يسري الغول ومشانق العتمة

 fhgsdhdh953.jpg

"معلقون على مشانق العتمة، نسبح في دوامة التيه، ملابسنا ثقيلة وأرواحنا كذلك".

مفتتح يشي بالكثير مما تبطن الرواية، فبدءا من الاسم "مشانق العتمة" والذي يعد أولى عتبات النص، مرورا بهذا المفتتح، الذي يقود لما هو بعده، مما تحمل الرواية في طياتها وقد حملت بالفعل الكثير.. الكثير، مما يقال فيه وصولا إلى النهاية المفجعة، التي انتهت إليها الرواية، كنت أقف حائرا وفي المخيلة ألف سؤال، ليس أقلها: من أين أبدأ؟

هل أتحدث عن الشكل الكتابي، الذي أشار إليه الكاتب في مقدمة الكتاب، حين قال: "ليس هناك أهمية للترتيب الزماني داخل هذه الرواية، فالأحداث تتشابه وتتكرر بصورة أو بأخرى، كذلك لا مجال لاستنطاق شخوص الرواية بالمزيد فهم لا يحبون الثرثرة". هل أتحدث عن التكنيك الذي نجح في توظيفه على نحو مميز؟ أم أتحدث عن المضمون الذي عرى واقعنا المزري، بجرأة أغبط الكاتب عليها وأشفق عليه، أم أتحدث عن اللغة التي خلت من الخطابية والبكائية، أو التشنج والتنظير، الذي يثار في مثل هذه المواقف.

لكني في نهاية المطاف حسمت أمري وقررت أن آخذ برأي الكاتب، الذي لم ير أهمية للترتيب وأن أحدو حدوه فيما أود قوله، فأصل الأشياء أن يكون الدواء من جنس الداء".

فهذه الرواية التي تقع في نحو مئتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط، مقسمة إلى خمسة فصول، يحمل كل منها اسم أحد الشخوص الفاعلين فيها "هاجر، سراب، هتلر، يونس، ابن رشد" وتحمل مضمونا يسطر هذا التيه والضياع الذي نعيش، بلغة رصينة.. جادة، لا تشوبها التقريرية أو التنظير، الذي تدفع به مثل هذه الأحداث، التي مازلنا مختلفين حولها وإنما جاءت وازنة تخاطب العقل والعاطفة، على لسان تلك الشخوص، التي راحت تروي مآسيها بصدق عاطفي، لا يشوبه تزيد أو انفعال، صدق يجعل القارئ يعيش اللحظة بكل تفاصيلها وبكل ما تحمل من معان ودلالات.

فلقد كان اختيار الكاتب لتكنيك التبويب بأسماء الشخصيات وتركهم للحديث عن ذاتهم والتعبير عن آلامهم، اختيارا ذكيا، سهل عليه آلية التنقل بين الزمان والمكان وحتى تسلسل الأحداث، على النحو الذي يريد ومكنه من مناقشة القضايا التي تمس هذا الواقع الملتبس، بجرأة أكبر ونضج يعبر عن فلسفته ورؤاه الفكرية والسياسية في كل ما يجري ويدور، عبر تلك الشخصيات التي نقلتها بصدق واضح ولعل أحد أبرز النماذج في ذلك هو ابن رشد، الذي كان مثالا حيا لفلسفة الكاتب ورؤاه.

ولكي أضع القارئ في صورة ما يجري الحديث عنه، خصوصا أولئك الذين لم يطلعوا على الرواية، نقول إنها تتحدث عن الواقع المأساوي الذي استجد في العقد الفائت، سواء عندنا منذ انقلاب غزة أو ما حدث في المنطقة العربية، تحت مسمى الربيع العبري، الذي خلف ما خلف من دمار وهلاك ومازال، خصوصا في سوريا الشقيقة، حتى صار الإنسان فيه لا يساوى طلقة رصاص، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "لا يدري فيما قُتل أو فيما قتل" وأصبحت الحريات ضربا من الترف الزائد، أو الكفر الذي يفضي إلى الخروج من الملة، فيما صار الهروب خارج هذا الجحيم مطلبا ينشده الجميع وغاية ما بعدها غاية ولو كان الثمن أن تزهق أرواح في قاع البحار، أو على رمال الشواطئ البعيدة، فيما أصحاب المقامات لا شأن لهم بما يجري، أو كما يقال في المثل الشعبي "العرس عند جيرانهم"

