علاقة الرواية الحديثة بالتاريخ

ظهرت الرواية كجنس أدبي نثري حديث بظهور البرجوازية في القرن السابع عشر؛ وقد تطورت الرواية بما فيها الرواية العربية بتطور المجتمع بقضاياه وأحداثه وعلاقاته الاجتماعية. فالرواية استثمرت هذه القضايا، والعلاقات والأحداث، مضامينا لها.عاكسة من خلالها كمرآة هموم الناس، وآمالهم وطموحاتهم وأحلامهم.مازجة بين ماهو واقعي وبين ماهو خيالي، أسطوريا كان أوتراثيا أوتاريخيا.وقدجعلت الرواية في نهاية القرن التاسع عشرمن التاريخ مادة لها، فأسست بذلك مايسمى بالرواية التاريخية.التي كانت لها غاياتها وأهدافها النبيلة التي تسعى إلى تحقيقها.وهوماصرح به جرجي زيدان الذي يعد من المؤسسين العرب للرواية التاريخية حيث " أعلن صراحة بأن الغاية من وراء قصصه التاريخي هي تعليم التاريخ من خلال أسلوب شائق وذائب حتى يتغلب على جفاف المادة وجهامة المعلومات التي يقدمها للقراء"1. وإذا كانت الرواية التاريخية قدمت أحداثا وسيرا، وشخصيات تاريخية من أجل التعريف والإشادة بها لدى القارئ، أومن أجل الحفاظ عليها من النسيان. فإن الأمر مع تطور فن الرواية وتطور رؤية الروائي للبناء الفني للرواية ومضامينها صار مختلفا، فلم تعد الرواية تقدم التاريخ بأسلوب السرد ومكوناته، وإنما صارت تعيد النظر فيه خاصة الهامشي منه والمسكوت عنه، فنظرتها هذه للتاريخ بعين الشك والنقد والريبة، دفعتها إلى إعادة النبش فيه من جديد .عاملة على استثماره بشكل تخييلي أوتأويلي أوتآرخي. والتخيل التاريخي، وتأويل التاريخ، والتآرخ هي مفاهيم، وتصورات حديثة ارتبطت بتطور الرواية نفسها وتطور رؤية الروائي ومرجعياته الثقافية.ذلك أن الروائي عمل على إعادة تقديم الأحداث التاريخية بصهرها وتعصيرها، وتأويلها، بعد التحرر من القيود العلمية والنظرية التي فرضتها الكتابة التاريخية. فالكثيرمن الكتابات الروائية كما يرى مجموعة من الباحثين كالباحث عبدالله ابراهيم، وحلمي محمد القاعود وفيصل دراج وعادل العناز وغيرهم عادت إلى استثمار الخطاب التاريخي بدل خطابات أخرى، كما لوأن الرواية تعيش نوع من "الردة والتمرد على الخطابات الأخرى"2أي الخطابات الواعية والاجتماعية والسياسية والنفسية والدينية. حيث جعلت الرواية من الخطاب التاريخي مادة لها لكن ليس بالمعنى الذي وقفنا عنده في الرواية التاريخية مع جرجي زيدان وغيره.وإنمابالمعنى الحديث الذي تمتح فيه الرواية من التاريخ باعتباره مصدر إلهام بارز للأدباء، والفنانين. بما يحمله من تجارب إنسانية وكونية متنوعة.يعيد استثماره الروائي بشكل تخييلي بعيدا عن تخييل المؤرخ .فالمؤرخ وإن خيل يظل متحركا في مجال المرجع أما الروائي كما يرى الباحث عبدالله ابراهيم "فإنه وإن رجع إلى الواقع ماضياأوحاضرا يظل خطابه مندرجا في حقل التخييل"3. ولأن المؤرخ يقول قولا سلطويا "نافعا (...)يهمش تاريخ المستضعفين ويوغل في تهميشهم إلى تخوم تزوير الحقيقة وإعدامها، عمل الروائي على استدعاء المؤرخ وطرده لأكثرمن سبب"4ولهذا يقوم الروائي العربي بتصحيح ما جاء به المؤرخ، وبذكر ما امتنع عن قوله. مؤكدا أن الكتابة الروائية،علم التاريخ الوحيد، أو كتابة موضوعية تسائل ما جرى دون حذف أو إضافة .