القصَّــة ( من أجل كتابة قصة ... )

توطئة  :

دعني أَقُلْ : ليس من المهم تحديد الشكل الفني للنص ، ولا تُرتَضى المماراة من أجل الشكل ، إنما الإشكالية لدى المضمون ، المضمون في العقيدة و في القيم الاجتماعية و في البحوث الفكرية ...  حيثُ تُترجم إلى أعمال وسِير ، وإلى مادة اجتماعية، تتفق مع قيمنا ومثلنا العليا لا مع الفلسفات الغربية أو الشرقية ، أو مع مسميات لاتمت إلى حضارتنا و واقعنا بشيء ، ولا جدوى من التنطع بمصطلحات وألفاظ فارغة ، فلا فائدة من تطويع الفن للفن ، فله نتائج غير سارة على المجتمع ، لأن الفن كما صرَّح علماؤُنا الأبرار وأدباؤُنا الأطهار ماهو إلا وسيلة نظيفة لإيصال القيم الخالدة إلى البشرية من أجل خيرها وسعادتها، وتقويم سلوكها  ، فجنَّةُ مكارم الأخلاق  الذي تحتضنه أمتنا يمنح الكاتب أجمل مافي الحياة من صور موحية ، تدعو إلى الخير ، وتنهى عن ركوب الشر ، وتشمئز من كل ما يسبب القلق للناس . يؤكد الدكتور الأديب نجيب الكيلاني ــ يرحمه الله ــ على هذا الجانب  ومما قاله : ( الفن الإسلامي لا يختار نماذجه من أمثلة الخير والحب والفضيلة وحدها، بل يقدم شتى النماذج خيَّرها وشريرها، عاليها وسافلها، وإلا انعدمت الحركة الفنية، والصراع النفسي، إنها معاناة أصيلة نابضة، تبعث في نفسه لوناً من ألوان (القلق) العظيم، وتحرمه الإخلاد للكسل والسلبية والأنانية.. وهذا هو الفن العظيم. وعالم الأدب والفن الإسلامي عالم فسيح رحب، يستوعب التجارب الأسطورية والتاريخية والواقعية المعاصرة، ويجول في أنحاء الشرق والغرب، ويبرز التجارب المحلية والعالمية، ويرتبط بقضايا المسلمين في شتى أنحاء المعمورة... ) .

وبعد هذا التمهيد المقتضب الذي يضفي على أي نص أدبي ــ بالدرجة الأولى ــ بظلالِه وبالمنحى الذي ترتضيه عقيدتنا الإسلامية ، وعاداتنا الاجتماعية الكريمة ، نعود إلى موضوعنا في كيفية كتابة القصة لذوي المواهب والقدرات الذاتية ، والذين يريدون الانخراط في بيئة الكتابة . ولا يهمنا الآن تضارب الآراء في تقييم بعض ماجدَّ على القصة وخصوصا القصة القصيرة جدا ، فبين مادح وآخر قادح ، ولكل منهما رؤيته في الموضوع وموقفه من مدحه أو ذمِّــه ، وإنما تهمنا حقيقة الكلمة الطيبة الراقية ، والنص الذي يغري القارئ بالتجوال في آفاق جماله وحُسن سبكه ، ومن ثَمَّ أثره الاجتماعي ،       ولقد أحسن الأستاذ عبده محمد عطيف في كتابه دراسات عن القصة القصيرة جدا ، حيث لديه الخبرة والقدرة على تمحيص مايجد من معطيات في هذا المجال ،وبالمناسبة فهو عضو فاعل في مجلس إدارة النادي الأدبي في نجران ،  وهو رئيس لجنة السرد فيه ، وعمل مشرفا في قسم اللغة العربية في تعليم نجران ، ومن مؤسسي نظام الجودة في الشؤون التعليمية ، ، وقد تم اختياره حاليا مديرا لإدارة النشاط الطلابي في منطقة نجران ، كما أنه المدير التنفيذي للجمعية الخيرية للخدمات الاجتماعية في نجران ، وهذه القدرات أهلته لخوض المجال الأدبي والكتابة فيه ، وقد صدر له كتاب ( كائنات الموت المؤقت ) وهو دراسات حول القصة القصيرة جدا ، وفي هذه الدراسة سمَّى القصة القصيرة المولود الجديد ــ كما يحلو للنقاد أن يطلقوا عليه هذا المسمى ــ وقال المؤلف أيضا : مع ولادة هذا النوع من القصة كثر النقد وتنوعت له المسميات ، وجاء المدح ليرفع من شأن القصة القصيرة جدا ، كما جاء القدح ليرمي هذا المولود بعيدا عن مدار الفنون الأدبية الجميلة الراقية ... وأورد الأستاذ عبده عطيف في كتابه هذا ملامح القصة القصيرة جدا ، وأركانها وشروطها ، وأوسع البحث في هذا المسار ، كما أورد نماذج من القصة القصيرة وقال عنها: جنس أدبي حديث يمتاز بقصر العبارة ، والاعتماد على الإيحاءات ، سِمتُه الإيجاز  وصفته الحذف والاختزال ، وخاصيته التلميح ، له طابع بلاغي تصوري ، يتجاوز السرد الأدبي المباشر . وجاء في هذا الكتاب : إن فن القصة القصيرة جدا يتطلب من كاتبه الصدق في الطرح مع العمق حتى يغني نصَّه بإشراقات تضع الضوء على دلالات النص مباشرة . وهذه قصة قصيرة جدا : ( ملَّ الولوج في هذا الأفق السَّاذج ، واشمأزت نفسُه من تتابع هذه اللوحات الرمادية الباهتة أمام عينيه ، وتملكه خوف ... خوف محدق بتلابيب أفكاره المبعثرة ، أيتابع الصعود على هذا السلم الذي يشعر بانزياحه نحو الهاوية ، ترتعد فرائصه كلما تقدم خطوة إلى الأمام ، شعر بالخور ، لكن لابد من إتمام الطريق  ، جلس على حافة قلقه ، واتكأ على شجرة عوسج حيث لم يبق سوى جذعها ، تنهد حزنُه ، وشردت عينه في الأفق الآخر ، وإذا بلوحة تتلألأ حروف كلماتها الحانية : انتبهْ فالطريق ليس من هنا ... ) .

فالقصة بشكلها العام ماهي إلا مجموعة من الأحداث ، التي لاتسرف في الخيال ، وإنما تتثنَّى أفكارُها على قيم ومُثل تمنح القارئ المزيد من المعرفة ، لتكون ذات جذب لقارئها . وخطوات كتابة القصة كثرت فيها البحوث ، وتنوعت من أجل بلورتها العديد من المقالات ، ولم يبق لكاتب القصة إلا أن يختار الأجمل والأجدى من هذا الحشد الوفير من التوجهات والآراء ...

