرسة (كارل ماركس) ـ يعود الى ان تراكم الثروة عند افراد الطبقة الرأسمالية هو الذي ساهم في تصميم شكل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يسيطر بها هؤلاء على مصير الطبقات الاجتماعية الاخرى (1). ولا شك ان صراع الطبقات هو المفتاح الرئيسي للتغيير الاجتماعي ؛ فكل طبقة حاكمة متنعمة باموال المحرومين سيطاح بها حتماً ـ حسب زعم ماركس ـ عن طريق الطبقة المحكومة ؛ فتصبح الطبقة المحكومة ـ عندئذ ـ طبقة حاكمة. وهكذا تعيد هذه العملية نفسها حتى الصراع النهائي بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية في المجتمع الصناعي.(2)

المبادئ التي تقوم عليها المادية الجدلية

 تقوم الفلسفة الماركسية علي المبادئ التالية  :                               
1- ' انها تعبير عن صراع طبقي ومصالح مادية (جدل مادي وتاريخي).
2- المهم ليس فهم العالم بل العمل على تغييره.
3- المادة توجه العالم وتفسر التاريخ .                         

4- التاريخ عند الماركسية (المادية الجدلية) عبارة عن صراع بين الطبقات نتيجة عوامل اقتصادية.

5- الاقتصاد وعلاقات الانتاج هما اساس كل ظاهرة اجتماعية.
6- الدعوة لتغير العالم لصالح الكادحين (البروليتاريا)، مع رفض قاطع للميتافيزيقا.
7- تفسير الاحداث والتاريخ بناء على نظام الملكية.                                

8- محاربة الاديان واعتبارها وسيلة لتخدير الشعوب، وخادماً للراسمالية والإمبريالية.
9- الإيمان بأزلية المادة وأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأول للأفراد والجماعات.
10- الأخلاق نسبة وهي انعكاس لآلة الإنتاج.                                        

11- القضاء على الاستغلال الفردي وسحق الفرد'. (3)

ولمارکس وإنجلز، بالإضافة إلي تنظيراتهما الأساسية في الإقتصاد والسياسة ، آراء عامة في الآداب والفنون تنطلق بطبيعة الحال من تلک التنظيرات.فالأدب مثلا شأنه شأن انماط الحياة العقلية الأخري خاضع في التصور الماركسي للقوي الإقتصادية و الأيديولوجية وليس لأية قيم فنية جوهرية أو مستقلة.(4)

وهكذا برزت في ساحة الأدب المقارن مدرسة جديدة سرعان ماعرفت "بالمدرسة السلافية" تمييزاً لها عن المدرستين الفرنسية والأمريكية. وهذه تسمية خلافية.(5)

أسماء عديدة والمسمي واحد:

ونعت هذه المدرسسة بـ السلافية إنما كان نسبة إلى اللغات السلافونية والشعوب الناطقة بها في بلدان المعسكر الاشتراكي، وبالتالي نسبة إلى لغات معظم منظّريها التي أفصحوا فيها عن آرائهم في الدرس المقارن للآداب القومية المختلفة التي انضوت تحت لواء النظام الاشتراكي.‏

أما نعتها بـ الاشتراكية فمرده إلى النظام السياسي والاقتصادي الذي ساد مجتمعات هذه البلدان فطبع مختلف وجوه حياة هذه المجتمعات بما فيها إنتاجها الأدبي والفني والتفكير في هذا الإنتاج.‏

وأما صفة الماركسية فإنها تعود إلى الفلسفة التي تحكم تفكير منظّريها في سائر البلدان الاشتراكية.‏

وأما صفة السوفياتية فهي من قبيل إطلاق الجزء على الكل، ولا سيما أن منظري الاتحاد السوفياتي كانوا يؤدون دوراً قيادياً في مختلف وجوه حياة مجتمعات البلدان الاشتراكية، بل ربما كان هذا الدور دوراً محدداً بفعل سلطان الدولة العظمى التي تقف وراءه.‏