فتوظيف الروائي للأحداث والوقائع التاريخية يختلف عن توظيف المؤرخ لهذه الأحداث، ذلك أن علاقة الرواية بالتاريخ تخضع إلى نوع من التعالي transcendence المتبادل الناتج عن طبيعة التمايز الوظيفي التي تفصل بين التاريخ والرواية، حيث يلتقيان في خاصية السردية ويختلفان في منطقة الواقعي والمتخيل، والرسمي والهامشي، والحقيقي والنسبي.فالخطاب التاريخي يحاول أن يتعالى على الرواية بادعائه أنه يمتلك الحقيقة حقيقة الأحداث، والوقائع الماضية المعززة بالعلم والمنهج والحجج، أما الخطاب الروائي فيتعالى على الخطاب التاريخي عن طريق اهتمامه بالمسكوت عنه في الخطاب التاريخي أوبمن همشهم التاريخ سواء كانوا شخصيات أو أحداث وبمحاولة الإجابة عن السبب الذي من أجله تم تهميشهم مثال الرواية الصادرة مؤخرا رواية "وادي اللبن " لعبداللطيف محفوظ. أو بإعادة توظيف تلك الحقائق الماضية والرسمية بشكل تخييلي أوتأويلي. فلم يعد التاريخ كما أجمع على ذلك النقاد وحده من توكل إليه عملية تأريخ الأحداث الكبرى للعصور والفترات السابقة، بل زاحمته الرواية ونافسته بقدرتها على احتواء تعدد الخطابات في متنها. ومنه الخطاب التاريخي بقدرتها التخييلية والإبداعية مثال على ذلك رواية" الموريسكي" لحسن أوريد.حيث تتميز الرواية بقدرتها على صهر وتأويل التاريخ في قالب الرواية بطريقتها التخييلية الفريدة.خاصة التاريخ المنسي، تاريخ المهمشين المسكوت عنه. فلم تعد الرواية تأخذ من التاريخ فقط. بجعله مادة أساسية لها، كما كانت تفعل الرواية التاريخية قديما. وإنما صارت تعيد إنتاج هذا التاريخ وذلك عبر اعتماد سردي إبداعي تخييلي مخالف للسرود التاريخية القديمة " إذ لا يعتمد السارد أثناء تحبيك الأحداث الروائية إلا على قدرة المخيلة في النظر إلى التراث وتأويله حكائيا على الوجه الذي يكون به التاريخ متحررا من القيود النظرية للكتابة التاريخية من جهة، ومن سطوة المركز من جهة ثانية إذ يقف الروائي والمؤرخ كل من الآخر، موقف الشك والريبة، ربما كان من الأصح أن نقول إن أسبابا كثيرة وتقاليد عديدة راسخة تجعل كل منهما الطرف النقيض والمضاد للآخر" 5

عبدالرزاق اسطيطو

الهوامش:

1-الدكتور حلمي القاعود _ الرواية التاريخية في أدبنا الحديث ( دراسة تطبيقية )–دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع _ ط2 _سنة 2010ص 45.

2-عادل العناز التمثيل التأويلي للتاريخ في الرواية العربية دائرة الثقافة الشارقة الاصدار الأول الدورة 22-2018 ص8.

3-د. عبد الله ابراهيم التخيل التاريخي السرد _ والامبراطورية والتجربة الاستعمارية._المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 سنة 2011 ص9

4- فيصل دراج "الرواية وتأويل التاريخ " نظرية الرواية والرواية العربية " المركز الثقافي العربي _ الدار البيضاء _ المغرب _ بيروت لبنان ص 6.

5- عادل العناز التمثيل التأويلي للتاريخ في الرواية العربية دائرة الثقافة الشارقة الإصدار الأول الدورة 22-2018 ص47

وسوم: العدد 999