ولابد لكاتب القصة من تلمس موضوع قصته بوعي ، وأن يرسم لها هدفا له فائدته وقيمته ، بحيث يخرج قارئ القصة من بستانها الزاخر بالجمال وهو يحمل فكرتها الأثيرة وموعظتها البالغة ومنهجها النبيل وثمرتها اليانعة . ويتخيَّر لها الأسلوبَ الذي يرسم فكرتها بوضوح ، وينأى عن الحشو الذي يجر إلى ملل القارئ ، أو الإطالة التي تجعل لون القصة باهتا غير جذَّاب . وأن يضع نصب عينيه فكرة القصة أو مغزاها ، والحدث الذي يتجدد بتنوع الفكرة ، ومجموعة الأحداث التي تتشكل منها العقدة أو الحبكة من حيث ترتيبها وتسلسلها في نسيج الموضوع لتشد القارئ ، وَذَكَرَ بعضُ كتاب القصة عن إضافة الأبعاد الجسمية ، والاجتماعية ، والنفسية لاكتمال اللوحة الفنية للقصة من جميع جوانبها . ومن الضرورة بمكان أن يطلع كاتب القصة على بعض النماذج الناجحة ، ويتحرى العنوان المناسب ، فمقدمة وجيزة للقصة ، ثم عرض أفكارها على ألسنة شخصياتها من خلال الطرح الواعي والحوار المناسب ، ثم يتخير الكاتب الخاتمة بالشكل الذي يراه مناسبا لسير القصة ، كما لا ينسى مَن يزاول كتابة القصة أو أي نص أدبي في أي موضوع من إتقان الناحية اللغوية : ( من نحو ، و إملاء ، وعلامات الترقيم ، وشواهد مناسبة ومؤثرة  ، وبيان وبلاغة ... ) .

فالقصة : عمل أدبي مميز ، تثير فكرة معينة ، أو تعيد حدثا جرى  لغرض معين ،يحشد فيه القاص العديد من المفاهيم والأفكار ، ويلبسها القيم الإنسانية والتاريخية والاجتماعية ...  التي تحاكي مايدور في المجتمعات من حوادث الحياة ، ومشاكل الناس ، حيثُ يتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ، في زمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها ،  وعرض ما يتخلل المواقف من مشاعر وأحداث ومن صراع مادي أو نفسي . فكلمة القصة من قصَّ الأثر ، أي تتبَّع أثره ، ورصد أخباره ، ليصل إلى الهدف المنشود . من غير إسهاب وسرد لحيثيات الموضوع ، وإنما الإيجاز ، والاختصار للزمن والمكان ، والتركيز على البطل الرئيس للقصة ، وتكثيف الأفكار للوصول إلى النتيجة المتوخاة من القصة ، وقد حدَّد الدكتور عبدالرزاق حسين خصائص البناء الفني للقصة في :

الوحدة الكلية المتمثلة في وحدة الفكرة والحدث والمغزى ، ورؤية الحدث المتتابع تتابعا مقنعا ومترابطا . التكثيف والتركيز ، في البناء اللفظي المكين ، وتكثيف الشعور ، واختصار الزمان والمكان ، وختزال الشخصيات والتركيز على الشخصية المركزية ( البطل ) ، إضافة إلى الفكرة المشعة التي تُحدث الأثر الفاعل . حاجة القصة إلى البناء الفني وأساليبه الإبداعية ،من خلال الدخول إلى جو القصة ، وإظهار الشخصيات في جوانبها الظاهرة والمضمرة ، ورسمها رسما دقيقا في عواطفها وطموحاتها وآمالها وآلامها ومزاجها وطرائق تفكيرها ... الصراع ... الصراع الفردي بين الإنسان ونفسه وهو الصراع الذاتي ، والصراع الجمعي بين الأفكار والمصالح ، ويطلق عليه الصراع الخارجي الحوار : وهو وسيلة تعبير شخصيات القصة  عن ذواتها .

ماقدَّمناه من كلام يخص القصة القصيرة ، وهي التي تتوسط بين الأُقصوصة التي لاتتجاوز الصفحة الواحدة أو الصفحتين ، وبين الرواية وهي القصة الطويلة التي تكتمل فيها العناصر وتتعدد الفصول ، ويحلو في بعض أجزائها الإسهاب والإيضاح ، كما يمتد فيها الزمان ويتسع المكان  ، ويظهر أشخاصها بمزيد من سلوكهم ودوافعهم ، في أحداث ممتدة ومتشعبة ، ولكنها ضمن الذوق الفني السامي الجميل .

قصة : (لقد صرت كبيراً يا ولدي )

للقاصة غرناطة عبدالله الطنطاوي

كان محمد يأتي كل مساء وقد اغبرّت ملابسه، واتّسخت من الطين والتراب الذي يغطي شعره وجسمه. فكانت تصرخ به والدته معنّفة غاضبة، وتطلب منه الاغتسال وتغيير ملابسه.

فيدخل محمد الحمام ويغتسل ثم يغسل ملابسه، ثم يتقدّم إلى أمه يقبّل يديها ورجليها ويطلب منها مسامحته، لأن ملابسه اتّسخت، ولم يطع أوامرها. مرّت الأيام والسنوات الطوال ومحمد على نفس المنوال، يغتسل ويغسل ملابسه، ثم يقبل أمه معتذراً. في أحد الأيام جاء أبو محمد فرحاً مستبشراً، وهو ينادي أم محمد قائلاً: زغردي يا أم محمد.. ابنك محمد قد رفع رأسنا عالياً. نظرت أم محمد نظرة استفسار وكأنها تطلب منه متابعة حديثه، فقال أبو محمد: الم تسمعي في المذياع عن التفجير عبر الأنفاق، والذي حفره أولادنا الأبطال؟؟ وقد أربك الصهاينة وخوّفهم. قالت أم محمد: وما دخل محمد في هذا الموضوع؟ قال أبو محمد فرحاً : ابنك محمد هو من حفر الأنفاق عبر سنوات طوال. سرحت أم محمد ببصرها بعيداً وكأنها تستعيد ماضياً ولّى، فتذكرت ابنها محمد وهو قادم وجسمه وملابسه متّسخة، فيغتسل ويغسل ملابسه، ويطلب منها مسامحته والدعاء له بالتوفيق. في منتصف الليل جاء محمد متعباً مرهقاً، وكانت أمه تنتظره على أحرّ من الجمر. ما أن دخل محمد البيت حتى أقبلت أمه تقبّله من رأسه ويديه ووجهه، وهو يحاول سحب يديه منها وتقبيل يديها، فقالت له أمه: دعني أقبّل هاتين اليدين اللتين حفرتا الأنفاق عبر سنوات طوال، وأعتذر منك لأنني كنت أنزعج منك ومن اتّساخ ملابسك، الآن يا بني عرفت سرّ الطين الذي كان يكلّلك من رأسك إلى قدميك، عافاك الله وسدّد خطاك، أنت وأصدقاؤك، انتم شرف فلسطين وأبناؤها البررة... (لقد صرت كبيراً يا ولدي ) .

