المضمون الإسلامي في شعر يوسف العظم

azm895.jpg

تناول الشاعر يوسف العظم عدة موضوعات في شعره، منها الديني، ومنها السياسي، ومنها الوجداني، والاجتماعي، والإخوانيات، ففي الشعر الديني تحدث عن التربية الإسلامية، والدعوة إلى الله، والنبي والصحابة والحديث عنهم، وصورة الحجيج ، والإيمان بالقضاء والقدر، والجهاد، وقضية فلسطين..وغير ذلك من الموضوعات.

التربية الإسلامية:

إن المتتبع لشعر يوسف العظم وأدبه، يجد التزامه الكامل بمفاهيم الإسلام وقيمه فنشأته الدينية، وحفظه للقرآن الكريم، وتعرفه على رجال الحركة الإسلامية في وقت مبكر، وانخراطه في جماعة الإخوان المسلمين كان له أثر كبير في هذا الالتزام، فلا يكاد يخلو ديوان من دواوينه من المضامين الإسلامية، وهو الذي تمثل بأداب الإسلام وتحلى بأخلاقه، واختار تعاليمه منهجاً لحياته التي تدعو إلى تربية إسلامية قيمة، وأساس ذلك محبة الله وإخلاص لتعاليمه، وذلك بهجر الملذات الدنيوية، والتمسك بكتابه أساس التربية الإسلامية، ويقول:

إن سألتم عن شوقنا وهوانا       كان طلّ الجفون بعض الجوابِ

ليس في الدمع ذلةٌ لمحبّ         حين يهمي لدى فسيح الرحابِ

أنا من همتُ في محبة ربي       لا تلومي أو تكثري من عتابي

إن هجرتُ المتاع واللهو عمري     وأنرتُ الحجا بهدي الكتاب ِ

وتبرز أهمية هذه المضامين في التزام الشاعر نفسه بالتربية الإسلامية، ومبايعة ربه على المضي في رسالة الإسلام والالتزام به منهجاً سديداً في الحياة لا يحيد عنه، يقول:

فاشهدوا أنني أبايع ربي                وألبّي بحرقة الملتاع ِ

فاتحاً للسماء قلبي وكفي   مخلصاً في الرجوع عف المساعي

ومع الحق قد وقفت سلاحي     وعلى البرّ قد قصرتُ يراعي

فحياته كلها مسخرة لله وحده مصداقاً لقوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنا أول المسلمين).

ولعل من أهم مبادئ التربية الإسلامية الصحيحة، الصدق في كل مناحي الحياة، وبخاصة الصدق في النصح المستقى من خبرة حقيقية في الحياة وهو يضع هذا النصح في هالة تمنحه كل مقومات التأثير في نفس المتلقي ، فهو مبني على الخبرة ، ولا يرجو منه صاحبه عرضاً من عروض الدنيا، وهو صادر من القلب إلى القلب، وأن يترفع الإنسان عن عروض الدنيا او يتكسب بشعره يقول :

محضتك النصح فاسلم غير ذي سقم وأصدق النصح ما قد فاض من ألم ِ

أزجي لك الشعر لا أبغي به ثمناً   فلست أقتات من شعري ومن نغمي

قصائدي من نياط القلب أطلقها     عبر اللسان فيحدوا للأباء فمي

ويؤكد هذا المسلك باستحضار الصورة المقابلة لهذه الصورة، وهي صورة مرفوضة عنده وتستشعر ذلك في الدعوة إلى الأخوة الصادقة، ونبذ النميمة بين الناس ووجوب مراعاة المسلم لحرمة أخيه المسلم في المعاملة وحسن التعامل يقول:

قل لمن ينهش لحمي       ثم يدعوني أخاه

حبذا لو يترك الوعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــظ ولو يغلق فاه

ليس دين الله لغواً           تتعاطاه الشفاه

إنما الدين إخاءٌ               لا تفكنّ عراه

ونراه كذلك يؤيد الحقائق التي نادى بها الإسلام، وهي شراكة المرأة للرجل في ميادين الحياة، شريطة الالتزام بتقوى الله، والغضب لدينه والعفة وصون النفس فالمرأة صانها الإسلام وحفظها من كل ابتذال أو سوء، ودعا إلى تربيتها تربية دينية صالحة، يقول في قصيدة يهديها إلى ذات الخمار المؤمنة داعياً فيها إلى تحلي المرأ بالخلق الإسلامي والتربية الربانية الصحيحة:

صوني خمارك لا تهابي       وتدثري عف الثيابِ

وامضي على درب الهدى     واستلهمي نهج الكتابِ

أنقى من الماء الطهو         ر يسيل من مزن عذابِ

وسلاحك التقوى البصيرة تلــــــــــــــــــــــــــــتقي برؤى الشبابِ

وإذا غضبت لدين ربك         كنتِ كالليث المُصابِ

بنتاهُ أنت رجاؤنا       في ظلمة العصر الضبابي

فتدثري وتزملي           بالزي يشرف بالحجاب ِ- قبل الرحيل: ص 72 .

فإضافة إلى أن المفهوم العام إسلامي، فهو يسبغ من الألفاظ ذات الأبعاد العميقة في نفس الإنسان المسلم بلفظ ( تدثري، نزملي ..) ألفاظ لها أثر في نفس المسلم نابعة من تلك القصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، وإحداث الانقلاب في نفوس البشرية، ولعل هذا الاستحضار يؤكد أن الالتزام بالزي الشرعي الإسلامي يحدث انقلاباً في نفوس الأخريات بالتقيد به والالتزام بارتدائه .