وأما صفة النمطية أوالطوبولوجية أو التيبولوجية أو Typological فإنما جاءت من طبيعة الدرس المقارن الذي يتبناه أنصار هذه المدرسة عندما يعنون بشكل خاص بضروب المشابهات بين الآداب.‏

ويبقى نعت المادية الجدلية أو الجدلية المادية  الذي أتاها من الفلسفة المادية الجدلية  التي تحكم أنظار هذه المدرسة  ولا سيما أنها الفلسفة الوحيدة المعتمدة من المؤسسة السياسية الحاكمة في مجتمعات تلك البلدان التي أسلمت أمورها جميعاً إلى الحزب الواحد الذي يحكم بأمره وهو الحزب الشيوعي أو الاشتراكي في كل منها.‏(6)

فما يجمع بين ممثلي هذه المدرسة ليس انتماؤهم إلى العرق السلافي، لأن منهم الألماني والروماني وغيرهما من غير السلافيين. إنّ القاسم المشترك بينهم هو الأسس النظرية والمنهجية التي ينطلقون منها في دراساتهم المقارنة، وهي أسس لاعلاقة لها بانتمائهم إلى العرق السلافي، ولها كلّ العلاقة بانتمائهم إلى الفلسفة الماركسية أي المادية الجدلية. ولهذا فإنّ تسمية "المدرسة السلافية" هي تسمية غير صائبة.(7)

نشأة هذه المدرسة:

وعلي جانب الشرقي من أوربة تختلف تضاريس الصورة المقارنية إختلافا شديدا، فمقابل الإنتعاش وتسارع التطورات واحتدام الجدال حول الأدب المقارن في الغرب تبدو التضاريس المقارنية في أوربة الشرقية متفاوتة  وفي حال تشكل، كما أنها غير ثابتة بسبب خضوعها سابقا للإعتبارات السياسية والإيديولوجية ، فهي أشبه بكثبان رملية قليلة من الناحية الكمية و معرضة للتحرك مع الرياح في أية لحظة . ثم إن المصادر المتعلقة بهذه التضاريس غير ميسورة ، والدراسات المتعلقة بالأدب المقارن في هذه المنطقة من العالم لا تأتي من داخلها بل من الغرب ، أو من مظان مبعثرة كالدوريات القليلة.(8)

لم تبدأ المدرسة المقارنة الجديدة بصورة فعلية بعد سقوط الستالينية، أي في أواسط الخمسينيات، بل تواجد ممثلوها في الجامعات الروسية والأوروبية الشرقية، وقاموا بأبحاثهم ودراساتهم المقارنة قبل ذلك بوقت طويل.(9)

بعد المرحلة  الستالينية – الغدانوفية حدث إنفتاح نسبي في الثقافة والأدب، أفاد منه الأدب المقارن جزئيا، أي بإطلاق سراحه من الإعتقال وليس بتشجيعه. إذ افتتح قسم للأدب المقارن في معهد الأدب الروسي في لنينغراد( بطرسبورغ اليوم)، وكان في البدء مجرد مركز لإعداد المصادر ثم تحول إلي معهد للأبحاث، كما نشطت بعض الأبحاث في دول أوربة الشرقية. وهذا ليس بشيء إذا قيسبعجلة الثقافة الأدبية السوفييتية وأجهزتها الناشطة.(10)

لكن مع ذلك ظل الأدب المقارن في بلدان أوربة الشرقية هامشيا جدا، ولم تظهر أية بوادر رسمية لتشجيعه في دول خاضعة خضوعا تاما للتخطيط الصارم للثقافة و التعليم، وفي الإتحاد السوفييتي ( السابق) بالذات ظل الوسط الثقافي بعيدا عن مناخ الددب المقارنريال علي الرغم من شدة اعتناء هذا الوسط بالآداب الأجنبية واحتفاله بها. و كانت تصدر في الإتحاد السوفييتي مجلتان ناشطتان تحت اسم ( الآداب الأجنبية )، واحدة في موسكو والثانية في كييف، ولم تكن مسائل الأدب المقارن من بين اهتماماتها . وقد ظلت المكتبة السوفييتية و مكتبة لغات آوربة الشرقية شديدة الفقر في عناوين الأدب المقارن، وليس هناك أية مؤ لفات ذات قيمة في هذا الحقل حتي نهاية الدولة السوفييتية 1992.