وهذه قصة قصيرة من مجموعة قصصية لديَّ ، عنوانها :

( خنجر الحسد ينزف )

غصَّت الغرفتان الخلفيتان بالنسوة اللاتي جئن يباركن لأم عدنان بعقد قران ولدها الوحيد, على ابنة الشيخ منصور , ذات التربية الصالحة والنشأة الحميدة0 وتمنّين للعروسين الرفاه والسعادة, فقد أحسنت الأسرة اختيار الزوجة المؤمنة لابنها الذي عاش يفاعته طاهر السيرة , نقيّ السريرة , فهو من عُمّار مسجد الحي , ومن جلساء الشيخ الداعية محمد أبو الخير الأبطحي ,كان متفوقاً في دراسته , ونال شهادته الجامعية بامتياز , ليصبح وبكل جدارة طبيباً ذاع صيتُه وانتشر خبر قدراته الطبية , وصفاته العالية, مع أنه لم يتم العام بعد تخرّجه 0 كانت أمه تذكر له أسماء بعض الشابات اللائي تعرفهن , وهي تتوق لرؤية ابنها الوحيد عاجلاً غير آجل في الدور الأعلى مع زوجه , وكان يبتسم لها بحنان ومحبة قائلاً: اختاري من شئت ياأمي , ولكن لاتنسي أني أريد الزوجة , ولاأريد المرأة لمجرد أنها امرأة , فهمت أمه قصده حتى وجدت بغيته في عفراء بنت منصور المعروف بتقواه واستقامته , وكانت فتاة ذات حجاب وأدب , نأت عن صويحبات التبرج والسفور , وترفعت عن ارتداء ألبسة الفتنة , وأقفلت في وجه شبابها النضر سُعار التحلل والميوعة والانتكاس , حين عرفت مالها من حقوق , وماعليها من واجبات0 وعدنان يستحق أن يتزوج هذه الدرّة المصونة , وهو الشاب المنسجم مع فطرته النظيفة, عاش شبابه يتقي ماحرم الله , ويحسن إلى والديه وأخواته ويكرم جيرانه , ولايبخل عليهم بدواء أو كشف طبي , وهو راض بما قسم الله له في دنياه 0

كانت جاراتها أم فاطمة وأم زياد وأم أحمد يتبارين في ترديد عبارات التبريك والدعوات الصادقة في حين افتقدن جارتهن أم غبار , حيث لم تحضر وقد عذرتها أم عدنان , بل أرسلت مع ابنتها طبقاً من الحلوى , وهذه من حقوق الجيرة0 واختلطت الأصوات بالفرحة التي غمرت الحاضرات , من جارات وقريبات 0 أمَّا أم عدنان فقد أزهر اليوم بستان عمرها , وفاض بالأنس , وحفل بالبركة , تماماً كوجهها الذي فاض بالسعادة , سعادة غير عادية , سعادة متميزة ولها حضور مشرق , أنارَ لمقلتيها درب الأمل الرغيد بمرح الأولاد ودلال الأحفاد , وكأنها تراهم يلهون ويتدافعون في غرف وبهو دارهم الواسعة الفارهة , وكأنها ذكريات جميلة لم تأت بعد 00 وانسابت هذه السعادة نهراً غامراً أغنى مشاعر أمومتها بأعذب الحب , وأنستها آلامها الشاقة مما تعانيه من وجع قلبها الذي لازمها منذ بضع سنين 0

كان ذلك في الغرف الخلفية للدار , وأما في غرفة الاستقبال فقد غصت بالمهنئين , من الأقارب والجيران والأصدقاء 00 لم يتخلف أحد ممن وصلته الدعوة , محمود وسالم وأبو غبار 0 جيرانه حضروا , وزوجاتهم حضرن مع الحريم , وإن تخلفت أم غبار عنهن0 وانطلق الشيخ محمد أبوالخير , مستغلاً المناسبة الطيبة لتلميذه النجيب عدنان , يلقي خطبة النكاح ,أصغى إليه الجميع , وهو يشهد للزوج بالصلاح , ويذكّر الناس بأهمية النشأة الصالحة للأولاد وللبنات , وتلا آيات الزواج , وعدّد بعض مناقب السير الحميدة للأسلاف , وحذر من انتكاسة الفطرة في هذا العصر , وصب جام غضبه على السفور والفجور والاختلاط , وقال إنها مزارع الشيطان , وسرابه الكاذب , وباطله المزيف , وأنها من أسباب انهيار الحضارات وسخط الله على العباد 0ودعا للعروسين بالخير والبركة ونظر إلى عدنان , وقال : بارك الله لك , وبارك عليك , وجمع بينكما في خير , بينما كانت زوجة الشيخ الأبطحي في مجمع النساء تقول لأم عدنان على الخير والبركة , وعلى خير طائر إن شاء الله 0

أمضى عدنان عدة أيام مع زوجته في دارهم , وسط أفراح وولائم وأمسيات طيبات , وساد المنزل صفوٌ ملؤه الهناءة والبر , ماندّت فيه كلمة عقوق ولااكفهر فيه وجه , ولم ير الجيران بيتاً أوضأ من إشراقات المنى والأنس كهذه البيت , وهاتف خاله المقيم في أحد مصايف البلاد أبا عدنان وأمه, مهنئاً لهما, وراجياً منهما أن يرسلا ولده وعروسه, ليقضيا بضعة أيام بين أحضان الربيع في مصيفهم الحافل بسحر وجمال الطبيعة التي خلقها الله سبحانه , فاستجابا , ولبى عدنان دعوة خاله , فودّع أمه وأخواته في المنزل , وخرج مع زوجته يرافقهما والده مودعاً لهما , وعند الباب يرن جرس الجوال الذي يحمله عدنان , وإذ به من خاله , يحثه على المجيء , ويطلب منه أن يكلم أباه , فيناول عدنان أباه الجوال قائلاً : معك خالي ياأبي , ويطول حديث الخال مع والد عدنان , بينما انطلق عدنان بسيارته الخاصة مردداً أدعية السفر, وقد نسي محفظته وفيها بعض حاجاته, كما نسي جوّاله بيد والده , ففي السفر مجهدة , وتشتيت للفكر , وترجمة لأقدار الله جلت قدرته 0