هذه الأشياء وغيرها، شكلت تفاصيل الرواية وجاءت على لسان الشخوص الرئيسين فيها، كما لو كانت منفصلة عن بعضها البعض، لكنها تتصل بخيط أسمه المعاناة والألم ووحدة المصير، فهاجر الفلسطينية المثقفة، تعيش المعاناة في واقع غزة العجيب مع زوجها ابن رشد، المقاوم المتدين المستنير، الذي صنع جسرا من التفاهم والتعايش المشترك، القائم على الاحترام والمحبة، معها، رغم الاختلاف الإيديولوجي الواضح بين الجانبين والذي استمر حتى ساعة وفاته، التي جاءت في ظروف غامضة، تثير الكثير من الشكوك والشبهات حولها وكأني بالكاتب يقول إن الإيديولوجيا لن تستطيع تمزيق هذا الشعب على النحو الذي نرى ونعيش، لو كنا صادقين في نوايانا من أجل العيش معا كشعب واحد، مهما اختلفت التوجهات، لكنه أيضا يلمز ولو من بعيد، أن من يحمل وعيا ناضجا وقرار مستقلا، قد يكون مآله الموت في ظروف غامضة.

أما يونس الشخصية الثانية في الرواية، فهو شاب فلسطيني عاش مع أسرته في السعودية ولكون القوانين السارية هناك، تمنع الفلسطيني من الالتحاق بالجامعات الحكومية، فقد عاد إلى غزة وعاش تجربة الحصار والحروب المتكررة والعذبات التي عشناها جميعا، مما اضطره للمغادرة، فتشاء الأقدار بعد ذلك أن يكون زواجه الثاني من هاجر ورحيله معها مطرودا من السعودية نحو دروب المنفى واللجوء.

سراب فتاة سوريا مثقفة تعمل أمينة مكتبة، تتزوج من ضابط أمن سوري، كان طوال الوقت يوهمها بانه يعمل في سلك الشرطة، بعيدا كل البعد عن مجريات الأحداث التي تدور، لتكتشف بعد حين أنه أحد القتلة الذين يعملون في خدمة النظام، فتقرر الرحيل بعد رحلة من العذاب المستطير، إلى ذات المنافي.

هتلر هو ذات الشخص الذي أشرنا إليه سابقا، والذي انساق خلف نزعته الشيطانية، في الحفاظ على منصبه وإرضاء مرؤوسيه، فصار مجرد آلة لا تعرف سوى القتل والتنكيل اسمها هتلر، بذلت كل طاقتها من أجل ذلك، فكان مصيرها أن تلقى في سلة المهملات، إرضاء لمن هم أعلى منه رتبة ومكانة، فما كان منه إلا الهروب برأسه إلى خارج البلاد والعمل مع أحد المهربين، لتكون النهاية المفجعة والمتوقعة بموت الجميع على أحد شواطئ اليونان.

من خلال هؤلاء الشخوص، ينسج يسري الغول عرى روايته، بفكر ثاقب وفهم ناضج لخطورة المضامين التي يطرحها، بحكم انقسام الناس حولها، خصوصا أولئك الذين يرون لمواقفهم قداسة قد تغلب قداسة الدين، إلا أنه استطاع بذكائه وما ملك من ثقافة وخبرة بدت واضحة في هذا العمل، تخطي حقل الألغام الذي جاس فيه ببراعة واضحة، حتى أننا نرى في عمله هذا نقلة نوعية، ليس على مستوى أعماله السابقة وإنما في مصاف الأعمال التي تناولت هذا الواقع الغريب والتي ستأتي لا حقا.

وسوم: العدد 953