تاريخ الآداب الإنسانية (5) "بدايات ومؤثرات"

(6) مراحل علم الإنسان وتكوينها في عقله

يتطور علم الإنسان في اكتشاف الحياة والأشياء والكائنات، واستيعاب العلوم والثقافات وتفاصيلها بعد أن يمر في مراحل مختلفة من التطور، وتحت ضغط الحاجة والمعاناة والتجريب حتى يصل إلى حقائقها، ويجنى ثمارها وفوائدها وقد أشار المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي -رحمه الله- إلى هذه المراحل بشكل مقتضب في كتابه الشهير    (مشكله الثقافة) (20).

 ومن المفيد لهذا البحث أن نتناول هذه المراحل بشيء من التفصيل المفيد الذي يخدم فكرته ويوضح فوائده، ضمن المراحل والتقسيمات التالية بهدف تيسيره وجلاء منهجه والاستفادة منه:

١. المرحلة الأولى (المرحلة الحضورية):

 وهي المرحلة التي تكون فيها الظواهر والأشياء والمخلوقات والحقائق والعلوم والثقافات موجودة وحاضره في خلق الله سبحانه وتعالى، ولكنها غير واقعة ولا معلومة لدى عقولنا و حواسنا وتجربتنا وشعورنا، لأننا نجهل وجودها وليس لدينا علم عنها ولا بها، لأن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك حقائق عالم الشهادة دفعة واحدة، فكيف بحقائق عالم الغيب البعيدة عن مجال حواسه وعقله، وحتى لا نبتعد كثيرا عن أمثله (الغيب المؤقت) الذي يمكن تحوله إلى واقع وعلم شهادة، لأنه يخضع لتطور وتجربة الإنسان في التعرف على الأشياء واكتشافها، وخير مثال على ذلك اكتشاف الزمن، وضبطه بصناعة الساعة، واكتشاف الظاهرة الكهربائية، والتعرف على وجودها والقوانين التي تحكمها، واكتشاف الجراثيم وفوائد ذلك للحياة الإنسانية، واكتشاف الأمريكيتين والعالم الجديد، وتعميره بالهجرة إليها، واكتشاف طبقات الجو وموجات الراديو وغيرها من المكتشفات، فكل هذه المكتشفات كانت حاضره في خلق الله، ولكنها لم تقع في مجال حواس الإنسان وعقله وعلمه، وجاء اكتشافه لها في فترات متأخرة، فالجراثيم مثلا كان اكتشافها محكوما بتطور العلم البشري، ومنذ اكتشاف الحسن بن الهيثم للعين والعدسات وتشريحها، ومعرفة أجزائها ووظائفها ثم مجيئ باستور الفرنسي وتطويره للعدسات، حيث وقعت هذه المخلوقات الصغيرة (الجراثيم) ضمن مجال علم الإنسان، فعلم بوجودها ولذلك سميت المرحلة التالية بمرحله الوجودية، لأنها علم بوجودها بعد أن كان لا يعلم عنها شيئا.

2. المرحلة الثانية (المرحلة الوجودية):

 وهي المرحلة التي وصل فيها علم الإنسان إلى العلم بوجود الظواهر والأشياء، لأنها وقعت ضمن مجال العقل وحواسه وأول ما علم بوجودها وتمثلت في شعوره يطلق عليها أسماء، لأن تسمية الأشياء يعني بداية علمنا بها وميلادها في وعينا وشعورنا، وهو إيذان ببداية البحث عنها والاهتمام بها، لتعميق العلم عنها وبحث وشائجها بمحيطنا وفائدتها لنا أو خطرها علينا، وهذه التسمية تعتبر بداية الاعتراف بوجود هذه الظاهرة، واندفاع الإنسان بحب الاستطلاع والمتابعة لها، وإذا انكشف له وجه المصلحة فيها ازداد إلحاحا في البحث عن تفاصيلها وجمع المعلومات المفيدة له عنها.

٣. المرحلة الثالثة (المرحلة التجريبية):

 وفي هذه المرحلة لا يكتفي الإنسان بإطلاق الاسم على الظواهر الجديدة المكتشفة وجمع المعلومات، عنها بل ينطلق إلى البحث في التفاصيل، ومعرفة العَلاقات المرتبطة بتلك الظواهر المبحوث عنها، ومن هذه الظواهر مثلا ظاهرة الكهرباء، وظاهرة المخلوقات الدقيقة (الجراثيم)، وظاهرة طبقات الجو، وموجات الراديو، بل انتقل بهذه الظواهر والأشياء إلى مرحله البحث والملاحظة والتفحص لمكوناتها، حتى يتمكن من معرفة ومتابعة التفاصيل والقوانين التي تحكمها وتضبطها، والتعرف على إمكانية الاستفادة منها لحياته، حيث تم التعرف على (الجراثيم) وأنواعها وأطوارها ونموها وأشكالها ومنافعها ومضارها وطرق القضاء عليها، ثم تم توظيف هذا العلم في خدمه الإنسان وحمايته من مضارها، وكذلك الكهرباء وقوانين التحكم بها، وتوليدها والاستفادة منها في الإضاءة والحياة، وتشغيل المصانع، وكذلك اكتشاف القارات الجديدة والتعرف على مواقعها وخيراتها، والانتقال إلى السكن فيها، ومثله اكتشاف أبو الحسن المراكشي لعنصر الزمن، وما وقع في نفسه ومجال شعورهم في التعرف على ضبطه وقياسه، وتقسيم دوران الأرض بين الشرق والغرب والليل والنهار إلي 24 قسماً، وسماه الساعة، ويمكن تعميم الأمر كذلك في فهم علوم الوحي، وفقهها والغوص فيها بعمق، لفهم أوامر الله سبحانه وتعالى في العقيدة والعبادات والتشريع والقيم والسلوك، حين انتقل العلماء من حضور المعلومات في المرجعية، إلى تفاصيل فقهها وإدراك وجه المصالح الشرعية فيها خدمة للدين وحفظاً للإسلام والمسلمين.

٤. المرحلة الرابعة (المرحلة العلمية):

 وهي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى اكتمال المتابعة والتجريب والاكتشاف للقوانين والسنن المضطردة والعلاقات التي جعلتنا نتعرف عليها، والتطبيقات التي تحكم هذه الظواهر، واستطعنا فيها بعد تكرار التجارب التي أكدت لنا صحة النتائج التي توصلنا لها، وبذلك وصلنا إلى خلاصة العلم، من خلال معرفة القوانين العلمية التي تمكننا من توظيف هذه الاكتشافات في مخترعات مفيدة ونافعة لنا، مبنية على أصول علمية مؤكدة أو فقه مؤكد لأصول ديننا.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

وسوم: العدد 884