وتزور أم فاطمة جارتها أم غبار, وهي تعرف ماينطوي عليه قلبها من ذميم الخصال وقبيح الأفعال, ولكن مازالت العلاقة بينهما عادية , أما النوايا فهي بيد الله 0 وجلستا تتحدثان , ولابد من ذكر الحدث الهام في حيهم, وهو زواج وسفر الدكتور عدنان إلى خاله , فرأت أم فاطمة كيف غيّر الحقد قلب جارتها, وعصفت كلماتها ناراً حرقت حقوق الجيرة, وسفتْ أطياب المودة , وجعلتها جيرة مشوهة تنفث بالسموم , وطمرت وصايا النبوة في سراديب مطاردات القيم الأثيرة , كم عاتبتها أم فاطمة على تصرفاتها السيئة تجاه جاراتها عامة , وأم عدنان خاصة00 وكان جوابها يقطر حسداً ممزوجاً بكره عجيب 00 هي السبب , أم عدنان  إنها لاتجلس معنا , لاتخالطنا , أتظن أنها أفضل منا , وتستدرك أم فاطمة ، لا يا أم غبار, إن أم عدنان طيبة , لاتذكر الناس إلا بخير , ولعل مرضها المزمن بالقلب يحول دون كثرة زياراتها للجارات والقريبات 0 ردت أم غبار: هذا شأنها والمرض قدرها , أولم يكفها أنها زوجت بناتها وزوجت ولدها بعد أن صار طبيباً , ولديها قصر منيف 00 وراحت تعبر عما يجيش في حناياها من رعود الحسد وبرق الحقد , وانهمار سحب كمدها التي اختزنت فيها سوء معاملتها لجاراتها 00 اشرأبت عينا أم فاطمة تطل على وجه جارتها الذي جللته قترة السوء وغبرة الشر , وأخذت هي تحدث نفسها قائلة : ويلك ياأم غبار , لم تتذوقي حلاوة المودة لجارتك , ولا لأية مخلوقة فضلها الله عليك بكثرة مال أو نشأة طيبة للأولاد , ماذنب جارتك إذا كان أولادك فاشلين في دراستهم ، بل في حياتهم , أنت المريضة ياأم غبار , أنت المصابة بداء الكراهية ولكنه داء غير معد بفضل الله , شأنه شأن مرض السكري , حرم الله على صاحبه كل أنواع الحلوى الطيبة00 وقامت أم فاطمة مستأذنة بالخروج ولم تزل جارة السوء ترعد وتزبد , وكأنها في معركة 00 .تصارع عقدها النفسية , ونار الحسد إذا اشتعلت في جوف مخلوق لاتخمد إلا إذا احترق صاحبها 0 وجلست أم غبار تفكر في عبارة تقدمها لأم عدنان بمناسبة زواج ابنها , هكذا نصحتها أم فاطمة , فلابد من التهنئة , وعضّت شفتها السفلى , وتسللت إلى عقلها الأعمى عبارات امتزجت بضميرها الميت , منذ أن شهدت شهادة الزور وكانت سبباً في طلاق إحدى قريباتها0 وراحت ترغم نفسها وتقودها إلى سوق الشيطان لتتخير العبارة المناسبة والمعبرة التي تقدمها على طبق من المكر لأم عدنان0

كان عدنان يعيش في المصيف أحلى ساعات عمره , بشاشة وجه خاله وزوجته وسائر أفراد أسرته لاتفارق أحاديثهم العذبة وأمنياتهم الجميلة0وفي المسجد المجاور لدار خاله وجد إلفَه الذي اعتاد الجلوس إليه منذ نعومة أظفاره ,إنه الدرس اليومي لإمام المسجد , أغراه مافيه من زاد لروحه , وسيرة حميدة لحياته , والفرص سانحة في كل مدينة وفي كل قرية بفضل الله 00 وكانت كلماته لوالديه وأخواته تتدفق سروراً وبشراً يومياً من خلال الهاتف , وطفق ينقل خطاه في مروج سعادته الآمنة 0 ومضت عشرة أيام وكأنها عشر دقائق , واستأذن خاله بالعودة إلى بلدته , حيث الأهل والعمل الذي ينتظره , وأقفل الفتى عائداً ممتطياً سيارته الخاصة , يتجاذب حلو الحديث مع زوجته 0

علم الأهل بمقدمه , واستعدوا لاستقباله , أمه مازالت فرحتها تملأ عينيها بالدموع , ولسانها يلهج بالحمد والثناء على الله الذي أنعم وتكرم وأعطى 0 وقبل أن تصل السيارة مبركها , وصل الهمس إلى آذان الناس ينبئ أن حادثاً مرورياً أودى بحياة العروسين , وكان في حيهم رجل يماني يجاورهم منذ سنين , ولطالما أكرمه الطبيب عدنان بأنواع الأدوية والكشوفات , فصاح الرجل متعجباً (مَهْيَمْ) سمعتها أم غبار من وراء الباب, فأسرعت إلى زوجة اليماني تسألها عن معنى هذه الكلمة 0 فقالت : إن حدثاً مفزعاً قد جرى , وما أعجل ماتوصلت أم غبار إلى إشاعة السوء , ومن غير أن تتبين حقيقة الأمر , ومن غير أن تعرف من القائل ومن هما في السيارة المنكوبة , فحوادث السيارات تتعدد وتتنوع في كل يوم بل في كل ساعة 00 انطلقت وجه الشؤم إلى دار أم عدنان وطرقت الباب , تفتح لها أم عدنان وهي تترقب وصول ولدها , ولكنها سرعان ماترجمت بقلبها الطيب مجيء أم غبار إلى مقدم تهنئة , فعاجلتها أم غبار بقولها : جبر الله مصيبتكم , هذه حال الدنيا , أمسكت الدهشة لسان أم عدنان , أية مصيبة يا أم غبار!! وأسرع لسان المكر والحسد 00 موت عدنان وزوجته بحادث مروري 0