وفي الستتينات بالذات، ظهر انفراج نوعي نسبي في حقل الأدب المقارن، و نشطت محاولات لجمع شمل المقارنين الإشتراكيين في إطار ندوة بودابست1962، وندوة برلين 1966، وبدأت بعض الإسهامات الإشتراكية تأخذ طريقها إلي الساحة العالمية للأدب المقارن بشكل اجتهادات فردية تحاول أن تفيد من معطيات الماركسية في إعطاء الأدب المقارن  مضمونا إجتماعيا – إنسانيا ، ومن خلال الإفادة مما يناسب هذا الغرض في أفكار المدرستين الفرنسية و الأمريكية، وتنضوي معظم المحاولات الرومانية  و المجرية و الألمانية الشرقية تحت هذا العنوان.

و الملاحظ أن الدراسات التطبيقية كانت أكثر رواجا في الإتحاد السوفييتي، في حين أن النشاط الروماني كان أكثر تبلورا في مجال النظرية، وتميز النشاط الهنغاري بفعالياته في الوصل بين الشرق والغرب.(11)

وعلي الرغم من مضي الدرس المقارن قدما في أوربا الشرقية،  وظهور أسماء كبيرة،  فإن المدرسة السلافية لم تستطع أن تتخلص من التأثيرات الغربية فيها، ومن أشهر الأسماء في مجال الأدب المقارن في أوربا الشرقية : فيكتور جيرمونسكي و نيوبا كويفا، وميكرود ينوفيكا ، ونيهنا غيورغي، و جون زاميغيريسكو، و الكسندر ديما، و ميهاي نوفيكوف، و كيوركي ديموف وغيرهم.(12)

أسس هذه المدرسة:

ويصعب علينا ان نميز خصوصية او فرادة فيما يدعى بالمدرسة الاشتراكية في الأدب المقارن لأن هذه المدرسة -ان جاز لنا ان نسميها كذلك- قد تقترب من رؤية المدرسة الفرنسية في بعض منطلقاتها وربما اقتربت من المدرسة الامريكية في منطلقات أخرى لها، بيد ان الخط العام لها يتقيد بدراسة "الاسس الاجتماعية والاقتصادية والأسس الطبقية وتاريخ الحضارة لتجعل من ذلك كله اطاراً للظاهرة الادبية التي تدرسها " ولانفاجأ بمنطلقات هذه المدرسة فهي معروفة ولسنا بصدد اختفاء هذه المدرسة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية الاوروبية بيد ان الاستنتاج المهم المستقى من طبيعة هذه الرؤية للأدب المقارن هو ان مفهوم الأدب المقارن يتأثر بالضرورة بالمنطلقات الفكرية والسياسية السائدة، وهو استنتاج قد يقترب من البديهيات والمسلمات.(13)

تستلهم المدرسة السلافية في الدرس  المقارن للأدب الفلسفة الماركسية في تدبّرها للمشابهات الملاحظة بين الآداب القومية المختلفة، فتردها إلى المشابهات القائمة بين البنى التحتية المنتجة لهذه الآداب. ذلك أن التشابه في مراحل تطور المجتمعات الذي ينطوي على تشابه فيما بينها في البنى الاقتصادية لا بد أن يؤدي، في عرف أتباع هذه المدرسة، إلى تشابه في مكوّنات البنى الفوقية والتي يشكل الأدب واحداً من أهمها. وبالتالي فإن أي تشابه يلحظه الدارس المقارن بين عملين أدبيين ينتميان إلى أدبين قوميين مختلفين، يمكن ردّه إلى التشابه الموجود بين البنيتين للمجتمعين اللذين أنتجا هذين العملين، وليس من الضرورة أن تكون بينهما أية صلة مباشرة أو غير مباشرة، لأن البنى التحتية المتشابهة تفرز بالضرورة بنى فوقية متشابهة، وهذا التشابه هو سر المشابهات التي نقع عليها بين الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى آداب قومية مختلفة بصرف النظر عن أية علاقة قد تقوم فيما بين هذه الآداب.‏

