حِكْمَةٌ

من آثار ظاهرة النص القصيرِ الحكمةُ، أي أن يجدَه متلقُّوه قد انبعثَت فيه كوامنُ خبرة صاحبه بالحياة في نفسه ومن حوله؛ فاستخلص منها ما ينير البصيرة ويهذب السلوك ويزيد الإنسانية- فيستحضروا ما في ذخائرهم من مثله، لعلهم يستغنون به عنه، فلا يملكوا إلا أن يضيفوه إليه!

هذا نص قصير يعبر عن سَفَر القارئ بما يقرأ، بخمس وعشرين كلمة، في جملة واحدة، على ثلاثة أبيات:

أَنَا مَنْ بَدَّلَ بِالسُّفْنِ الْكِتَابَا فَتَبَحَّرْتُ عُبَابًا فَعُبَابَا

كُلَّمَا أَسْلَمَ خِلٌّ خِلَّهُ وَطَغَى الطُّوفَانُ وَازْدَدْنَا اغْتِرَابَا

لَجَأَتْ نَفْسِي إِلَى مَرْكَبِهِ ثُمَّ جَدَّفْتُ بِهِ بَابًا فَبَابَا

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فرَمَلِيّة الأوزان الوافية المحذوفة الأعاريض الصحيحة الأضرب، بائيّة القوافي المفتوحة المردفة بالألف الموصولة بالألف:

قد جرت مجرى قصيدة أحمد شوقي أمير الشعراء ذات الثلاثة والسبعين بيتا، المشهورة بمطلعها هذا:

"أَنَا مَنْ بَدَّلَ بِالْكُتْبِ الصِّحَابَا لَمْ أَجِدْ لِي وَافِيًا إِلَّا الْكِتَابَا"،

وفي هذا الوزن حركة مثل حركة السابح، فإن كانت أسرعت بالبيت الأول من النص القصير فقد لاءمت رغبة صاحبه في الاستبدال برحلة السَّفَر الحقيقية رحلة القراءة المجازية. وقد علا بأَلِفَيِ الردف والوصل صوتُ القافية، وزاده علوًّا انفجارُ باء الروي ولم ينقصه، إمعانا في الدلالة على بلوغ صاحب النص بسفره المجازي ما لا يبلغه السفر الحقيقي!

وأما جملة هذا النص القصير الواحدة، ذات الكلم الخمس والعشرين، فقد تَنَمَّطَت بمنزلة ركنيها من التعريف والتنكير، من نمط "ضمير متكلم واسم موصول"، على النحو الآتي:

جملة اسمية واحدة مستولية على هذا النص القصير كله، فيها من الوثاقة الطبيعية ما يناسب رغبة صاحبها في الإقناع بدعواه، انطلق بها يعارض قصيدة الأمير ذات الثلاثة والسبعين بيتا –والأمير معروف بجريه في توليد الحكم مجرى المتنبي- مائلا عن عناية الأمير في قراءة الكتب بمعنى الصحبة، إلى معنى السفر، وعن حرص شوقي على انفصال أبيات قصيدته الطويلة ليستقل من شاء بأيها شاء، إلى اتصال ثلاثة أبياته بنظام جملة واحدة.

وسوم: العدد 871