سقطت أم عدنان أرضاً , بناتها وزوج إحداهن حملنها إلى الداخل , أخبروا والدهم , حضر مسرعاً وأفكاره تترنح في رأسه وعلى الفور تم نقل المفجوعة إلى المستشفى واجتمع الأرحام والأصدقاء , أخرج أبو عدنان جوال ابنه الذي نسيه بيديه ساعة سفره , تأكد من أن عدنان وزوجه غادرا المصيف منذ الصباح 00 ياالله 00 الإشاعة صحيحة , وكلمات أم غبار ليست وهماً !! ويصل عدنان إلى باب الدار قبيل الغروب , لاأحد في الدار, في الشارع بعض المارة والجيران والأولاد , ولكن من يجرؤ أن يخبره بالإشاعة أو بنقل والدته إلى المستشفى , وتخرج أم غبار من بيتها المقابل لدار جارتها أم عدنان , قائلة لعدنان : الحمد لله على سلامتك يادكتور 0 أمك نقلوها إلى المستشفى قبل ساعة0 أجفلت زوجة عدنان وارتعدت أطرافها , بينما ركب عدنان سيارته , وجلست زوجته إلى جانبه ليجدا الناس في صمت مطبق , إلا من ترديد والده وزوج أخته ل: لاحول ولاقوة إلا بالله , اللهم عافها  0

بقيت الأم في غرفة الملاحظة ، تحت رعاية من الأطباء زملاء ولدها عدنان ،   وأمضى زوجها وابنها وبناتها وبقية الأهل والأرحام والجيران ليلة مأساوية ماكانت لتكون , لولا تلك التي تسترق النظر من باب بيتها لترى مايجري في قصر أم عدنان0بقست أم عدنان ثلاثة أيام في المستشفى ، حيثُ منَّ الله عليها بالعافية ، وألبسها ثوب الصحة ،خرجت من المستشفى برفقة أفراد أسرتها ...  وصلوا مدخل الشارع المؤدي إلى بيتهم ، وإذ بالشارع مليء بالناس والدخان يزاحمهم ، وسيارات الإطفاء تقرع أصواتها جنبات الطريق  ورأوا سيارة إسعاف تُحمل فيها أم غبار التي ماتت محترقة بعد انفجار مطبخها بالنار المتأججة من انتشار الغاز0 وجم الناس مرة أخرى وتنوعت العبارات في هذا الحادث غير المروري , ولكنها أجمعت على أن الله جلت قدرته يمهل الظالم حتى إذا جاء أجله لم يُفلته , فلا حول ولا قوة إلا بالله ، اقترب سالم جار أبي عدنان ليهمس في أُذُنه : ( لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله ) ، وأتم سالم كلامه : قلتُ لك أمس أن تُقدّم شكواك إلى المحكمة , فوالله إنها امرأة تستحق العقوبة الصارمة 0 وكان جوابُك يا أبا عدنان  : محاكمنا الوضعيّة وقوانينها المستوردة عمياء صماء لاترى فعل خناجر الحقد والحسد ولاتسمع صوت تدفق الآهات من صدور أحرقها الحسد بجمره , ولكن أقدم شكواي لله رب العالمين 0 لقد كان دعاؤُك  دعاءَ مظلومٍ يا أبا عدنان ، فسرعان مافُتحت له أبوابُ السماء !!

أما الأقصوصة :فيحصر كاتبها اتجاهه في ناحية ويسلط عليها خياله، ويركز فيها جهده، ويصورها في إيجاز ، ليقدم للقارئ فكرة معينة في مجال اجتماعي أو تاريخي أو يبعث من خلالها سجايا حميدة يحث على الأخذ بها ... وضع كاتب مشهور هذه العبارة على باب غرفته : (هل يمكنني قراءتها أثناء انتظاري سيارة الأجرة؟).

وقد أراد الأقصوصة، لأن هذا النوع من القصة الموجزة تدل على الجواب الشافي ، فان الأقصوصة نالت القبول والاعتراف الكافيين في المحافل الأدبية بحيث صرح احد النقاد المشهورين بأنها: (( المشاركة الحقيقية الأصيلة في الشكل والمضمون))

فالأقصوصة: فكرة يطرحها القاص مكثفة، المعاني والرموز والإحداث..تنتهج أسلوب السهل الممتنع، لا تخلو من السرد الموجز البليغ،  كمشهد أدبي معبر عن ذاته وعن رؤيته.، صغيرة الحجم، ويمكن أن تقرأ في جلسة واحدة، وتصوّر حادثة واحدة، أو موقفاً مفرداً،ًأو حالة نفسيّة لشخصيّة ما، والأقصوصة  يجمعها غرض واحد ويجعلها تمتاز بوحدة التأثير، وبالتكثيف والتركيز في الموضوع والحادثة . وفي الأقصوصة، قد لا نستطيع الاستغناء عن لفظة التعبير الأمثل عن العصر الحاضر بمجرياته المتسارعة.

* المبادئ الأساسية في بناء الأقصوصة:

البناء: ويتركب من مقدمة ومتن وخاتمة، على أن توجز المقدمة في فقرة واحدة، وقد تصل إلى فقرتين. فيما يتضمن متنها ثلاثة أو أربع حوادث سريعة متسقة في جمل مفيدة مركزة ، ولا يزيد طول الأقصوصة على عن عشرة أسطر أو صفحة أو صفحتين على أبعد تقدير  ، تجتمع فيها وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الحدث، من غير  تشعبات جانبية لحوادث ثانوية.على أن تؤكد الأقصوصة على الحبكة، من خلال نضج المتن واتساعه بما يختزله من تشخيص.  وحيثُ تشتبك الأداة الوصفية بين عناصر الحدث، وبما يشبه الصور المتحركة. بمهارة سريعة الخطى.

وأما العقدة وهي بمثابة العمود الفقري، تعد مطلباً مهما لكل شخوص الأقصوصة وصراعها القصصي الممتع وما يكتنفه الموقف بغية إيجاد الحل(اللازمة النهائية).

وتستخدم الأقصوصة عادة فكرة أساسية لها، تبدو للوهلة الأولى حادثة عرضية او مشهداً مقتطعاً من قصة طويلة. لهذا لا يمكن استقاء أفكار الأقصوصة من منابع القصة القصيرة.

وهذان نموذجان للأقصوصة *

الأولى :أقصوصة عنوانها (( الدَّلاَّل ))

استطاع أحد دلالي الأملاك المحتالين أن يبيع قطعة أرض لزوجين عجوزين، ولم يكن لديه حق شرعي فيها.. وبعد مدة قصيرة من تسليم الأوراق المزورة سمع الدلال عن اكتشاف النفط في تلك الأرض ، فأسرع لشرائها بسعر أغلى . وحين انتهى من توقيع الأوراق الثانية ، وجد الدلال أن البيع لن يتمَّ إلا بتثبيت شرعية الملكية للزوجين العجوزين قانوناً . لم يخسر الأرض فقط، بل وضع نفسه تحت طائلة العقوبة.