ومعنى هذا أن المدرسة السلافية تستند في تفسيرها للمشابهات التي تلاحظ بين مختلف الآداب القومية إلى الفهم المادي للتاريخ الإنساني وقوانين تطوره. ولما كان الأدب بوصفه فناً جميلاً، جزءاً من البنية الفوقية لأي مجتمع إنساني، يتحدّد بالقاعدة المادية لذلك المجتمع، فإن المشابهات بين الآداب يمكن أن تردّ إلى جذورها في البنى التحتية للمجتمعات التي تنتجها، اعتماداً على ما تقوله وحدة عملية التطور الاجتماعي ـ التاريخي للبشرية.(14)

والأدب من وجهة نظر ماركسية، جزء من البناء الفوقي للمجتمع، يواكبه ويتطور بتطوره، ولذا فإن دراسة الأدب لايجوز أن تتمّ بمعزل عن دراسة المجتمع، والتطورات الفنية والفكرية التي تظهر في الأدب لايجوز أن تدرس بمعزل عن دراسة التطورات الاجتماعية. فالتطور الأدبي لايتمّ بفعل العوامل الأدبية الداخلية وحدها، بل وبفعل تفاعل الأدب مع المجتمع وتعبيره عما يجري فيه من تطورات. إنّ تفسير الظواهر الأدبية الهامة، كنشوء وتطور الأجناس والتيارات الأدبية، لايكون بإرجاعها إلى أسباب أدبية داخلية فحسب، بل بربطها بالمسببات الاجتماعية التي أحاطت بنشوئها وتطورها. أمّا الفلسفة الوضعية فهي لا تتفق مع الفلسفة الماركسية ونظرية الأدب الماركسية حول أيّ من مقولاتها، والتعارض بين الفلسفتين تعارض جذري. فما من فلسفة انتقدت الفلسفة الوضعية بالقوة التي انتقدتها بها الفلسفة الماركسية التي يعدّ نقد الوضعية جانباً رئيساً من جهودها النظرية، مما حوّل الخلاف بين الفلسفتين إلى واحد من أهمّ النقاشات في الفلسفة الحديثة. (15)