ومن أهم مبادئ التربية الإسلامية التي حرص عليها كثيراً في شعره دعوته إلى بر الوالدين والرفق بهما متكئاً على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يمقت هجر الوالدين ويدعو إلى عدم نهرهما أو التلفظ عليهما بألفاظ تسيء مسامعهما:

جحود إذ تلاقي منك هجراً   وأفّ في مسامعها عقوقُ

فصبحُ الأمّ إن قاسيتَ ليلٌ     وإن عوفيتَ فالدنيا شروقُ

وهو هنا يستلهم قوله تعالى ( فلاتقل لهما أفٍّ ولاتنهرهما )

ويشدك استخدامه للمصدر (جحود) فهو لم يستخدم الفعل؛ لأن الفعل مقرون بزمن، إما الماضي أو الحاضر أو المستقبل في حين نجد المصدر يدل على الحدث دون اقتران بزمن معين، وهذا يعطي المعنى صفة الإطلاق على مدى الزمان، أي أنه مطلوب من الإنسان على مدى الزمان التقيد ببر الوالدين، ويؤكد طاعة الوالدين في عصر كثر فيه عقوق الوالدين منطلقاً في شعره من مضامين القرآن الكريم والتي قرن الله سبحانه طاعته بطاعتهما فقال: وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) إذ يقول:

فإن كنت ترجو الله برأ ورحمة     وحوراً وجناتٍ وبيض كواعبِ

فبادر لرضوان بإيثار من مضى   يسوق لك الحسنى كثير المناقبِ

وإن كنت لاترعى أبوة من رعى       حياتك فالنكرانُ شرّ المثالبِ

تظلُّ شحيح النفس لا برّ عنده       وتبقى جحوداً لا تقرّ بواجبِ

غداً تعبس الدنيا بوجهك كي ترى   حياة تهاوى مثل بيت العناكبِ

تنوء بحمل من عقوق وذلةٍ         ويوم حسابٍ فيه عدل المحاسبِ – قناديل في عتمة الضحى: ص 68، 69 .

ويستوقفنا أسلوب الترغيب والترهيب في هذه الأبيات، وهو الأسلوب التربوي الإسلامي الذي يكشف عن جزاء من يحقق دعوة الله في بر الوالدين وعقاب من ينكر بر الوالدين ويجحده.

الدعوة إلى الله:

يتراءى للدارس أن الشاعر كان قد اهتم اهتماماً ملحوظاً بصفات الله سبحانه وتعالى ولهذا نجد الشاعر يتحدث كثيراً عن صفات الله وذكر نعمه وآلائه والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه مستلهماً ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء، والصراع الدائم بين الحق والباطل، وتصوير اللحظات الإيمانية والعبادات، ولم يدخر جهداً في الدعوة إلى الله، والعودة إلى العقيدة الإسلامية والتفكير في خلق السماوات والأرض مصداقاً لقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب).

والتذكر بعظمة الله ووحدانيته إيماناً بأن الدعوة إلى الله هي السبيل لرفعة الأمة ولعل هذا كان مقصوداً لذاته.

لا تقنطوا من رحمة         الرحمن أو مرضاته

فالحلم والغفران         والرضوان بعض صفاته

لا تمتروا في ذاته             فالروح من آياته

والصدر في أنفاسه           والقلب في خفقاته ) في رحاب الأقصى: ص 138، 139.

ويقول وقد ذكر صفات الله ومعجزاته في الكون الذي خلقه وبث فيه كثيراً من آلائه، فالليل سكن لهم والنهار معاش لعباده وهذا الشفق والنجم والجو والرعد والبرق كل ذلك خلقه لعباده لكي يستوحي منه المسلم العبرة والعظة ومن خلالها يتوصل إلى حقيقة الإيمان واليقين بعظمته ووحدانيته:

لا تمتروا في ذاته       فالكون من آياته

إن ضج في حركاته     أو نام في سكناته

والصبح في إشراقه       والليل في ظلماته

والشمس في كبد السما   والنجم في رعشاته

والجو في إعصاره     إن هب أو نسماته

والرعد دوّى قاصفاً     والبرق في ومضاته

سبحانه قد حقق   الإعجاز في كلماته

وكثيراً ما يركز الشاعر على وحدانية الله، وأنه ما خلق الإنس والجن إلا للعبادة، وهو صاحب المغفرة والرحمة، وبيده كل الأمور ، ولهذا يتوجه إليه يطلب منه العفو والمغفرة ويحض على العبادة والطاعة إيماناً بعظمة الله ووحدانيته فيقول:

آمنت بالله في حسي ووجداني     وفي فؤادي فرداً ما له ثانِ

وأنه الواحد القهار قد خضعتْ   له الخلائق من أنس ومن جانِ

وأنه الخالق الغفار يصفح عن   كل الذنوب فجد ربي بغفرانِ

إن كان ذنبي عظيماً أنت تعرفه   ياغافر الذنب فجر نبع إيماني

وينطلق في الحث على العبادة والطاعة من سيرة الأنبياء عليهم السلام، ويتأسى بخطاهم في الدعوة للظالمين بالصلاح والهداية لعلهم إلى ربهم يرجعون إذ يقول:

سدّد إلهي خطا الجلاد علّ له     خطاً من الخير وأرحم روح سجاني

علّ بعض بني قومي إذا علموا         أني عفوت أعادوا عز ألحاني

وفي قصيدة بعنوان الله أكبر يصف الشاعر ألحان الإيمان، ووقعها في نفس الإنسان المؤمن، ففي آذان الله دعوة متكررة خمس مرات يومياً لمن شطت به سبل الظلال عن سبيل الله، فيقول:

ردد الكون نداءات الأمان     أجمل الألحان في سمع الزمان

دعوة للحق في أجوائنا             كلها خير وبر وحنان

لو عرفنا الله ما شطت بنا     سبل التضليل أو ذقنا الهوان

غير أنا أمة قد أصبحت     كل ما فيها ..حديث ولسان – في رحاب الأقصى: ص 266 .