الثانية : وعنوانها : (( البائع ))

بائع يفخر بحذقه وتمييزه الشخصيات ، وقابليته على إرضاء زبائنه بمعرفة ما يرغبون وتلبية طلباتهم، يقابله ذات يوم زبونان له: شاب وزوجته.. قالا بهدوء : إنهما يبحثان عن بدلة لولد صغير. واختباراً لقابليته في البيع تكفل بإرضاء عملائه بإيجاد ما ظنه يرغبان فيه. وكلما ارتفعت حماسته زاد إحجامهما.. عرض عليهما عديداً من البدلات ، يحشد  لكل منها حججًا رائعة عن ميزاتها ، مشيداَ بمتانة هذا القماش ، وثبات ألوان الآخر، وعدم قابلية الثالث للتمزق، ومع ذلك لم يستجيبا لاقتراحاته المشوقة.، أخرج بعد ذلك بدلة ذاكراً أن الشركة تقدم معها مضرباً وكرة بيسبول للدعاية. غير أن هذه الملاحظة لم تهمهما إلا اقل من ذي قبل. وأخيراً اختارا نوعا من البدلات وأعطياه الاسم والعنوان لتسجيل الطلب، وغادرا المحل.. ظل البائع طلية النهار مكتئباً.. وشعر بالخيبة حيث لم يستطع كسب هذين الزبونين ، وفي المساء، جلس يطالع في بيته كعادته يطالع الصحف المسائية إذ وقعت عيناه على خبر بارز في حقل الوفيات ، يعلن عن  تشييع جنازة ابن هذين الزوجين، وهنا أطرق قائلا لقد فهمتُ !

* المرجع: فن كتابة الأقصوصة، ترجمة سعد الدين، منشورات وزارة الثقافة والإعلام والفنون، بغداد، 1978م

وأما الرواية :

يعرِّف بعض الأدباء الرواية فيقول :إن للرواية ـ بوصفها شكلاً أدبيًا ـ أربع سمات أساسية تميزها عن باقي الأنماط الأدبية هي:

1- شكل أدبي سرديّ يحكيه راوٍ، وبهذا تختلف عن المسرحية التي تُحكى قصتها من خلال أقوال وأفعال شخصياتها .

2- أطول من القصة القصيرة وتُغطي فترة زمنية أطول وتضم عددًا من الشخصيات أكثر

3- تكتب في لغة نثرية .

4- عمل قوامه الخيال، وبذلك تختلف عن التاريخ والسيرة الذاتية اللذين يحكيان عن أحداث وأشخاص حقيقية .

وقد يبني بعض الروائيين أعمالهم على أحداث أو حياة لأشخاص حقيقيين، لكنّ إبداعهم يكمن في إيراد أحداث أو شخصيات لا تمت إلى الحقيقة بصلة. ولذا فالرواية جزئيًا ـ إن لم يكن كليًا ـ من نسج خيال المؤلّف.

ويرى الأستاذ عبد المالك مرتاض في بحته القيم حول تقنيات السرد.. أن الرواية تشترك مع الأجناس الأدبية الأخرى (الحكاية ـ الأسطورة ـ الشعر ـ الملحمة.. )في عدة جوانب؛ ذلك أن الرواية لا تجد غضاضة في أن تشحن النص السردي بالمأثورات الشعبية، والمظاهر الأسطورية والملحمية جميعا بقدر ما تتميز عنها بخصائصها الحميمة.. إذ هي طويلة الحجم ولكن دون طول الملحمة في الغالب؛ وهي غنية بالعمل اللغوي ولكن يمكن لهذه اللغة أ ن تكون وسطا بين اللغة الشعرية التي هي لغة الملحمة، واللغة السوقية التي هي لغة المسرحية المعاصرة.. والشخصيات في الملحمة أبطال وفي الرواية كائنات عادية. والرواية نقل الروائي لحديث محكي، تحت شكل أدبي يرتدي أردية لغوية تنهض على جملة من الأشكال والأصول كاللغة، والشخصيات، والزمان والمكان والحدث؛ يربط بينها طائفة من التقنيات كالسرد والوصف والحبكة والصراع

الرواية في الأدب العربي

يرى الكثير من أدبائنا أنَّ الرواية فن نثري من وحي المخيلة، وعادة ما يتسم بالطول ويقوم على رسم شخصيات، ثم تحليل نفسياتها وأهوائها وتقصي مصيرها وتتبع مسارها ووصف مغامراتها ورصد هواجسها.  ، فالرواية صرح أدبي عتيد في مقدوره استيعاب كل التجارب الإنسانية والقيم الكونية في قالب إبداعي لحمته اللغة الأدبية الراقية إنه عالم لا حد لشخصياته ولا حصر لأحداثه ولا حدود مرسومة لأزمنته  ، وتعود نشأة الرواية العربية إلى التأثر المباشر بالرواية الغربية بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. ولا يعني هذا التأثر أن التراث العربي لم يعرف شكلاً روائيًا خاصًا به. فقد كان التراث حافلاً بإرهاصات قصصية، تمثلت في حكايات السمار والسير الشعبية وقصص العذريين وأضرابهم، والقَصَص الديني والفلسفي. أما المقامات العربية فذات مقام خاص في بدايات فن القص والرواية في الأدب العربي. وقد تركت بصمات واضحة في مؤلف المويلحي (حديث عيسى بن هشام) وفي مؤلفات غيره من المحدثين الذين اتخذوا من أسلوب المقامة شكلاً فنيًا لهم . وتظل الرواية العربية قبل الحرب العالمية الأولى في منأى عن القواعد الفنية، وأقرب ما تكون إلى التعريب والاقتباس حتى ظهور رواية زينب (1914م) لمحمد حسين هيكل، التي يكاد يتفق النقاد على أنها بداية الرواية العربية الفنيّة، حيث اقترب المؤلف فيها من البنية الفنية .وبين يدينا رواية ، نقرأ بعض التعليقات عليها :

لَن أَموتَ سُدى :

القاصَّة : جهاد الرّجبي ــ من الأردن

الرواية الفائزة بالجائزة الأولى في مُسابقة الرواية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية

كتب أحدهم عن الرواية :

رزء تتلوه أرزاء ، ووداع يتلوه نَبذ وسَفر، وأصداء لا تنفكّ تَصمّ آذان وائل بـ يا خائن !