كان من الطبيعي أن يحصل تناقض جذري بين أدب أساسه النظري هو النزعة التاريخية والفلسفة الوضعية، أي المدرسة الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن، وبين نظرية الأدب الماركسية التي تقوم على الفلسفة المادية الجدلية التي ترى في الأدب شكلاً من أشكال الوعي الإنساني الذي يعكس الوجود الاجتماعي المادي للناس مثلما تعكس المرآة الأشياء  . فنظرتا هذين الاتجاهين إلى الأدب وقضاياه متعارضتان كلّ التعارض. صحيح أنّ الاتجاهين كليهما يقولان بتاريخية الأدب، وبإمكانية كتابة تاريخ الأدب، ولكن شتان بين تصوريهما لذلك التاريخ! فالمدرسة الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن لا تهتمّ إلاّ بما ينجم عن عوامل التأثير والتأثر من نتائج أدبية. أمّا الاتجاه الماركسي فهو يرى أنّ هناك قوانين تتحكم في حركة الأدب وتاريخه. فتطور الأدب لا يتوقّف على عوامل التأثير والتأثر، ولا ينجم عنها بقدر ماهو ضرورة حتمية يمليها تطور المجتمع، أي البناء التحتي بالدرجة الأولى، والبناء الفوقي بدرجة أقلّ. وهذه القوانين عامة، تسري على الآداب كلّها. أمّا الفروق بينها فهي ترجع إلى فروق في درجات التطور الاجتماعي، وهي لاتلغي القوانين العامة لتطور الآداب والمجتمعات. فما يبرز في أحد الآداب من ظواهر أدبية هامة، كالأجناس الأدبية والاتجاهات الفنية، في وقت مبكر، نتيجة لتقدّم المجتمع الذي يحتضن ذلك الأدب، يظهر حتماً في الآداب الأخرى، لا بفعل علاقات التأثير والتأثر فحسب، بل بالدرجة الأولى نتيجة لتوافر الشروط والمقدمات الاجتماعية في المجتمعات التي تحتضن تلك الآداب، وإن يكن بفارق زمني قد يطول أو يقصر. فمسألة التطور الأدبي مرتبطة بالتطور المجتمعي، وهي مسألة وقت فقط. إن الآداب تمر بالمراحل التاريخية نفسها، وتشهد ظهور الأشكال الأدبية الرئيسية نفسها، من أجناس وتيارات أدبية وما إلى ذلك، مما يعني أنها تمر بمراحل التطور نفسها، ولكن ليس بصورة متزامنة. فهناك قانون يحكم تطور المجتمعات والآداب على حدّ سواء، هو قانون عدم التزامن (Ungleichzeitigkeit) .(16)

    فالتأثر لا يتمّ إلا عندما تكون الثقافة المتأثرة بحاجة إلى المؤثرات الأجنبية، ومستعدة لتلقيها. فهو لم يكن السبب في ظهور الاتجاه الواقعي في آداب أوروبية وغير أوروبية مختلفة وفي أزمنة مختلفة، وإنما السبب هو أنّ الآداب التي ظهرت فيها الواقعية كانت قد بلغت درجات من التطور الاجتماعي جعلت ظهور أدب واقعي أمراً ضرورياً، وتكونت فيها بذور ذلك الأدب الواقعي. ثم جاء عامل التأثر والتأثير، أي الاستيراد الثقافي، ليسرّع ذلك التطور ويقويه. فلو لم تكن الحاجة قائمة في الأدب المتأثر، لما أثمرت عمليات التأثير والتأثر البتة. إنّ الأساس في تلك العمليات هو حاجة الثقافة المستقبلة، لاحاجة الثقافة المرسلة. وعلميات الاستيراد الثقافي تخضع لحاجات الطرف المستقبل، وليس العكس. وبذلك تمكّن جيرمونسكي من استيعاب قضية التأثير والتأثر، ومن وضعها في إطار أكبر، هو دور المؤثرات الخارجية في تطور الأدب. فللتأثير دور في ذلك التطور، ولكنّ ذلك الدور ليس بدئياً ولا أساسياً. أما الدور الأساسي فهو للتطور الداخلي للأدب، ذلك التطور الذي يواكب تطور المجتمع. فعندما يتطور المجتمع، فإنّ تطوره يخلق الحاجة إلى تطور أدبي يواكبه، كظهور تيار أدبي، وتأخذ بذور هذا التطور بالظهور داخل الأدب. وإذا أضيفت إلى ذلك مؤثرات خارجية، فإنها تسرّع ذلك التطور، وتكون كبذرة سقطت في أرض ملائمة خصبة. أمّا إذا لم يتوافر الشرطان: الاجتماعي والأدبي اللذان يولدان الحاجة إلى المؤثرات الأدبية الخارجية، فإنّ عمليات التأثير والتأثر لاتجدي نفعاً، وتبقى ظاهرة معزولة لاجذور لها. وبذلك قدّم فيكتور جيرمونسكي مساهمة قيّمة في تفسير ظاهرة التطور والتبادل الأدبيين. لقد وضع الأمور في نصابها، منسجماً في ذلك مع المقولة الماركسية التي ترى أنّ الدور الحاسم في التطور الأدبي يكون للعوامل الداخلية، أمّا العوامل الخارجية فهي عوامل ثانوية وغير حاسمة، تتوقف فاعليتها على توافر الشروط الداخلية للأدب. وبذلك خيّب جيرمونسكي آمال دعاة الهيمنة والتوسع الثقافيين، الذين يريدون نشر ثقافاتهم في العالم، وفرضها على الشعوب بأيّ ثمن، دون مراعاة مستويات التطور الاجتماعي والحاجات الثقافية لتلك الشعوب.(17)