هو شاعر مسلم ملتزم، استوحى معاني القرآن الكريم ومضامينه في جميع أشعاره، وفيه دعوته للتمسك بالدين الإسلامي، لأنه طريق النصر والظفر على الغاصبين، فقد استلهم معانيه وبعض آياته القرآنية وألفاظه ذات الدلالات المعبرة عن المواقف المختلفة التي أراد الشاعر إبرازها، لأن من واجب المسلم الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو لا يدخر جهداً في الدعوة إلى التوبة والإقبال على الله طلباً لمغفرته ونيل ثوابه لقوله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون). وقوله ( يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون). ويستمد من إيمانه قوة في مواجهة رغبات النفس ودعوات الشيطان فيقول:

رب قد أقبلت في ظل رحابك     خاشع الطرف لدى نور شهابك

خاضع النفس ذليلاً صاغراً     وفؤادي ساجد يجثو ببابك

كم بكى يارب في سجدته     إذ يهاب الهول في يوم حسابك

يرقب الغفران في يوم الظما     وهو يرجو الورد من فيض شرابك

كلما وسوس الشيطان الهوى     قلتُ يا شيطان سحقاً لسرابك

أو دعاني خاصرٌ يعصف بي   قلتُ يا شاعر رفقاً بشبابك

كيف تشري ضلة بعد هدى       وتمني النفس ظلماً بخرابك

أنت ما زلت فتى لا ترعوي     ضلت الحكمة في غضّ إهابك

عد إلى الله ورتل آيه               فلعلّ الله يرضى بمتابك

ربّ لن يهديني في حيرتي     غيرُ نور وسناء من كتابك- السلام الهزيل: ص 15، 17 .

ففي هذه القصيدة يتبين لنا حديث الشاعر مع نفسه ودعوته إياها إلى تذكر قوة الله، والحاجة إلى الإيمان في وجه شرور النفس وطغيان الحياة المادية عند الناس، ففي هذه النغمة الإيمانية ما يوحي إلى أن الشاعر يبدأ بنفسه ليعتبر غيره أو ليدعو غيره إلى الله والامتثال لأوامره فهو ينحي الهوى العاطفي الذاتي في سبيل ما خلق له الإنسان من إيمان وطاعة ولا يجد سبيلاً لتنمية ذلك الهوى غير نور آيات الله في كتابه العزيز.

القرآن الكريم:

لقد كان القرآن الكريم موئلاً لشاعرنا، يتخذ منه العبر والعظات، ويستلهم القصص القرآنية التي يتأسى بها في حياة مليئة بالإحباط واليأس، فيصور الصراع بين الحق والباطل مرتكزاً على سورة القصص، وقصة فرعون الذي تاه مغروراً وعلاه التكبر، وقصة السحرة الذين تنادوا بسحرهم وشعوذتهم لحقيقة أنفسهم، وتأييد الله عز وجل لنبيه موسى عليه السلام وعصاه التي تحولت بإذن الله ثعباناً يلقف كل ما أتى به السحرة، فالإسلام هو الطريق والمنهج الذي يجب أن نلجأ إليه ونتمسك به، فلا ناصر إلا الله عز وجل ولا راد لحكمه غيره، ينزل البلاء على عباده امتحاناً، فهذه القصص القرأنية فيها عظة لمن أراد أن يتعظ وعبرة لمن أراد أن يعتبر ، فلم يبق أمام سلطانه إلا الإيمان بالله والتصديق بسنة رسوله، فيقول:

في سورة القصص الغراء موعظة     وفي تلاوتها هدى وتبيانُ

يختال فرعون مغروراً بزينته     وقد بنى الصرح للمختال هامانُ

والساحرون تباروا في براعتهم     يعلي عليهم فنون السحر شيطانُ

وكف موسى بلا سحر وشعوذة   ينساب منها بحول الله ثعبانُ

ليلقف السحر مهزوماً يطارده     وقد تبدد ما للسحر سلطانُ

مذ كان ربك بالمرصاد يرقبهم   وقد حلّ بالقوم تشريد وخذلانُ

وكان ربك يرعى جند دعوته     والمستبد له خزي وخسرانُ

فأمر ربك حقّ لا مرد له           وحكم ربك تنزيلٌ وفرقانُ – قبل الرحيل : 81، 82 .

ولعل في استحضار هذه القصص القرآنية، ما يؤكد الدعوة إلى الله إذ يأخذ المرء العبرة مما حدث في قصص السلفين من أنبياء وغير أنبياء تجاه الله، ويتعظ المرء مما حدث في مشمولات هذه القصص، ويعود إلى الله مؤمناً صادقاً صابراً مثابراً على الإيمان والإخلاص لله.

سيرة النبي والصحابة والحديث عنهم:

لقد اكتنزت قصائد شاعرنا بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام، مقتدياً بهم، وذاكراً فضلهم ودورهم في حياة الأمة، وفي نشر دين الله، قال في المنهج الرباني الذي جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – لبني البشر:

حمل الكتاب محمد           وحباه ربك ذو الجلالة

خلقاً تسامى في الوجود     وصاغ في شرف خصاله

فادحر بنور كتابه           حجب الغشاوة والجهالة

واضرب بسيفك جهاده         عنق الغواية والضلالة

وازرع بفيض عطائه           حقل الكرامة والعدالة

واسعد بمنهجه الذي           يلقى على الدنيا ظلاله

فهذه دعوة للاقتداء به والسير على خطاه، واستلهام سنته قولاً وعملاً ليسعد الإنسان بالمنهج الذي سار عليه، والشاعر داعية إسلامي يقظ، حمل القرآن الكريم بيد والسنة النبوية باليد الأخرى، وغايته تحقيق المدى الرفيع للدعوة الإسلامية وإشاعة الأخلاق الكريمة، والكرامة، والعدالة الإسلامية.

ويستذكر الشاعر المراحل الأولى لنشأة الرسول وكيفية إرضاعه ، ليس على سبيل السرد بل على سبيل تعميق الإيمان في النفوس، وكيف أن الهدى ولد على يد رجل يتيم فقير ، أعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به، ويستعرض بداية الظروف السابقة لولادة الرسول الأعظم، ثم ولادته، وما رافق هذه الولادة من ظواهر تدل على نبوته، يقول:

دفقة النور في ذرى البيت طافت   بعد أن كان مظلم الركن معتم

ولد المصطفى فياسعد قومي         برسول الهدى الرحيم المكرم

وفي موسم من مواسم مكة يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على المرضعات ويستجلي الشاعر من هذه اللحظة إشراقات الغيب، فالنساء اللواتي يعرضن بضاعة (الرضاعة) يطمعن بالثراء، ومحمد يتيم فقير، ليس له إلا الله وتقبله المرضة حليمة السعدية ، صاحبة الحياء، والعفة، قادتها هذه اللحظة إلى إرضاع أحب مخلوق عند رب البرية، يقول:

من ترى ترضع اليتيم وتسعد         وتباهي بلثمها لمحمد

ثغره باسم كإشراقة الصبح وفي         وجهه الصفاءُ تورّدْ

من لهذا اليتيم يالهف قلبي         بحنان ذراعٍ من يتوسدْ

أي حضن ترى سيحنو عليه   أي بيت ترى به سيمجد ؟

وتوارت خلف الرحال نساءٌ     كل أنثى ترجو الثراء وتنشدْ

غير أنثى قد أقبلت بحياء               وخفار وعفة وتردد

هات ياسيدي إلي يتيمي       أنا أرضاه والمراضع تشهد

ويستلهم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم خير ما يتعلم منه المرء المسلم في حياته فمحمد تربى يتيماً فقيراً، تعلم الناس منه الحنان والسخاء وتعلموا منه العدل والمساواة وقد حطم بتعاليم الإسلام الكفر والذل يقول:

يا يتيماً علم الدنيا حنان الأبوين

وفقيراً علم الناس سخاء الراحتين

قد غمرت الكون نوراً يتحدى الفرقدين

وملأت الأرض بالعدل فعمّ الخافقين

حين ساوت بلالاً بعليٍّ أخوين

وحطمت الكفر والذل فدكا صنمين

ويرى الشاعر في سيرة رسول الله وسنته منهجاً سديداً لكل مسلم أراد أن يسير على الإيمان الصحيح ويهتدي بهديه، فهو المثل في الدعوة والجهاد والصبر والتحمل ، والقيادة، وهو القدوة في العزة ورفع راية الإسلام عالية خفاقة يقول:

سلامٌ عليك نبي الهدى     طهور الثرى عاطرَ الأعظم ِ

حملت الأمانة لا تنثني   وروّيت بالنور قلبَ الظمي

وجاهدت في الله حقَّ الجهادِ   وقدت السرايا ولم تُحجم ِ

وأيقظتنا من رقاد القرون     وعلمتنا عزّة المسلم ِ- في رحاب الأقصى: ص155 .

فلو أننا سرنا على دربه، واتبعنا هداه، وسرنا على خطاه لما ضاقت بنا السبل، وانهزمنا أمام عدونا:

رسول الهدى لو تبعنا خطاك   وكنّا مع الله لم نُهزم ِ

الهجرة:

وتحدث عن هجرة الرسول الخالدة التي احتوت على المعاني التي نحن بحاجة لها في وقتنا هذا، فهو الذي هجر الشرك وعاف الصنم وارتقى المعالي، وتحدى الظلم ليرفع راية الله، ويبني صروح المعالي ويجمع كلمة الأمة بعد تفرقها ، يقول:

هجر الشرك وعاف الصنما     وارتقى نحو المعالي سُلما

يتحدى الظلم لا يرهبه       شامخ الجبهة يمضي قُدما

وبه صرح الطغاة انهدما

هجر الشرك وعاف الظلمات   وبنى للناس صرح المكرمات

رفع الراية في ساح الهدى     ومضى نحو المعالي في ثباتِ

يجمع الأمة من بعد شتات ِ

لقد حمل كتاب الله عز وجل لينشره بالدعوة والسيف على حد سواء ويستخرج الأحكام للناس وما يكتنزه من علم يباري به، فيقول:

حمل السيف طبيباً والكتاب   وارتقى يجتاز آفاق السحاب

ينشر الإيمان والعلم معاً     ويباري في العلى شمَّ الهضاب

خصمه بين الورى ولّى وخاب

طلع البدر علينا ودنا     من قلوب خافقات بالمنى

سيد الخلق نبيٌّ صادقٌ   ملأ الأكوان نوراً وسنا

فارفعوا راياته عزّاً لنا

وقد سار معه صحبه على ما عاهدوا الله عليه، ورفعوا راية الإسلام ونشروا الإخاء والوفاء، وأعلوا كلمة الجهاد بسيف الحق، لا يهابون المنايا في سبيل تمزيق الباطل وإعلاء كلمة الحق، فيقول:

حوله الصحب تلاقوا في صفاء     شامخ الجبهة مرفوع اللواء

قطعوا العهد رجالاً ومضوا       وارتضوا عيش إخاء ووفاء

يفتدي كل أخاه بالدماء

رفعوا الراية في ساح الفدى   لا يهابون المنايا والردى

بسيوف الحق في راحاتهم   مزقوا الباطل واجتاحوا العِدى

يملأون الأرض نوراً وهدى

وكثيراً ما يستذكر شاعرنا صورة هؤلاء الصحابة والأخيار، وهو يحفز على الجهاد ويستثير همم المجاهدين فيذكر أبطال المسلمين الذين رفعوا لواء الإسلام وجاهدوا في سبيله، فهذا أبو عبيدة وخالد بن الوليد وجعفر الطيار الذين سطروا في التاريخ مجداً لاينسى، وهذا شرحبيل بن حسنة فهم القدوة التي يجب أن تحتذى في زمن تخاذل الناس فيه عن القتال، فليت الزمان يجود بأمثال هؤلاء لتعود الأقصى تزهو من جديد، يقول:

لقد مضى زمن التخذيل فانطلقي     ياقدس ولى زمان فيه تخذيل

فوق الجباه جراحٌ يالعزتها         قد زانها من دم الآساد إكليلُ

أبو عبيدة يرنو نحو هامتها         وخالد من سيوف الله مسلولُ

وجعفر جاثمٌ كالليث يرقبها           وقد أطل يناجيها شرحبيلُ

قد بتُّ أخشى خيانات تمزقنا       ويقتل الحق في المحراب قابيلُ

متى تعود إلى الأقصى جحافلنا   وقد أضاءت حمى الأقصى قناديلُ

ولا يجد الشاعر من يبث إليه شكواه عن حال الأمة التي وصلت إليه، بعد أن أصبحت القدس هائمة تبحث عن مستقر، وعاث فيها المعتدون إلا الحديث عن سيرة هؤلاء المجاهدين كصلاح الدين، وسعد بن أبي وقاص ، والخليفة المعتصم الذين لم يتوانوا يوماً عن مقارعة الأعداء وحمل السيوف، فهيهات من يلبي نداء الأمة، بعد أن مضى أحرار الحمى، وبقي أشباح العبدان، إذ يقول:

قد عفر الوغد وجهي بالدم القاني       ومزق العلج أثوابي وأرداني

فصحت علّ صلاح الدين يسمعني     أو علّ حيدرة الفرسان يلقاني

أو علّ خيلاً لسعدٍ وهي عادية         ضبحاً تفجر في لبنان بركاني

ورحت أسأل دنيا العرب قاطبةً   من نسل قحطان او من نسل عدنان

أين السيوف التي في كف معتصم صالت على البغي من فرس ورومانِ

فلم تجبني من القعقاع نخوته     ولم أجد في جموع القوم شيباني

واحسرتا أين أحرار الحمى ذهبوا   لم يبق منهم سوى أشباح عبدان ِ- عرائس الضياء : ص 30، 31 .

صورة الحجيج:

يرسم الشاعر صورة معبرة لتلبيات الحجيج، وهم ينشدون عفو الله ومغفرته، ويرجون رحمته ورضوانه يقول:

رب هب لي من فيض نورك نورا     واهتك الله عن فؤادي الستورا

وألن رب ماقسا من فؤادي           فلقاء الحبيب يشفي الصدورا

في حمى بيتك العتيق تعالت               تلبيات تعانق التكبيرا

تنشد الحب والسلام وترجو             أن ينال الحجيج عفواً كبيرا

يا إلهي ويا مجيرَ الحيارى           من ضلال أكرم بربيّ مُجيرا

ويرسم كذلك صورة الطواف بالكعبة وانشغال الناس بذكر الله وتسبيحه، كل أتاه طائعاً يرجو رحمته وغفرانه ملبين دعوة الحق، يقول عز وجلّ : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق..فيقول:

على بساط من الأشواق تلقاني     مواكب النور في طهر وإيمانِ

أطوف بالكعبة الغراء ألثمها           وأذكر الله في سري وإعلاني

وافتح القلب للأنوار تملؤه           فتدمع العينُ أو تخضلّ أجفاني

والناس جولي تسبيح وأدعية         تحيا مع الذكر في آيات قرآن

من كل فجّ عميق طاف طائفهم     يرجو من الله أن يحظى بغفران

ويسترسل في رسم صورة للقلب المنكسرة والدموع المنحدرة التي جاءت ترجو رحمة الله وغفرانه وتتطهر بماء زمزم همها الفوز برضى الله ودخول جناته:

والقلب منكسر والدمع منحدرٌ     ورحمة الله قد حفت بإخواني

شربت من زمزم ماء يطهرني         وقد أذبت به حزني وأشجاني

أن كنت اسأل ربي خير مغفرة   أن يمسح الله بالطاعات عصياني

أو كنت أطمع في مثوى ألوذ به        بأن أفوز بجنات ورضوانِ

ويصف صورة الحجاج في رحلة حج له عام 1406ه ويذكر مناسك الحج وأعماله من التلبية والطواف والصلاة والسعي ورمي الحصى والنحر، وكل هذه الأعمال تتم بروح إيمانية تستشعر عظمة الخالق ويوجه فيه المسلم كل جوارحه لطاعة الله عز وجل ، يقول:

أقبلت بين حجيج         جاؤوك براً وبحرا

في صدر كل ملبٍ       قد أودع الله سرا

بالبيت طافوا وضلوا     وسعيهم كان ذكرا

رموا حصاهم وعادوا     ليتبعوا الرمي نحرا

والكل يرجو ثواباً             ويسأل الله أجرا

لبيك رب البرايا       في الكون كوخاً وقصرا

لبيك نبض فؤادي           لبيك سرّاً وجهرا

لبيك حساً خفياً           وأنت بالسرّ أدرى

لبيك طيناً تهاوى         فاجبرْ إلهيَ كسرا- قناديل في عتمة الضحى: ص32، 33 .

الإيمان بالقضاء والقدر:

يدعو الشاعر إلى التسليم بقضاء الله وقدره، ويستلهم ذلك عندما يصف حالته المرضية وضعف النفس البشرية أمام قوة الله عزّ وجلّ، ويسترسل في وصف صورة الطبيب الذي يعالجه، مستشعراً عظمة الخالق وما أودعه من أسرار في الكون حيث يقول:

مسح الجراح صدري ودعا   حوله الطبّ رهطاً علما

وبرفقٍ غاص في أحشائه   فرأى لحماً وعظماً ودما

ومضى مبضعه مستغرقاً  بجلال الله يجلي السقما

وفؤادي رفّ في راحته     مثل عصفور غفا واستسلما

ذاك قلب الجسم جرح نازفٌ   قد تداعى في الحنايا ألما

صنع ربي مذ براني مبدعاً       وحباني من لدنه كرما

غير أني رحتُ في تهوية       اسأل الله جواباً ملهما

أين قلبُ الروح في أعماقه   سكن الوجدُ به واضطرما

أكد الشاعر حتمية الموت ودعا إلى الاستعداد له، ولعل الناس يأخذون العبرة والعظة منه لتستقيم أحوالهم في الدنيا والآخرة، يقول وهو يخاطب من خشي الموت وأثر الحياة على الجهاد ظناً منه أن الجهاد طريق الموت:

ياشباب الإسلام لا ترهبوا المو      ت وكونوا لشعبكم روّادا

غمر الأرض والسماء ظلام       بددوه وحطموا الأصفاد ا

وامنحوا المجد أنفساً زاكياتٍ      كلما الظالم الغشوم تمادى

لهذا حثّ على ما دعا إليه الإسلام بعدم البكاء على الميت، يقول وهو يخاطب أبناءه ويطلب منهم الدعاء له بالرحمة والمغفرة وعدم البكاء عليه:

أحبائي هذي صفحتي قد نشرتها    فلا تهجروني لست أقوى على الهجر

وأن متّ لا تبكوا عليّ لعلني            أشمّ عبير الروض في وحدة القبر

فإن دعاء الأهل خير من البكا         يُخفف من كربي ويرفع من قدري

وأضرع للرحمن جهراً وخفية         بأن يغفر الرحمن في موقف الحشر!