وائل الشّابّ العشرينيّ المتوثّب للحياة السّاخط على اليهود ومن يعاونهم هو محور ارتكاز الرواية ، فـبِوَداعِه غزّة يبدأ الفصل الأول من الرواية ، وبحنينه وإزماعه العودة إليها تنتهي ، وبين دفّتيّ البداية والنّهاية يظلّ وائل يشعل بخور ذكرياته وآماله التي حدَت به للارتحال عن وطنه ، وطنه الذي قال عنه لأمّه ذات وداع:

لم يعد الوطن لنا ، لم يعد يعترف بجراحنا ، آن لكِ أن تعلمي أنّ الأرض لمن يدوسها لا لمن يُقبّلها!

ولأنّ وائِلا كان يُقبّل أرضه -برًّا- علِمَ أنّها ليسَت لَهُ فآثرالرّحيل لأنّه لم يَعُد يؤمن بجدوى رمي اليهود بالحجارة ، خرج من بلده متزوّدًا بذكريات الانتفاضة الأليمة ، وأمانٍ -لا يحدّها حدّ - ، وقلبٍ ضعيفٍ أَخْرَجَه يومًا من خلف القُضبان ولم يَنْسَ أن يخذله في نِهاية المَطاف!

أطياف من تبقّى من أسرته لم تفتأ تلاحقه في رحلته إلى المطار وفي الطّائرة وحتّى لحظة وصوله ، قراره بترك غزّة وأسرته كان بعد ان ألقى القدر في طريقه ورقة يانصيب رابحة تُسمُّى (جين) ، كان الامتنان لوائل لإنقاذه لها من الموت دافعًا لحبّ جعله يقتنع –بعد لأي- بضرورة الانتقال إلى أمريكا ليعيشا هُناك بعيدًا عن الدّماء والأشلاء في كنف والدها الغنيّ .

تزداد –مع التوغّل لأمريكا- وتيرة اشتعال الذّكريات فكلّما لاذ بالصّمت دفعته ضراوته لاستنطاق العجوز التي كان يُغيظه حديثها تارة ويُؤنسه محضرها تارات!

انتهت الرّحلة وحديث الانتفاضة لا يكاد ينتهي ليبدأ من جديد -وبأشكال وتصاوير مُختلفة-، حديث نفسه التي بين جنبيه ، مرأى سالم الفتوح ، عوض سائق السيّارة الذي أوصله للمطار ، العجوز التي تجلس بجواره ، وأخيرًاو في ردهة المسافرين يرى وائل في إحدى الشاشات برنامجًا عن الانتفاضة ويفقد الوعي حين يتأكّد من أنّ الشاب الذي قُبض عليه وبدأ الجنود بتحطيم ذراعه بقاعدة البندقية لم يكن سوى أخاه عليّ ، وساعتئذ يُصيخ لضميره ونداءات أسرته ووطنه سمعًا فيُزمع العودة لغزّة لولا أن يخذله قلبه الضّعيف!لن أموت سُدى ، رواية رائعة حدّ الروعة ذاتها -وإن كُنت قد أبخَسُتُها حقّها بسردي الركيك-، لغة جميلة وسرد مُمتع ، ومضمون ذو معانٍ سامية ، من أجمل الروايات التي قرأتها خاصّة أنّ عُنصر التّشويق لم يبرحها حتّى آخر سطر!

قضيتٌ وقتًا مُمتِعًا بين دفّتيها وآمل أن تجدوا المُتعة ذاتها إن قُدّر لكم قراءتها.

وكتب آخر :

رواية ” لن أموت سدى ” للكاتبة الأردنية / جهاد الرحبي ..

والتي فازت بالجائزة الأولى – في مسابقة الرواية لرابطة الأدب الإسلامي عام 1427هـ..

رواية تحكي عن الشاب الفلسطيني ( وائل ) ..

الذي كان يجمع المال ، بينما كان الفلسطينيون يجمعون الحجارة هناك ..

كان ضد فكرة رمي اليهود بالحجارة في شوارع وطنه كما يفعل البقية من الشعب ..

يكره أن يرى الموت ، والحجارة عنده لاتعدو سوى وسيلة دفاع لن تعيد القتلى ولا الوطن !

بل هو الطريق إلى الموت !

وائل .. كثيرُ الكلام أيام طفولته .. وحين يعتقل في شبابه يصبح ماهراً في الصمت !

فيثير عجبَ الحمقى  من اليهود !

ويدهشهم ذكـاؤُه وصبره !

وائل .. لايكره الوطن ..

يحب جده العجوز كثيراً .. وكان هو الأقرب إليه من بين أخوته ..

( رغم أنك لست حفيدي الوحيد ، إلا أني لم أحب أحداً مثلك ياوائل ) ..

كم يخيف وائل جده .. ولم يتردد الجد عن صفعه ذات مرة !

(وائل كثير الجدل ، يصرُ على رؤية الله ، ويظن أن اليهود يمكن أن يكونوا أصدقاء ..

لايريد بنتاً في البيت ، وحين تأتي يريدها له وحده .. أرأيت كم هو مخيف هذا الصغير !)

وائل يصرٌ على الرحيل عن وطنه ليعيش الحياة والحب ! لكنه لايكره وطنه وأهله !

بل يكره أن يموت وأمامه فرصة للحياة تشرق في عينيه كلما تذكر (جين ) !

لكنّ علي المقاوم لم يغادر خياله حتى على متن الطائرة ..! نهاية وائل مثيرة حد الألم !

( علي ، سالم الفتوح ، عوض ، حياة ، جين ، الدكتورة : هيلين جيرن، أحمد ) أسماء كان لها دورها في صب مزيداً من الإثارة على هذه الرواية الجميلة جداً ..

بعض مقتبسات أعجبتني  من الرواية:

( الحياة تخلق الوطن .. أي أرض تحتويني وتعطيني ما أستحق ، جديرة بأن تكون وطناً لأحلامي ) .

( لم يعد العرب كما كانوا ، صاروا فريسة للتناقض ، لم تعد حضارتهم ترضيهم ، رغم أن الخطأ فيهم وليس في الحضارة )

(عندما تشتد العتمة عليك أن تبحث عن نجمة مهما كلفك الأمر ، حتى لو اضطررت لتخيلها )

( الشيء الوحيد ، ينظر إليه من أكثر من زاوية ، وهذا يعني أن هناك أكثر من احتمال لحقيقته ، وبالتالي مهما انتظرنا لنصدر حكماً عادلاً ، يظل احتمال الوقوع في الخطأ قائماً لامحالة !!)