المدرسة السلافية بين الرد والقبول:

    بعد مؤتمر موسکو بعامين عقد مؤتمر آخر في دولة شرقية هو مؤتمر بودابست عام 1962.وقد آلقت سيدة "نيوبا کويفا" العضوة في أکاديمية العلوم بمو سکو ، بحثا امتدحت فيه المدرسة الفرنسية ، في حين أنها هاجمت المدرسة الأمريکية ممثلة بشخص رينيه ويليک ، واتهمه بالرغبة في تجريد الأدب من قوميته وبالسير وراء فلسفة التاريخ الرجعية التي جاء بها آرنولد توينبي.ومما له دلالته هنا أن فيکتور جير مونسکي الذي يعد مؤسس المدرسة السلافية ، قد أکد في مؤتمر بلغراد (1967) علي أهمية التشابهات والإختلافات النمطية خارج ضرورة المحاکاة أو التاثير الواعي وهو بهذا يبتعد عن المدرسة الفرنسية ويقترب من آراء الناقد رينية ويليک.

إن هذا التناقض بين المقارنين الشرقيين يعود الي سيطرة المفهومات العامة عن الأدب المقارن من جهة ومن جهة أخري إلي رغبتهم في الإطلاع علي ما أنجزه الغرب، والإستفادة منه في تکوين نظرية خاصة ترتکز علي المفهومات المارکسية وهنا أخطأ المارکسيون ، لأنهم اعتقدوا أن الفکر المارکسي يقدم مفتاح الحلول لکل المعضلات التي تواجههم ، وأنهم يستطيعون تطويع نظريات نشأت وتطورت في حقبة ومکان محددين لفکرهم المجرد.ويجمع النقاد علي أن المقارنين المارکسيين لم ينجحوا في مهمتهم ولهذا بدت جهودهم تسير تارة في الإتجاه الفرنسي وتارة أخري في الإتجاه الأمريکي، علي الرغم من أن المؤتمرات العالمية للأدب المقارن قد أتاحت لأنصار المدرسة السلافية بکل مکوناتها الوطنية وتنوعات فضاءاتها وخصب تداخلاتها، إبراز تميز صوتها ، عبر اعتقادها بالماديةَ الجدلية التاريخية ونزوعها نحو الحقيقي في هذا الإنساني.ومع ذلک فإن المدرسة السلافية بقيت تدور في فلک المدرستين الفرنسية والأمريکية. فهي لم تستطع أن تخرج من دائرة المفهوم الفرنسي في التأثير والتأثر ، وإن کانت قد لونت ذلک بلونها الخاص.(18)

ويعتقد سعيد علوش ان الدعامتين الفلسفية والعلمية ، عملتا في المدرسة المقارنة السلافية، بشکل أضفي عليها نوعا من الإنسجام ومنحها شرعية المدرسة علي الرغم من مزجها الممنهج لمباديء المدرستين الفرنسية والأمريکية، في قالب جدبد ورؤية ذات أطروحة متداخلة الإختصاصات.(19)

كما يعتقد بأن المدرسة السلافية –علي عکس المدرسة العربية-إستطاعت أن ترسخ تقاليد درس مقارن ، لا هو فرنسي ولا هو أمريکي ، ولکنه الدرس، الذي يستجيب للفضاء والزمان الإشتراکي العلمي ، بعيدا عن التشبه والنمطية وهي مکاسب ما کان في الإمکان تحقيقها لو لا توافر الإرادة والعلم.(20)