وفي تأكيده حتمية الموت والدعوة إلى اتخاذ العبرة والعظة من النهاية المحتومة على البشر، يدعو إلى التوجه إلى الله وعدم الاستكبار على مخلوقاته بأسلوب الاستفهام الاستنكاري ، ويحذر من الغفلة التي تضيع العمر، فالحياة ومضة سريعة تجري لايشعر بها الإنسان، وهي سراب خادع، يقول:

فلم الكبر والنهاية دودٌ     يتلوى في كومة من تراب ؟

أيها الغافل المضيّع عمراً   تبتغي العيش في ديار الخراب

إنما العمرُ ومضة وخيالٌ   كلّ مافي الحياة لمعُ سراب

وبما أن الموت هو النهاية، فالمصير المحتوم للبشر إما الجنة وإما النار فهل من معتبر؟ فأهل الجنة والنعيم يسقون الرحيق المختوم والشهد المذاب، وأما أهل النار ففي الجحيم يتولى أمرهم قاض عادل يذوقون ذلاً وهواناً، وما دام الحال كذلك فهل نحن بحاجة إلى الاختيار، فيقول:

إنما المرء صفحة من كتاب     وغداً يلتقي بذاك الكتابِ

فإذا زف للنعيم هنيئاً         ومريئاً يروى بشهد مذاب

والرحيق المختوم يشربُ منه   صُبّ في طاهر الأكوابِ

وإذا زف للجحيم تولى     أمره الحق منصف لا يحابي

كي يذوق للعذاب ذلاً وهوانا   ويلاقي الشقاء من كلّ بابِ

وفي الدعوة للتمادي على الدنيا والاستهتار بها، والاستعداد للموت عبرة للناس لتستقيم أحوالهم، ولهذا يركز الشاعر على صورة القبر يوم ينفرد الإنسان ولا أمامه سوى كفنه ولحده يضمه، إذ يقول:

ماذا أقول إذا أفردت في جدثٍ     وضمني اللحد والأكفان تطويني

يا ضيعة العمر والأيام تخدعني     بضحكة وعذاب القبر يُبكيني

الجهاد:

لقد كان لحال الأمة التي وصلت إليها، وكثرة الهزائم التي منيت بها، وتكالب الأعداء عليها، والصراع الديني القائم بين أمتين : أمة الكفر وأمة الإسلام، أثر كبير في بروز شعر الجهاد والدعوة له والحث عليه، وبيان مكانة المجاهدين والمرابطين في كل البلدان العربية والإسلامية، ومنزلة الشهداء عند ربهم .

ففي فضل الجهاد والدعوة له والحث عليه يستذكر العظم قول الرسوال صلى الله عليه وسلم في الحديث عن مراتب الإسلام وذروة سنامه الجهاد فيقول:

ياجهاداً قد عزّ فينا لواء     وهو في الدين ذروة وسنامُ

كم فتى في حماك عاش عزيزاً   رافع الرأس شامخاً لا يضام

وترغيباً في الجهاد والحث عليه يستذكر الشاعر منزلة الشهداء عن الله يوم القيامة ، إذ أحسن الله مثواهم وأكرمهم في جنات الخلد، لهم فيها ما تشتهي أنفسهم فيقول:

فأحسن الله مثواهم وأكرمهم     وقد كست جمعهم من سندس حللُ

لهم من الله جنات وخضر ربى   غذاؤهم في حماها الخمر والعسل

لا غول فيها ولا تأثيم يصحبها   وليس في شربها عيب ولا وجلُ

أما الذين تمادوا في ضلالتهم     فمن خمور العدى والذل قد ثملوا

فضيعوا دربهم في التيه وانطلقوا   من غير وعي وقد ضلت بهم سبلُ

ونرى الألفاظ الإسلامية تكثر في الأبيات من مثل : الله، سندس، جنات، تأثيم ..ويثني العظم على (المجاهد الحق) الذي هجر رغد العيش وأغفل من حياته الثروة والمكانة والجاه، وعاش في كهف من كهوف الجهاد بقلب طهور ويد متوضئة وعينين لن تمسهما النار أبداً بإذن الله .عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله .فيقول:

بارك الله في الجهاد خطاه     حين لبى الفداء لما دعاه

ففلسطين دربه للمعالي      وحمى المسجد الطهور حماه

طاهر القلب والضمير نقيّ   صادق العهد بالدما يرعاه

وادع كالحمام في حرم البيت     وكالليث يُستباح ثراهُ

حملّت راحتاه ناراً ونوراً   وبه المؤمنون باهوا وتاهوا

فإذا أقبل الزمان توارى         وإذا زاغت العيون تراهُ

لو لغير الإله ذلت جباه     لانحنت عند راحتيه الجباهُ – في رحاب الأقصى : ص 58، 59 .

فهو يدعو بصراحة إلى الجهاد لتحرير فلسطين، واسترداد المقدسات وتطهير الأرض من دنس الأعداء، ويصور في النص المجاهد ويظهره على حقيقته، فعندما يقرن الشاعر صورة الشهيد البهية بما يدعو إليه الإسلام يكون الأثر الشعري أعمق في نفس المتلقي، ويزيد الصورة عمقاً عندما يقرنها الشاعر بصورة العدو القبيحة، ومضمون الصورة هو الدعوة إلى الجهاد للتخلص من الأعداء.

وقد فاضت دواوينه الشعرية بالمقطوعات التي يحسن أن تكون نشيداً جهادياً كما ورد في قصيدته ( رسالة من شهيد) فهي نبض حار ودفاق من نفس عامرة بالإيمان قائمة على مبادئ العقيدة.

يحدد الشاعر بداية موقفه الجهادي بلسان الشهيد في قصيدته، فيقول:  

لا تقولوا لقد فقدنا الشهيدا     مذ طواه الثرى وحيداً فريدا

أنا ما متّ فالملاك حولي   عند ربي بعثت خلقاً جديدا

فاصنعوا اليوم من شموخي نشيدا- عرائس الضياء: ص 16.