( اكتشاف المرء مقدار ضعفه سواء بالخوف أو الرجاء يدفع الإنسان إلى الإيمان بالله )

( الحب  جريمة يعاقب مقترفها بزنزانة سوداء , لاماء ولانور  ، ولا فرصة لاجترار الذكريات ، أنا ككل الأغبياء أحببت وطني جهراً ونسيت أن العدو يسمع كلماتنا قبل أن تصرخ في أيدينا البندقية !! )

( الوطن كبير لايمكن لقلب أن يحتويه ! لذلك نبحث عن أجزاء صغيرة نضعها في قلوبنا ، ونحبها ، حبنا للوطن ..) .

( كل الناس يعيشون في الوطن ، إلا الفلسطينيين ، فالوطن هو الذي يعيش فيهم ، الأم التي تزغرد لشهادة ولدها وهي تبكي ، تملك قلباً يتسع للوطن مهما كان كبيراً ! ) ..

( الأحاديث تجرنا صوب نهايات لانستطيع توقعها ، ورغم ذلك نظن أننا نحن الذين نختار أحاديثنا !! ) .

وفي ختام هذا العرض عن القصة بأنواعها ، وبعض النماذج الميسرة للقارئ ...  أنقل ماكتَبْتُه حول البداية في كتابة القصة من موضوع : ( من أجل أن تكتب ) ...

هيَّا لنكتب :

الآن سنجرب الكتابة ، ونبدأ بكتابة القصة القصيرة التي يشهد أهل النقد ومنهم الدكتور عبدالرزاق حسين : ( بأنها فن قريب بعيد ، من يقف على الشاطئ يظنها سهلة العبور ، ومَن يسبر غورها يعرف عمقها واحتياجها إلى عدة وعتاد ،ولا ينجح في عبورها إلا أولئك السابحون الماهرون الذين تمرسوا بها ، وتمترسوا في خنادقها ، وخبروا جوهرها ، وعجموا عيدانها ) ...

وليكنْ ذلك  ... لنجربْ ولا نريد أن نكون من كتَّاب القصة الآن ، نريد أن نجرِّب ...

* بدايةً ... كن صاحب إرادة ، وخذ ــ الآن ــ الورقة والقلم ، وأنت هادئ مطمئن ،واستحضر فكرك .

*  استذكر قصة قرأتها ، أو حادثة مرَّت بك أو جرتْ مع غيرك ، أو اقرأ الآن قصة قصيرة ...

*  دع القلم والورقة أمامك ، وأغمض عينيك ، واسرح بفكرك فيما قرأت أو علق ببالك من قصة أو حادثة

* حاول أن تستلهم وتستوحي من مخيلتك أجواء القصة والأحداث . ومن المهم أن تكون الفكرة جيدة

لاتتردد ... فأنت صاحب إرادة ، وقد أصبح لديك بعض الأفكار تتراءى في مخيلتك ...

* ابدأ الكتابة ... اكتب ، دوِّنْ الأفكار التي خطرت ببالك الآن ... 

* لابأس استعن بأيِّ كتاب حولك ، افتحْه ، انقل منه جملة مناسبة أو جملتين ... تابع الكتابة مما في ذهنك ... اكتب ... اكتب لاتتردَّد ... إنها البداية ، ولسوف تنجح في كتابة القصة بإذن الله .

* حدِّدْ مجموعة من الأفكار لقصتك ، دوِّنْها الآن على ورقة ثانية ( كرؤوس أقلام ) كما يُقال .

* ارجع بذهنك إلى الحادثة التي  حصلت لك أو أمامك ، أو مع أحدهم وامزج الواقع بالخيال ..

* بداية وعقدة ونهاية ... لقد بدأت : خمسة أسطر ، عشرة أسطر ... بداية موفقة ... تابع

* من هم أبطال قصتي ؟ حدد هوية كل شخصية بالتفصيل . وارسم لكل شخصية طباعها وأفكارها

* اختر لهم أسماءهم الحقيقية أو ابتكر أسماء وهمية ... لايضر

* لاأدري !!! هل أصابك الملل ؟ أم تعبتَ ؟ أم ... لا !

*  احذر ...  فإنك بطل القصة الحقيقي صاحب الإرادة ، الذي يقاوم التعب .

* ولكن لاضير ... إنها استراحة المقاتل الشجاع ، استراحة لجولة تالية ...

* فإذا شعرت بأن نوافذ فكرك أُغلقت .. وما عُدْت تعرف كيف تكتب و تعبر . ..

* أو أن الأفكار رحلت فلا تخف  .. وتذكَّرْ دائما أنك صاحب إرادة ...

* خذ قسطا من الراحة .. اخرج من المنزل .. . إنك لن تنسى ، أفكارك ستعود إلى ذهنك ...

* ها قد عدت ... فتح الله عليك ... باشر الكتابة بتوسَّع ، فهذا عرض الأفكار والانفعالات ...

* حيَّاك الله ... ألا ترى أنك  رجعتَ إلى القلم والورقة وأنت نشيط ... هيَّا فقد دخلت في الموضوع

* استرجع بدايةَ الحدثِ ... تابع ، قلِّب صفحات قصة قريبة منك ... استعن ببعض الجمل

* لايهمك الآن وقوعك في أخطاء إملائية أو نحوية ...

* اكتب ، اسرد من مخيلتك ، ماذا فعل ذاك ، وماذا تظن في داخل نفسه ، ماذا يريد من تصرفه

* إذا دوَّنْتَ جميع مابذهنك ، واكتملت القصة بعرض مالديك من أفكار ، وإبراز ماعندك من معالجات ، وأغنيتها من تجارب تتردد معانيها على ألسنة الناس ، وبثثت فيها صورا للإمتاع والتشويق ...

*  فضع لها خاتمة ، واجعلْها زبدة اهتمامك منها .

* الآن أنهيتَ كتابة القصة التي كتبتها ... مبارك عليك بداية الإنجاز، وتستحق التهنئة على هذا الجهد .

* اترك القصة بضعة أيام ، وحاول أن تتناساها ، ثم عاود قراءتها من جديد ...

* ربما ستجد كما قلت لك قبل قليل أخطاء إملائية أو نحوية ، أو خطرت ببالك تعديلات أساسية أو ثانوية على القصة .. قد تغير مجرى الأحداث . هذا جيد ولا بد منه لكل كاتب ، وهذه علامة الفوز بالجائزة ... جائزة البداية الناجحة .

* استعن بأهل العلم والأدب الذين تتوسم فيهم الخير ، فستجد عندهم القلب الحاني ، والتقويم السليم .

* ستفرح راضيا بتوفيق الله لك ، ولسوف تبدأ بقصة ثانية وثالثة ... لاأشكُّ في ذلك أبدا .

وسوم: العدد 867