ولكن رغم ما يعتقد سعيد علوش يرده حسام الخطيب قائلا:" لا نعتقد إلا أن المقصودين بهذه المدرسة يخجلون من هذا التفخيم. وهم جميعا جادون و لكنهم يتعرضون لصعوبات فكرية غير يسيرة في بحثهم المضني عن طريقهم الخاص. ويتساءل المرء عن تقاليد الدرس المقارن، هل ترسخ ببضع مقالات و بسنة واحدة هي سنة 1974، كما يتضح من حواشي هذا الفصل؟ علي أية حال ، وبعد تطورات الدرامية التي حدثت في أوربة الشرقية مطلع هذا العام1992، يحسن بالمرء أن يترك للزمن فرصته، فهو الذي يكتب أكثر الحواشي والإحالات مصداقية و إقناعا.(21)

و أخيرا  نأتي بنظرية مؤلفي كتاب " الأدب المقارن( مدخلات نظرية ونصوص و دراسات تطبيقية)" في رفض رأي علوش: " ونظن أن التطورات التي عصنفت بدول أوربا الشرقية  ستجعلنا نتحدث في المستقبل عن تطور الأدب المقارن في هذه الدول بشكل منفصل، أي أنه ستكون هناك دراسات للأدب المقارن في رومانيا و يوغوسلافيا و هنغاريا و غيره . وبذلك سيفقد الحديث عن المدرسة السلافية أي معني ، إلا من وجهة نظر تاريخية لأنها مدرسة ليس لها وجود في الأصل من الناحية التطبيقة. لا أريد هنا أن نقلل من قيمة أولئك الذين وقفوا حياتهم علي خدمة الأدب المقارن إنطلاقا من التزامهم العقائدي و لكننا نظن أنهم  يرفضون الآن الإنضواء تحت اسم المدرسة السلافية أو الماركسية" .(22)

              

الهوامش:

1-دليل الناقد الأدبي،ميجان الرويلي وسعيد البازعي،مغرب، دار البيضاء،ط3، 2002، ص323.

2- رأي المدرسة الماركسية .

ونقد فكرة( العدالة الإجتماعية) في النظريات الغربية.

3- الفلسفة الماركسية( المادية الجدلية).

4- دليل الناقد الأدبي، ص323.

5- الأدب المقارن ( مشكلات و آفاق)، عبدة عبود، منشورات إتحاد الكتاب العرب، 1999، ص243.

6-المدرسة السلافية و الأدب المقارن، عبد النبي اصطيف، مجلة الموقف الأدبي، عدد433، 2007.

7-الأدب المقارن( مدخلات نظرية و نصوص ودراسات تطبيقية) ، عبود و آخرون،دمشق، مطبعة قمحة إخوان، 2001م، ص114.

8- آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، حسام الخطيب، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1999،ص114.

9- الأدب المقارن ( مشكلات و آفاق)،ص43.

10- آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا،ص116.

11-نفس المصدر،ص117.

12- الأدب المقارن( مدخلات نظرية و نصوص ودراسات تطبيقية) ،ص48.

13-الأدب المقارن ونبض العصر، صبري مسلم، صحيفة 26 سبتمبر،عدد1321.

14- المدرسة السلافية و الأدب المقارن.

15- الأدب المقارن( مدخلات نظرية و نصوص ودراسات تطبيقية) ،ص109.

16- الأدب المقارن ( مشكلات و آفاق)،ص39-40.

17- الأدب المقارن( مدخلات نظرية و نصوص ودراسات تطبيقية) ،ص116-117.

18-نفس المصدر،ص45-46.

19-مدارس الأدب المقارن،دراسة منهجية، سعيد علوش،المركز الثقافي العربي، ط1، 1987، ص143.

20-مكونات الأدب المقارن في العالم العربي ، سعيد علوش، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، ط1، 1986، ص131.

21 - آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا،ص115.

 22- الأدب المقارن( مدخلات نظرية و نصوص ودراسات تطبيقية) ،ص48.