قضية فلسطين:

انحصرت اهتمامات شاعرنا في شعره في موضوعين: فلسطين ومقدساتها ومأساة أهلها، والأوضاع الاجتماعية المتردية التي تعيشها أمتنا أو يراد لها أن تعيشها ، ونلمس في أثناء تناوله لهذين الموضوعين شدة اعتزازه بإسلامه وبالرجال الذين حملوا هذا الإسلام للعالمين:

وفؤاد الأقصى الجريح ينادي     أين عهد اليرموك والقادسية

أين رايات خالد وصلاح              وزحوف لطارق وأمية

وعلي يزجي الصفوف ويعلي     في ذرى المجد راية هاشمية

أين عهد الفاروق غير ذليلٍ       عفّ قولاً وطاب فعلاً ونية

ونداء للتائهين حيارى                   أين خنساؤنا وأين سمية

ورماح في كف خولة تزهو           وسيوف في راحة المازنية

وعن الحالة المتردية التي يعيشها اللاجئون يقول:

في خيمة عصفت ريح الزمان بها   لمحت بعض بني قومي وقد سلموا

فأسلموا لنيوب الليث ضارية               البرد والجوع والإذلال والألم

ويرى الشاعر أن عملية إغاثة المنكوبين من أبناء فلسطين بواسطة ماسموه بوكالة الغوث أكبر سبة يرتكبها المجتمع الدولي وأكبر عار يدين دول العالم المتحضر.

ويعتبر الشاعر هذه العملية إذلالاً مقصوداً لشعبنا الأبي خطط له عدونا الماكر الحقود، وقد ساءت شاعرنا مناظر الأطفال والنساء والشيوخ يتحلقون ويتدافعون حول موزعي الوكالة.

فانطلق شعره يصور هذه المأساة، ويؤكد أن شعبنا لن يذل ولن يهون:

وسألت القوم عن ضجتهم     قيل يبغون دقيقاً وطعاما

منكب منهم يحاذي منكباً     وعظام رفعت منهم عظاما

كم كمي عربي ثائر     كبلوا في كفه الدامي الحساما

وجواد عربي قد غدا     يمضغ السرج ويقتات اللجاما

ويقول معللاً سبب النكبة:

جعت في يوم فأرسلت يدي     لرغيف البؤس من خبز الوكالة

ومضغت العار سمّاً ناقعاً               وشربت الكأس ذلاً للثمالة

سلبت أرضي وعاشت طغمة     في ربوعي تدعي روح العدالة

إنما مزقنا أعداؤنا               حين بدلنا الهدى درب الضلالة

ثم يؤكد أن شعبنا لا يرضى بالعودة بديلاً :

نحن شعب قد سلبنا الوطنا     نحن في عري وآلام وجوع

وطعام الغوث لا يشبعنا       نحن لا يشبعنا غير الرجوع

وانطلاقاً من التزام الشاعر المسلم بالمبادئ الإسلامية العظيمة فإن شاعرنا يوجه شعره في الموضوعات التي يتيه فيها الشعراء نحو غايته ويوظفه في خدمة أهدافه، انظر روعة هذا التوجيه في غزله:

ساءلتني في حمانا ظبية     أتحب الشوق في عين صبية ؟

قلت لا أعشق طرفاً ناعساً         وخدوداً وشفاهاً قرمزية

إنما أعشق صدراً عامراً     يحمل الموت ويزهو بالمنية

أدركت سري وقالت ظبيتي   أنت لا تعشق غير البندقية

اهتم يوسف العظيم بقضية المسلمين الأولى ألا وهي قضية فلسطين وكتب أكثر من ديوان عن تلك الديار المقدسة مثل في رحاب الأقصى الفتية الأبابيل وهو أول من كتب عن انتفاضة الأقصى وخلدها بشعر وقديما كتب نشيد فلسطين الذي يقول فيه:

فلسطيني فلسطيني فلسطيني

ولكن في طريق الله والإيمان والدين ِ

أهيم براية اليرموك أهوى سيف حطينِ

تفجر طاقتي لهباً غضوباً من براكين ِ

لأنزع حقي المغصوب من أشداق تنينِ

فلسطيني فلسطيني فلسطيني

قتلت الحقد من قلبي فأنبت زهر نسرين

أحب القدس والجولان أهوى ثلجَ صنين ِ

وأعشق أمة التوحيد والقرآن يهديني

وفي قلبي كتاب الله يسعدني ويشفيني

ياقدس:

يقول الشاعر عن ظروف نظمها في أعقاب صلاة فجر خاشعة ومن أعماق الذكريات في رحاب الأقصى، تناولت القلم لينساب صوراً أليمة، وألواناً متمردة ترفض الخنوع وتأبى الاستسلام:

ياقدس يامحراب يامنبر                يانور يا إيمان ياعنبر

أقدام من داست رحاب الهدى     ووجه من في ساحها أغبر؟

وكف من تزرع أرضي وقد   حنا عليها ساعدي الأسمرُ ؟

من لوث الصخرة تلك التي     كانت بمسرى أحمد تفخرُ ؟

وأمطر القدس بأحقاده           فاحترق اليابس والأخضرُ

ودنس المهد على طهره               إلا عدوّ جاحد أكفرُ

ويستذكر الشاعر سورة الأنفال التي تتناول موضوع الجهاد والرباط فيقول:

ياسورة الأنفال من لي بها       قدسية الآيات تستنفرُ

جنداً يذوق الموت عذب المنى   كالصبح عن إيمانه يسفر

ومن يبع لله أزكى دم        يمت شهيد الحق أو ينصرُ

والبغي مهما طال عدوانه         فالله من عدوانه أكبر

ويتذكر الشاعر يوسف العظم مسرى الرسول ومهد المسيح ويعجب من تبدل الوجوه التقية بالوجه الكالحة الشقية:

ياقدس يامحراب يامسجدُ           يادرة الأكوان يافرقدُ

سفوحك الخضر ربوع المنى    وتربك الباقوت والعسجد

كم رتلت في أفقها آية           وكم دعانا للهدى مرشدُ

أقدام عيسى باركت أرضها   وفي سماها قد سرى أحمدُ

أبعد وجه مشرق بالتقى           يطل وجه كالح أسودُ

وبعد ليث في عرين الشرى يحل كلب راح يستأسدُ؟

وبعد شعب دينه رحمة          يحلُّ من وجدانه يحقد ؟

يا أفرع الزيتون في قدسنا   كم طابت في أفيائها الموعدُ

ويؤكد أن الشعب المسلم لن يسكتين ولن يخلد للذل والهوان:

إن مزق الغاصب أرحامنا     وقومنا في الأرض قد شردوا

فما لنا غير هتاف العلى:               إنا لغير الله لا نسجدُ

وصور المسجد الأقصى وكيف كان يكتب أمجاده بحد السيف، فقال:

القدس في أفق العلى كوكب       تشع بالنور فلا تعجبوا

أيامها بالحق وضاءة     كانت بأطراف القنا تكتب

إن أطرف القيثار أسماعنا   فاللحن في أفق الهدى أعذب

أو حلت الأمجاد ساح العلى     فالمسجد الأقصى لها أرحبُ

والمجد مذ أشرق في قدسنا     ما باله في قدسنا يغرب ؟

ياروضة كانت لنا مرتعاً     وكوثراً من فيضه نشربُ

وجنة فيها ربيع المنى     في ظلها أكبادنا تلعبُ

مذ حل في أفيائها غاصبٌ   ما عاد فيها بلبلٌ يطربُ

من لي بسيف لا يهاب الردى     في كف من يزهو به الموكبُ

أو راية في جحفل ظافر     يقوده الفاروق أو مصعبُ

ويتابع الشاعر يوسف العظم وصفه الجميل للقدس الشريف، التي قدس طهرها الوحي والتنزيل والتوراة والإنجيل، وصور جرحها النازف وكم شهيد راح فداء لها، ثم حث كتائب الإيمان أن تتابع الزحف المقدس لتحرير مسرى النبي صلى الله عليه وسلم:

الوحي والتنزيل والأحرف   والآي والإنجيل والمصحف

وسورة الإسراء ما رتلت           إلا وأسماع الدنا ترهفُ

تبارك القدس وما حولها           وصخرة القدس بنا تهتف

في كل صدر من دمي دفقة         وكل عين دمعة تذرف

إن ضمد الآسي جراح الورى   فالجرح مني راعف ينزف

يادرة في جيد تاريخنا             رباك من كل الربا ألطفُ

كم قد مشت أكبادنا فوقها       من كل روض زهرة تقطف

وكم سقينا تربها أنفساً           أنقى من الياقوت بل أشرفُ

ياقدس مهما باعدوا بيننا       ففي غدٍ جيش الهدى يزحفُ

كتائب الإيمان قد بايعت   لا فاسق فيها ولا مترفُ – شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: ج 4 / ص 18، 19.

ويصور الشاعر جرائم اليهود في القدس من قتل الأطفال والاعتداء على النساء، فيقول:

يا قدس يا أنشودة في فمي       ويا مناراً في ذرى الأنجم ِ

في كل أفق منك تسبيحة           وكل شبر دفقة من دم

وكل روض نفحة من شذى   وماؤك الرقراق من زمزم

وكل صدر زفرة حرة               وكل خدر عفة المبسم

تحنو بقلب خافق بالمنى           على برئ رف كالبرعم

قد أغمض الأجفان في هدأة       وثغره في الثدي لم يفطم

من مزق الطفل بلا رحمة     فمات بين الصدر والمعصم

شظية عمياء من حاقد             ورمية من ساعد مجرم

قد اطلقت هوجاء في غفلة         وحلكة من ليلنا المظلم

ما كان للهامات أن تنحني         لو كان فينا عزة المسلم ِ

ويبقى الأمل والتفاؤل الثوري رائداً عند يوسف العظم فمهما ابتعد عن القدس فإن الحسام لن يسقط من يده، فقضية القدس ماثلة أمام عينية ولن يغفل عنها أبداً :

القدس واللطرون والمنتدى   وبلبل في روضه غردا

وغابة الزيتون يا حسنها   تضوعت زهراً وطابت ندى

في ظلها يحنو على نايه   فتى كريم الكف عذب الصدى

من حطم الناي على ثغره         وشرد السامع والمنشدا

والمسجد الأقصى ومحرابه       يحنو علينا ركعاً سجدا

تحدث الأكوان عن زحفنا         وقد بسطنا للمعالي يدا

وهامة الفاروق مرفوعة       أكرم بها في قدسنا مشهدا

يعلي لواء العدل تكبيره       ويصنع الأمجاد والسؤددا

يا قدس إن طالت بنا فرقة     فسيفنا يا قدس لن يغمدا – شعراء الدعوة: 20، 21.

حقاً لقد كان يوسف العظم شاعراً إسلامياً ملتزماً، التزم مبادئ الدعوة الإسلامية كما التزم هموم أمته، فكتب عن التربية الإسلامية، والدعوة إلى الله، كما كتب القصائد الجياد في المديح النبوي، وأثنى على الصحابة الكرام ومجد سيرة الأبطال وأثنى على الفاروق وخالد بن الوليد وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من سلسلة الذهب، وكان يوسف العظم شاعر الأقصى بامتياز، حيث صوّر آلام شعبها، ودعا إلى الجهاد لتحريرها، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

مصادر البحث:

1-يوسف العظم شاعراً، محمد أحمد الحمايدة: رسالة ماجستير في جامعة مؤتة: ص 44، 80

2-شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: أحمد الجدع، وحسني أدهم جرار: ج 4 / ص 5، 25 .

3-الأعمال الشعرية الكاملة: تقديم أحمد الجدع.

4- يوسف العظم : لمحات من حياته وشعره - يحيى بشير حاج يحيى.

5- شاعر القدس يوسف العظم، الأقصي أون لاين، 5 يونيو 2007م

6- شاعر الأقصى يوسف العظم يوثق لرحيله قبل سنوات، الجزيرة نت، 2 أغسطس 2007م

7- كتاب الداعية يوسف العظم، للمستشار عبد الله العقيل.

وسوم: العدد 895